جميل حمداوي - الشعر الأمازيغي بين الشفوية والتدوين..

1- المرحلة الشفوي

يقصد بالشعر الشفوي ذلك الشعر الذي يعتمد على الحفظ الذهني والارتجال العفوي وسرعة البديهة واستخدام الرواية في نقل الشعر من جيل إلى آخر دون الاعتماد على الكتابة والتدوين. ويستند أيضا إلى الذاكرة الفردية والجماعية في نقل الموروث لذلك غالبا ما يأتي هذا الشعر تعبيرا عن لا شعور جمعي ووعي جماعي مشترك. وقد تكون الشفوية ميسما للثقافة الشعبية أو الثقافة العامية بينما الكتابة تكون أسا على التحضر والرقي والازدهار الفكري والفني مثل تلك الإشكالية الفلسفية: العقل "الحضارة والكتابة" والطبيعة " البدائية والشفوية". وقد سببت هذه الشفوية في ضياع كثير من الإنتاجات الإبداعية والثقافية. وهذه الخاصية الشفوية ليست عيبا يلتصق بالأدب الأمازيغي فقط، بل عرفت عند الحضارات السابقة التي وصلت قمة في العطاء والإنتاج الفكري والفني والعلمي كالحضارة اليونانية والفرعونية والحضارة العربية التي ضاع منها في الجاهلية كثير من الأشعار والإبداعات النثرية والعقلية. كما أن الشفوية مرحلة أساسية لابد أن تمر بها أية أمة أو حضارة على غرار مراحل خلق الإنسان حتى يستوي عودها عن طريق الكتابة والتدوين.

وعندما نتحدث عن الشعر الأمازيغي فمن أهم ما يقال عنه أنه شفوي بسبب الإهمال والاضطهاد والتهميش والإقصاء والأمية وعدم معرفة الكتابة التي كانت حكرا على المثقفين والطبقات الاجتماعية الراقية وأصحاب السلطة والنفوذ. وقد ترتب عن هذا ضياع كثير من التراث الثقافي والإبداعي ناهيك عن عدم توظيف اللغة الأم في التسجيل والتدوين كما وقع للإرث الأمازيغي الشعبي والعامي. ولا يعني هذا أنه لم يكن هناك أشعار أمازيغية مدونة، بل وصلت لنا نصوص كتبت إما باللغة اللاتينية وإما باللغة العربية ولاسيما في العصور الوسطى. ومن هذه النماذج نذكر" شعر سيدي حمو السوسي المتعدد الأغراض، الذي يرجع عهده إلى القرن الثاني الهجري ( عمر أمرير)، والشعر الديني التعليمي لمحمد أوزال من القرن الثالث عشر الهجري، وشعر السي موحند القبائلي من القرن التاسعىعشر الميلادي(LES ISFRA DE Si Mohand)، وهوشعر ذو نفس فلسفسي؛ وشعر تاوگرات الملحمي(Taougrat) من أوائل القرن العشرين؛ وعدد من القصائد المتفرقة لشعراء مختلفين من القرن العشرين أيضا."

وإذا كان التدوين الشعري قد عرف طريقه عند شعراء القبائل وسوس والأطلس المتوسط منذ القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فإن الشعر الريفي لم يعرف التدوين إلا منذ عقد السبعين من القرن الماضي. ويعني هذا أن الشعر الريفي ظل شفويا رهين الذاكرة والحفظ الذي طبعه بالزيادة والنقصان والتغيير من راو إلى آخر.

ولم يبدأ الشعر الأمازيغي في تحريك ذاكرته إلا مع مطلع القرن العشرين مع الغزو الإسباني لمنطقة الريف حيث ارتبط بكل الأحداث التي عرفتها المنطقة حتى مرحلة التدوين والكتابة.

وقد ارتبط الشعر الأمازيغي الريفي بالغناء والرقـص ( رقـصة ءيمـذيازن) والموسيقى والاحتـفال( الأعراس والعقيقة ) علاوة على ارتباطه بالأعياد الدينية كالمولد النبوي وأيام الصيف والحصاد وليالي السهرات وأيام الأفراح والأتراح وأثناء عودة الحجاج والحفلات الطقوسية مثل " شارح ماجاح". كما كان هذا الشعر يشارك فيه الفلاح والراعي والعامل البسيط و الشاعر أو ما يسمى بأمذياز والمرأة والشابة والمجند والشيخة و العجوز. وكانت تردد الأشعار في البيوت وفناء الدار" رمراح" والأضرحة والزوايا والمساجد وساحات القتال والأرض وأماكن الاحتفال وبلاد الغربة. وغالبا ما كان الليل هو وقت الإيزري والإنشاد وخاصة في ليالي الصيف بعد انقضاء الهجيرة واستراحة الناس وتجمعهم حول مائدة الشاي أو الطعام أو العشاء.

