يزهار سميلانسكي - - خربة خزعة.. جزء من رواية - ترجمة عن العبرية: أنوار سرحان

“… القيمة الأساسية الأهم هي الحياة.. قبل أن نهتم بجودة الحياة ، علينا أولا أن نضمن الحياة نفسها..
بعد أن تتوفر الحياة للطرفين ، يمكنهما أن يتحاورا، يتناقشا، يتداولا أمورهما.. بينما إذا كان أحدهما أسيرا أو مهانا أو مطاردا أو مسلوب الإرادة .. فليس ثمة مكان للحوار..”
يزهار سميلانكي

يزهار سميلانسكي (27-09-1916 – 21-08-2006 )
لعلّ يزهار سميلانسكي أو سامخ يزهار كمما اشتهر ، من أهمّ الكتّاب الذين أثّروا في الأدب العبري الحديث ، وُلد في مدينة رحوفوت في جوّ عائلة من الأدباء .. درس في الجامعة العبرية بالقدس ، وعمل معلما ثم محاضرا في موضوع التربية . نشر أول إنتاجه عام 1938 .. ونجحت كتاباته في إثارة نقاشات كثيرة ، وبالذات حول مجموعة قصص الحرب “خربة خزعة” و “الأسير ” الللتين يحكي فيهما قصصا من حرب قيام إسرائيل ، صدرتا على التوالي عامي 1949 و 1950 وينتقد فيهما سلوكيات الجيش الإسرائيلي إبان الحرب.
شغل سميلانسكي منصب عضو في الكنيست الإسرائيلي منذ عام 1949 حتى 1967 ..
على أن ذلك لم يمنعه من إبراز مواقفه المناصرة للسلام والداعية إلى التفاوض مع الفلسطينيين.
تتميز كتاباته بلغة جمالية متفردة ، بمزيج من مستويات لغة متنوعة .. يسعى بها للولوج بالقارئ إلى أعماق لا وعي شخوصه ..
وكان لروايته”خربة خزعة” تأثير كبير في الأوساط الإسرائيلية والعالمية ، دعت أول كنيست إسرائيلي لمناقشتها ، وأثارت جدلا كبيرا جدا ، ومقالات ودراسات كثيرة أعدّت حولها ، كان معظمها مضادا لها ، فمنهم من اتهمه بأنه يشوّه صورة المحارب الإسرائيلي وضميره ، ومنهم من ادّعى أنه لم يبُرز أبدا حقيقة الفلسطينيين.
خربة خزعة : حكاية تهجير أهل قرية فلسطينية جليلية عام 1948 ، تنتقد بشدّة منهج الجنود الإسرائيليين ، في نفي السكان من بلدتهم.
اخترتُ منها للنشر, الفصل الأخير الذي يحكي عن تحميل السكان في شاحنات إلى لبنان والاستيلاء على القرية.
الفصل الأخير من رواية “خربة خزعة” .. ليزهار سميلانسكي.
ترجمة أنوار سرحان :
اصطدمتُ بموشيه.
-”ما بك تحدّق بي هكذا؟” سألني .
-”هذه حربٌ ملوّثة. إنها ملوثة !!” قلت بنبرة مخنوقة.
-” ويحك !.. “فماذا تريد إذن؟”
طبعا أردت الكثير ، وامتلأتُ بما أبوح به . لكني لم أعرف كيف أشكّله عبارةً تتسع لرؤيتي كلها لا لمجرد انفعال عابر. احتجتُ قولا قويا يرجّه ويهزّه بصدمة. باختصار ، أردتُ عبارةً تفي قسوة الأمور وشدّتها.
بينما أنا أبحث لي عن قولٍ يلبّي حاجتي قال لي موشيه ، وهو يلقي بقبعته وراء جبهته ، كمن غلبه انزعاجه ، وبلهجة الرفيق لرفيقه ، باحثا في جيبه عن علبة سجائره وعود ثقاب ، قال :
” أنت! اسمع جيدا ما سأقول لك !” ثم أردف وعيناه تبحثان عن عينيّ .. ” هذه الخربة
(خربة ماذا تسمّونها) سيأتيها مهاجرونا ، تسمعني؟ سيأخذون الأرض ويصلحونها.. سيكون هنا العجب والروعة.”
طبعا طبعا ، بلا ريب.كيف لم أحدس هذا منذ البداية؟ خربة خزعة لنا إذن؟! ترتيباتٌ للإسكان ، واستقبال المهاجرين الوافدين. نسكن ونحيا أّيّما حياة : ننشئ أسواقا ، ومدارس ، وربما نقيم لنا كنيسا أيضا.. ستكون لنا أحزاب هنا ، يتحاورون ويتداولون في شتى الأمور . سيحرثون الأرض ويزرعون ، سيحصدون القمح ويربّون المواشي. تحيا خزعة العبرية! تحيا خزعة العبرية! ..من سيحدس أنما كانت هنا ذات يوم خربة خزعة التي شرّدنا أهلها وورثناها؟؟ قدمنا ، أطلقنا النيران ، أشعلنا الحرائق، ألهبنا وفجّرنا، خرّبنا ودمّرنا وهجّرنا من هجّرنا.
تباً لنا تبّاً. ما لنا وما لهذا المكان؟
رفعتُ عينيّ في كل اتجاه ، أعلّقها فتسقط مطأطئةً لا تصمد عند أي مكان . من خلفي بدأ الصمت والسكون يلفّ القرية المحاذية للوادي ، والمنسدّة ببعض القمم هنا وهناك. قممٌ اقتصّت منها الشمس ظلالا صامتة، غارقةً بالتمعّن ، قممٌ تدرك ما جهلنا ، فيما تتابع سكون القرية، ذاك السكون الذي غدا يتواصل أكثر وأكثر ، فأنشأ لنفسه وجوده الخاص، بكآبة وأسى جرح الوداع ، لبيتٍ أمسى خالياً ، لشاطئٍ قد بات خاوياً..لأمواجٍ وأمواج منبوذةٍ حزينة .. وأفقٍ وحيدٍ اجتاحه الفراغ.. إنه صمت