هذا وقد امتاز الشعر الشفوي الأمازيغي بعدة خاصيات يمكن اختزالها فيما يلي:

1- إنه شعر المقاومة والجهاد إذ صور مقاومة محمد الشريف أمزيان ومحمد بن عبد الكريم الخطابي؛

2- إنه شعر التراجيديا أو المأساة عندما صور الحرب الأهلية بكل فظاعتها ومرارتها المرعبة، وعندما صور سنوات الفقر والمجاعة والجفاف؛ وعندما صور لوعة الاغتراب الذاتي والمكاني.

3- إنه شعر اجتماعي عندما صور علاقة الرجل بالمرأة ولاسيما عاطفة الحب والتشبيب الغزلي.

وسوف نحاول عرض بعض الشواهد الشعرية التي تعبر عن لحظة من هذه اللحظات الذاتية والموضوعية قصد معرفة سمات الإيزري الدلالية والفنية والمرجعية:

أ‌- شعر المقاومة:

1- مقاومة محمد الشريف أمزيان:

صور الشعر الأمازيغي بالريف مقاومة محمد الشريف أمزيان ضد الإسبان الذين استهدفوا استغلال خيرات البلاد واستنزافها وخاصة رغبتهم الملحة في الاستيلاء على مناجم وكسان وإحارشاون وأفرا بعد أن تفاوضوا مع الخائن بوحمارة مقابل أن يمدوه بالمال والأسلحة لمواجهة السلطان مولاي عبد العزيز.ويقول الإيزري في هذا الصدد:

ءاذران وكسان يازانزيث محمد

يابناذايس ءورومي[ii]

لكن الشريف أمزيان سيواحه العدوين معا كما يقول الشاعر:

ءيصوظاد ءوصاميذ ذي ثغالاشت ءورومي

ءيناداد خاس ءارابي ءاقارعي ياوادي

نتا سيذي محند ءيد جاهذان ءارومي[iii]

وقد قام المجاهد بالقضاء على بوحمارة ثم عرقل السكة الحديدية التي كانت الشركات الإسبانية تحاول مدها عبر منطقة بني بويفرور قصد الوصول إلى وكسان، وأبدى المجاهد شجاعة كبرى في جهاده ضد الأعداء كما يجسد ذلك هذه الأشعار:[iv]

ءايارقايذ ءامزيان ءيجاهذان سانياث

سيذي محمد ءامزيان ءايا مجاهد ءاحوري

ياشاثان سوزارماظ ءيتعاوذاس س- ءوفوسي

ياجا ماوسا ن- حذيذ ثاسراقا ثي ماسي

وكان موت الشريف بالنسبة للريفيين مأساة وفاجعة؛ لأن الشريف بطل من الصعب تعويضه في تلك المرحلة الحرجة. لذلك نجد أهالي قلعية يبكونه حرقة ولوعة ولاسيما بنت الشريف حلومة:[v]

سيذي محمد ءيموث غاروعاشي

ءيكسيذ ءورومي ياكسيث ذي كاروسا

ءيواظ غار ءوزروهمار يوثا ذي كانيطا

ءومي دغايا وكحان ءاكوحاند ذي خمسا

ثرقاثاند حبيبا ثناسان ماني ءيجا بابا

ناناس بابام قايموث ثانغيث حاراقا

ءومي ذا سسثغاينين ثاسغوي ءوشاثوظا

ءيقيم ءوور ذابارشان ءيخبشيث ءومطار

2- مقاومة محمد بن عبد الكريم:

وبعد موت محمد الشريف أمزيان ستندلع حرب تحريرية شاملة بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي التي خاضها ضد الإسبان الذين حاولوا التوسع في منطقة الريف لاستعباد الريفيين وإذلالهم ونهب خيراتهم. ولكن عبد الكريم انتصر عليهم في عدة معارك كمعركة جبل العروي وأدهار أبران ومعركة أنوال. وقد عبر الشاعر الأمازيغي عن جهاد عبد الكريم خير تعبير:

عبد كريم أيا رياز ثياريازن

واريتوگذ ءيذورار وارثقهارن ءايراذن[vi]

وصور هذا الشعر معركة أدهار أبران التي حوصر فيها الإسبان حصارا شديدا وقتل الكثير من الجنود وهرب من هرب، وقد استشهد كثير من المجاهدين الريفيين في سبيل تحقيق النصر على الأعداء المتغطرسين:

أيادهار ءوبران أياسّوس ن- يخسان

ءو زايك يغارّن أزايس يغار زمان

ءاخشّغد ذي خمسين أذوارغ ذي ستا

ماش غاگغ ي- خدوج خمي ذاي دغا ثرقا

خمي ذاي غاثيني موح ماني يكّا[vii]

وكان عبد الكريم مفخرة للجميع إذ لقب بأسد الريف وبالمجاهد الكبير، وصار بطلا وطنيا وقوميا وعالميا تتخذ خططه العسكرية دروسا في النضال والكفاح المستميت:[viii]

عبد كريم يغرا ذي فاس لحروز نتافلاّس

ءاسعاذ ءومي يعنا ءاسعاذ ءومي ديتاس

هذا ما يمكن قوله باختصار وجيز عن شعر المقاومة بالريف والذي رصده الإيزري الشفوي بكل عفوية وصدق، وقد نقلته الذاكرة الجماعية وراحت تزيد فيه تارة أو تنقص فيه نسيانا أو تخييلا.

ب‌- شعر الحزن و المأساة:

1- المشاركة في الحرب الأهلية:

انطلقت الحرب الأهلية في إسبانبا سنة 1936 وانتهت في سنة 1939، وكان الصراع إيديولوجيا وسياسيا بين اليمين الذين يمثلهم الجنرال فرانكو واليسار الاشتراكي الذي كان يدافع عن الشيوعية. وقد زج بالريفيين في هذه الحرب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل تحت ظغوطات فرانكو وإغراءاته ووعوده العرقوبية الخادعة. وقد دفع فرانكو بشباب الريف في هذه الحرب الضروس، ويصل عدد المجندين أكثر من 268.162.[ix] ومن أسباب قبول الريفيين للمشاركة في هذه الحرب الخاسرة هو الفقر والجوع والجفاف وليس كما قال بعض الدارسين[x] (عبد الخالق الطريس والمكي الناصري) لأسباب وطنية ودينية وللقضاء على الشيوعية؛ لأن الشعر كان خير دليل على ذلك:[xi]

نشين نورا نازوا وادنجي بو ثزواث

ءاقاوم ثمورث ناغ ءازون ذايس ثازگاث

ءاثمغارث ءوبوليس ءيحثشن شارغيور

زمان توغا ثحجب يظا ثحتش ءيواغيور

ويصور هذا الشعر كذلك العدد الكثير من الريفيين الذين أرغموا على الذهاب وهم لا معرفة لهم بما ينتظرهم من الموت خاصة أن معظمهم لا دراية لهم باستخدام الأسلحة:[xii]

أغربو ن- جذيذ فرگاطا خ- ءوغزذيس

ءاذ يصبار ءاربي مين ذايس ذا بوليس

أسبانيا ثيرفت ءويصبحان ثيوشث

ثجيذ ءيوسرا زنوزان ثاهنداشت

أوما مرمي يورا ءوما مرمي ينيا

ءوما مرمي ينا لا يهنيك ءايما

من خلال هذه الأبيات الشعرية، نستخلص أن عدد الجنود المرسلين إلى ساحة الحرب كان عديدا، وأن إسبانيا لم تختر إلا الشباب القادر على العمل وتركت الشيوخ العاجزين عن العمل تنهشهم البطالة والمعاناة. وقد أخذهم فرانكو بسرعة فائقة دون أن يروا عائلاتهم في سفن عسكرية، وهم لا يعرفون استخدام الأسلحة ولا مصيرهم الذي ينتظرهم وهو الموت المحتوم كما عبر عنه الشاعر:

ءابيس ءابياس نم ثگذ خاس رمظماث

نشين نورا نزوا غاسبانيا ءانماث

ءابيس ءابياس نم ءاعذراس ءازيار

ءايا بوليس ماذرار ولاّه عمرو يظهار[xiii]

أما نتائج الحرب فكانت وخيمة، فأغلب الذين شاركوا في هذه الحرب لقوا حتفهم حيث تذكر المصادر أن عدد القتلى فقط بلغوا 165.000 [xiv].، دون أن ننسى المعطوبين والجرحى والمفقودين...وفي هذا يقول الإيزري يصور بشاعة الحرب بشكل جنائزي ملتقطا مأساة المجند الريفي بينما الزوجة لا تبالي بخطورة الموقف وتسرف على نفسها:

أثمغارث ءوبوليس مايتعجيبام ءوغي

ءاقام ءارياز نم سبعيام وارينضير

ءاثمغارث ءوبوليس شفايام زي رمسمان

ءاقام ءارياز نم ذي سبانيا يسمم

أسبانيا ثيرفت مين يرقا ذسوس

ءاحد يكساس ءوظار ءاحد يكساس ءوفوس.[xv]

يبدو لنا أن هذا الشعر مأساوي وتراجيدي يبين معاناة الإنسان الريفي في تكيفه مع الواقع وما قام به الاستعمار من استغلال واستلاب وتذليل لهذا الإنسان الأمازيغي الذي يعرف عنه بحبه للحرية و الكرامة والكبرياء والأنفة.

2- شعر الغربة:

لقد عرفت منطقة الريف منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن جفافا مما أثر على النواحي الفلاحية والاقتصادية ناهيك عن كون المنطقة جبلية من الصعب تفليحها. وترتب عن هذا أن هاجر كثير من أهل الريف إلى الجزائر والشمال الغربي والجنوب نحو فاس ومكناس وزرهون... وبعد ذلك ستكون الهجرة نحو أوربا. لكن الشعر الأمازيغي صور لنا غربة المهاجر الذاتية والمكانية والمعاناة التي كان يعانيها وهو بعيد عن أهله وزوجته وأولاده أو عشيقته:

ءيوا روح ءيوا روح رامي زايي ثسخيذ

سبعا يذورار ناريف ويغا ذايي ثجيذ

ءاثزيزويت ءاوشما ما ثهذيذ لوبييث

ءاذهذيغ شار ن- وبريذ ءورا رغروبييث

ءاربحار ءاربحار ءاغارابو سنج

ينايي العزيز ويغا يراحن ءاشم ياج[xvi]

بعد هذه المعاناة الاغترابية التي كانت تنخر الشاعر المهاجر وتنخر كذلك زوجته التي فارقها ننتقل إلى شعر المجاعة والجفاف:

3- شعر المجاعة والجفاف:

قلنا سابقا بأن الريف عرف سنوات من الجفاف ولاسيما في الأربعينيات من القرن العشرين حيث دام الجفاف أربع سنوات كالحة. وقد ساد الفقر والمجاعة وانعدمت الضيافة والقرى ودفع بالناس إلى أكل النباتات والحشرات والحيوانات والتراب لعل ذلك يزيل عنه الجوع مؤقتا. وفي هذا الصدد يقول الإيزري:

ماواذا وايعقرن ءيوسگاس نّي يعفان

رامي ينقظع رعاروظ وايتيذف حد غاواخام

زگامي نجا وارنشي ءافقوس

ءومي دغاس غانكار نكار غارس ءاقطوس

ءينايي حرحر ءينايي بربر

ييويد كيلو ن- درا يوگي ءاذينفثر[xvii]

تصور هذه الأشعار بكل صدق وحقيقة ما آل إليه الإنسان الريفي إبان سنوات الجفاف حيث لم يجد ما يقتاته سوى العشب والحشائش مثل الحيوانات وهذا راجع إلى سيطرة الاستعمار على المنطقة ونهبه لثرواتها ولاسيما الفلاحية والمعدنية الموجهة إلى ساحات القتال في إسبانيا.

ج- شعر اجتماعي:

1- علاقة المراة بالرجل:

كانت المرأة في منطقة الريف ذات مكانة كبيرة ومحترمة تشارك زوجها في الجهاد والمعارك التحريرية وتساعده في الحقل والرعي وكل الأعمال التي لا تخدش كرامتها وأنفتها وعرضها. وكانت المراة ممتنعة ومعتزة بنفسها من الصعب أن يراها الرجل إذ كانت تحتجب في بيتها طول النهار. وقد سبب هذا للرجل الريفي كثيرا من التخييل الرومانسي العاطفي الوجداني. فها هو الشاعر الحبيب يدعو عشيقته للوفاء بالعهد وأنه سيبقى وفيا مخلصا لها:[xviii]


ءارواح ءانمعاهذ سادو ءوزرو ذ- شار

رعاهذ غايخذعن وارغاس بوواوار

وكان الشاعر الريفي كثير البكاء على حبيبته، لا يستطيع الصبر وتحمل لواعج البكاء، وفي هذا يقول:[xix]

ءاذتروغ ءاذتروغ ويغارقيغ ءاثسروغ

سيذي موذروس ءينو ماش غاگغ ءاثتوغ

وهذا يذكرنا بالغزل العذري في الشعر العربي القديم كما نجد لدى جميل بن معمر وقيس لبنى وكثير عزة....

وقد يعجز الحبيب عن التقدم إلى حبيبته بسبب فقره وعوزه لذلك يطلب من أمه أن تستعطف عشيقته لعلها ترضى به كما هو:[xx]

ءارمان ن- سفري ذي رعراصي يفري

ئيخسيشم ءورينو واغاري ما يــــــنزي

وكانت المراة أو الشابة تخرج إلى النهر أو الوادي أو العين لتجلب الماء أو تقوم بغسل أوعيتها وملابسها فإذا رآها المار كيفما كان سنه فإنه سيسقط عشيقا لا محالة لجمال المرأة الريفية وامتناعها العنيد عن اللقاء وحفاظها على عرضها، ويقول الشاعر:[xxi]

ثحنجاث ثمازيانت ثقارايي خالي

ءاتاوييغ وزماغ ءاتجاغ ثانغايي

هذا هو الغزل في منطقة الريف، فقد كان عفيفا وعذريا لا مادية فيه ولا إباحية ولامجون ولا استهتار ماعدا ذلك الشعر الذي رأيناه بعد الاستقلال مع بعض الشعراء أمثال ميمونت ن- سروان وفريد الناظوري الذي استعمل للتكسب والارتزاق واللهو والمجون.


٭ خصائص الشعر الشفوي القديم:

يلاحظ أن الشفوية معيار لتقسيم الشعر الأمازيغي في الريف إلى شعر قديم " الشعر الشفوي" وشعر حديث" الشعر المكتوب أو المدون". كما أن هذا الشعر تغلب عليه وظيفتان أساسيتان وهما: الوظيفة الانفعالية التعبيرية عندما يبوح الشاعر بعواطفه ومعاناته وآلامه واغترابه الذاتي والمكاني ويصور لواعج الشوق والهوى والحب، ووظيفة مرجعية تتمثل في نقله للواقع بصورة أمينة وصادقة واختياره للمواضيع التي يواجهها الإنسان الريفي في واقعه، أي أن الشاعر الأمازيغي ابن بيئته البسيطة. لذا يعبر عنها بكل تلقائية وطوعية وطبع وارتجال سليقة معتمدا في ذلك على الإيزري أو البيت المستقل المفرد على غرار الشعر العربي الفصيح الذي يرتكز على استقلالية البيت في نظمه وتركيبه وإيقاعه.

ويستند الإيزري في عمومه إلى إيقاع لايارا لايارا لايارا لابويا وهو إيقاع سداسي المقاطع على غرار البحر الطويل في اللغة العربية أو البحر الأسكندراني في الشعر الفرنسي. كما أن الصور الشعرية واضحة منتزعة من البيئة المادية الحسية تستند إلى جمالية القافية والتوازي والتكرار الصوتي وخاصة حرفي الذال والثاء والتكرار اللفظي والازدواج القائم على التوازي والموسقة المقطعية.

ويلاحظ كذلك أن هذا الشعر له عدة قيم، منها القيمة التاريخية أي أن الإيزري وثيقة لابد من الاعتماد عليها لاستخراج المعطيات التاريخية واستقراء الأحداث لاسيما أن تاريخ المنطقة ضائع بسبب انعدام الوثائق المكتوبة ماعدا الوثائق الكولونيالية التي لها أهداف ودوافع استعمارية غير موضوعية. لذلك تبقى الوثيقة الشعرية خير معبر عن تاريخ منطقة الريف من خلال تجسيد معارك المجاهدين الريفيين ضد الإسبان في عهدي: محمد الشريف أمزيان ومحمد بن عبد الكريم الخطابي وتصوير الحرب الأهلية الإسبانية التي شارك فيها المجندون الريفيون لمناصرة فرانكو رغبة في لقمة الخبز والعيش الآدمي. كما أن هذا الشعر وثيقة اجتماعية تعكس ظاهرة الهجرة والاغتراب وعلاقة الرجل بالمرأة وطبيعة الإنسان الأمازيغي بالريف. كما أن له قيمة جغرافية إذ يعكس لنا صعوبة تضاريس الريف التي تتكون من جبال وهضاب وتلال وعرة ناهيك عن وديان وأنهار بيد أن المنطقة تتعرض كثيرا للتقلبات المناخية مما يسبب ذلك في الجفاف والمجاعة والفقر ويؤثر ذلك على الإنسان الريفي وعلاقته بالآخر. ولا ننسى القيمة الأخلاقية والدينية التي يشير إليها الشعر، فالأمازيغي محافظ على عرضه ومتدين ويكرم الضيف ويقدر المرأة ويجاهد في سبيل الله والوطن، ولا يرضى بالذل والعار والمهانة ولا يحب الكسل والبطالة، يهاجر بحثا عن العمل لإعالة أسرته وأهله. إن شعر إنساني مرتبط بالفطرة والسجية المطبوعة والذاكرة الفردية والجماعية. ويقوم كذلك وهو الأهم على الإنشاد والرقص والموسيقى.

2- مرحلة الكتابة والتدوين:

تعتبر فترة السبعينيات مرحلة التدوين والكتابة في منطقة الريف إذ استثنينا كتابات المستمزغين الأجانب مثل كتابات بيارناي BIARNAY، ومن أسباب ذلك ما قامت به الأحزاب السياسية اليسارية من تشجيع للأمازيغية كحزب التقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي، كما قامت الحركات الثقافية الجمعوية بتنشيط الحقل الثقافي الأمازيغي ولاسيما الانطلاقة الثقافية التي نظمت مهرجانات شعرية أمازيغية كالمهرجان الأول الذي عرف بالشعر الأمازيغي بمنطقة الريف. وساهمت الجامعة كذلك بدور كبير في توعية شباب المنطقة وخاصة طلبة فاس ووجدة الذين أعدوا أبحاثا ورسائل جامعية سواء داخل المغرب أم خارجه ( فرنسا- إسبانيا- هولاندا...) للتعريف باللغة الأمازيغية وتراثها الثقافي والحضاري على ضوء مناهج أكثر حداثة وعصرنة ونذكر على سبيل المثال: الدكتور محمد الشامي، والأستاذ قاضي قدور....

وقد نتج عن كل هذا ظهور مجموعة من الفرق الموسيقية على غرار ناس الغيوان وجيل جيلالة والمشاهب مثل: بنعمان وإسفظاون ورفروع وإيريزام وإثران... أو حركات فنية فردية مثل الوليد ميمون...

وساهم هذا النشاط الفني والثقافي في تحريك عجلة الشعر الحديث وتطويره حيث بدأ يستلهم تجارب النصوص العربية المعاصرة والعالمية مستعملا تارة الشعر الحر وتارة أخرى الشعر العمودي عن طريق توحيد القافية. كما عرفت القصيدة أنماطا وأجناسا أدبية أخرى كالقصيدة الغنائية والقصيدة الجدلية والدرامية والقصصية والأسطورية...

وتناولت هذه القصيدة عدة تيمات موضوعاتية كالهوية والأرض والحب والمعاناة والغربة والتهميش والوطنيات والقوميات والإنسانيات... وصارت قصيدة الالتزام والثورية والواقعية. ولم تكتف هذه القصيدة بتصوير الواقع فقط، بل نددت به تعرية وانتقادا على جميع المستويات قصد بناء واقع ممكن أفضل من الأول. وبدأت اللغة تتخذ أبعادا رمزية وإيحائية، وصارت الصورة الشعرية أكثر تخييلا من سابقتها في مرحلة الشفوية، وحلت القصيدة محل البيت المستقل وأصبح الديوان يضم بين دفتيه قصائد الشاعر محققا بذلك الوحدة الموضوعية والعضوية التي افتقدت مع البيت المستقل أو الإيزري. بيد أن الشعر المدون والمطبوع في دواوين شعرية واجهته مشكل الكتابة، فهناك من اعتمد الحرف العربي كسلام السمغيني وسعيد الموساوي وآخرين.... وهناك من اعتمد اللاتينية كفاظمة الورياشي ومايسة رشيدة وميمون الوليد ومحمد شاشا.... وهناك من زاوج بين العربية وتيفيناغ كما نجد لدى سعيد أقضاض في ديوانه " تيقت".

وقد ساهم بعض النقاد في دراسة الشعر المدون في منطقة الريف ومواكبته نقدا وتقديما مثل: الدكتور جميل حمداوي والدكتور حسن بنعقية والأستاذ عبد الله شريق وفؤاد أزروال ومحمد الولي والدكتور مصطفى الغديري والمصطفى البوزياني والأستاذ محمد أقوضاض

وما يلاحظ أيضا على الشعر الأمازيغي بالريف أنه حقق تراكما لابأس به على مستوى الإنتاج بالمقارنة مع نظيره السوسي والشلحي بفضل غيرة أبناء المنطقة من مبدعين ونقاد ودارسين...

ويعد ديوان" ماتوشيذ ءاك رحريق ءينو/ هل تشعر بألمي"لسلام السمغيني أول ديوان يصدر سنة 1992، ويليه ديوان أحمد الزياني " ءاذاريغ گازرو/ سأكتب على الحجر" سنة 1993. وفي 1994، سيظهر ديوان سعيد الموساوي تحت عنوان" يسفوفيد أوعقا / تبرعمت النواة".

وفي نفس السنة، سيظهر ديوان باللغة اللاتينية في هولندة للوليد ميمون تحت عنوان" زي ريدجاغ ن- تمورث غا روعرا أوجانا/ من أسفل الأرض إلى أعلى السماء"، وفي سنة 1995، سيكتب وشيخ محمد ديوانا شعريا بعنوان ءاذويورغ غار بادو خ- وبريذ ءوسينو/ سأتجه نحو البداية فوق طريق السحاب". وفي 1997، سيظهر ديوان مصطفى بوحلاسة تحت عنوان ثشومعات/ الشمعة"، وفي 1998 نلتقي مع ديوان بوسنينة عائشة " عاذ آخفي ثرزوذ/ حتما ستبحث عني"، وفي هذه السنة سيصدر أحمد الزياني ديوانه الثاني تحت عنوان" ثريريوت ي مولاي/ زغرودة للعريس" ،وستصدر كذلك فاظمة الورياشي ديوانا بعنوان" يسرمذايي واوار/ علمني الكلام"، وبذلك تكون سنة 1998 سنة الإنتاج الشعري الأمازيغي بالريف بثلاثة دواوين شعرية، وفي سنة1999 نلتقي مع شاعر آخر وهو محمد شاشا بعنوان" شواي زي تيبوهليا عاد وارتيواد/ شيء من الحمق لم يصل بعد"، ويطبع كذلك شاعر بن الطيب نجيب الزوهري ديوانه" أفروان أسگاس/ أجنحة الزمن". وفي 2000، ستطبع شاعرة بن الطيب كذلك ديوانها الأول" إيوكايي تورجيت إينو/ أعطني حلمي".

وبعد ذلك ننتقل إلى الألفية الجديدة بديوان الحسن الموساوي سنة2002" مانتغيراس قانتو/ هل اعتقد أننا نسينا؟" وديوان أحمد الزياني" ءيغمباب يارزون خ-وودوم نسان ذ گ-وودوم ن- وامان/ الوجوه التي تبحث عن نفسها على صفحة الماء"، وفي سنة 2004، ستصدر ثلاثة دواوين شعرية على غرار سنة1998 منها ديوان كريم كنوف" جار اسفاظ ذ- ءوسنان/ بين التوهج والشوك" وديوان مايسة رشيدة" أصهينهين ءيزوران / صهيل الجذور" وديوان سعيد اقوضاض" تيقت/ النار".

ونصل حسب هذه الببليوغرافية التقريبية إلى أن المتن الشعري الأمازيغي يضم 17 ديوانا، واللائحة مازالت تنتظر دواوين شعرية أخرى مثل أشعار محمد العوفي ولويزا بوستاش والأستاذ العمالي وفوزي عبد الرحيم ومايسة رشيدة وكريم كنوف وآخرين...

خاتمة:

لقد عرف الشعر الأمازيغي بمنطقة الريف مرحلتين أساسيتين: مرحلة الشعر الشفوي الذي يسمى بالشعر القديم أو الإيزري ومرحلة الشعر المطبوع أو المدون الذي يعتمد على الكتابة والمقروئية بدلا من السماع والحفظ واستخدام الذاكرة ويسمى هذا الشعر بالشعر الحديث. وإذا كان الشعر القديم تطبعه الشفوية والعفوية والسليقة والسجية الفطرية والتعبير عن البيئة بكل صدق وإخلاص فإن الشعر الحديث بدأ ينزاح عن القديم تركيبا وطبوغرافية وتجنيسا وتشكيلا وإيقاعا وتصويرا. وأصبحت منطلقاته: السياسة والالتزام والثورية والتدوين والتقصيد والترميز. لكن مازال الشعر الأمازيغي مقيدا بالماضي والخصوصية المحلية والنزاعات العرقية الشوفينية وإذكاء النعرات السياسية دون التفكير في الحاضر والمستقبل للمساهمة في خلق الحداثة و إثراء ماهو عام ومشترك للدخول في سياق العولمة والتواصل الحضاري والإنساني العالمي الكوني.



- محمد شفيق: لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين، دار الكلام، الرباط، ط 1988ص:60؛

[ii] - تعريب:

لقد باع محمد بوحمارة مناجم وكسان

وبنى فيه الإسبان ما بناه

[iii] - تعريب:

هب الريح في غلاية النصراني

لقد نادى الرب على الإنسان القلعي

إن سيدي محمد يجاهد الأعداء

[iv] - تعريب:

أيها القائد أمزيان إنك تحارب بكل إخلاص وصدق

سيدي محمد أيها المجاهد الحر

يطلق رصاصاته باليد اليمنى ثم يكملها باليد اليسرى

ترك سيدي محمد بندقيته تطلق نيرانها المحرقة

[v] - تعريب:

لقد مات سيدي محمد في المساء

محمولا من قبل النصارى في عربة التشريف

لما وصلوا أزرو همار، أطلقوا الموسيقى

لما عادوا، وعادوا وهم خمسة من المجاهدين

سألتهم حبيبة عن أبيها

أخبروها بموت الشهيد

فخرت صريعة من شدة البكاء فأصبح قلبها يبكي سوادا وينخرها الدمع.

[vi] - تعريب:

عبد الكريم يا رجل الرجولة

لا يخاف الجبال ولا الأسود

[vii] - تعريب:

يا جبل أبران يا مفتت العظام

من طمع فيك فقد كان واهما

أتينا في خمسين جنديا وعدنا في ستة

ماذا سأقول لخدوج عندما أعود إلى المنزل

وتسألني عن السيد موح

[viii] - تعريب:

عبد الكريم درس العلم في فاس

فيا سعادة لمن ينتسب إليه أو هو قريب منه!

[ix] - انظر د. مصطفى الغديري:( الحرب الأهلية الإسبانية من خلال الشعر الأمازيغي بالريف)، سؤال الأمازيغية: البناء والنظرية، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة، رقم39، ط2000، ص:45؛

[x] - مصطفى الغديري: نفس المقال، ص: 47وما بعدها؛

[xi] - تعريب:

لقد ذهبنا إلى إسبانيا ولم نكن أصحاب الذل والمهانة

إن أرضنا لا تنبت سوى الشوك

زوجة المجند أصبحت تأكل الأشواك

وبعد أن كانت محجبة صارت تخرج لترعى الحمار

[xii] - تعريب:

سفينة جديدة وبقربها مدرعة

وكم فيها من جنود!

لقد أخذت إسبانيا الشباب القادر والنافع

وتركت الشيوخ يبيعون الصبار

لا ندري متى ذهب ومتى ركب السفينة

ذهب ولم يسلم على والدته.


[xiii] - تعريب:

البسي حزامك وشدي عليه آخر

إن زوجك سيلقى موته حتما

البسي حزامك يا زوجة الجندي

إن الجندي الذي ذهب إلى مدريد والله لن يعود

[xiv] - نفس المقال، ص: 46؛

[xv] - تعريب:

يا زوجة الجندي كفى من شرب الحليب

إن زوجك لم يدفن منذ أسبوع

يا زوجة المجند كفاك من الإسراف

إن زوجك قد تعفن من الموت

إن المجندين الذين ذهبوا إلى الحرب

قطعت أيديهم وأرجلهم

[xvi] - تعريب:

لقد هاجرت بعيدا وتركتني وحيدة في جبال الريف

كيف استطعت أن ترغمني على هذه الوحدة؟

أختي أيتها النحلة، أترعين فاصوليا؟

أرعى تراب الطرقات لأرفض الغربة

أيها البحر الذي فوقه المركب

قال لي حبيبي: إنه لن يستطيع الاغتراب عني

[xvii] - تعريب:

أتتذكرون ذلك العام الخبيث

الذي قل فيه القرى وقل دخول الضيوف إلى البيوت

لم نأكل أبدا فقوسا

ولكن عندما أصابنا الجفاف قمنا إليه جميعا

قل لي ما تشاء كيفما فعلت

اشترى كيلو ذرة ولكنه لا يتحول إلى خبز

[xviii] - تعريب:

تعالي نتعاهد تحت الحجر والتراب

فمن خالف العهد فهو الخائن

[xix] - تعريب:

أبكي وأبكي حتى الذي ألقاه سأبكيه

كيف أستطيع أن أنسى حبيبي العزيز؟

[xx] - تعريب:

يبدو الرمان ناضجا في الحدائق

يريدك قلبي ولكني عاجز عن الزواج بك.

[xxi] - تعريب:

تقول لي هذه الشابة يا خالي

ولكنني أحبها ولكن لا أستطيع أن أتزوجها.

الشعر الأمازيغي الريفي بين الشفوية والكتابة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى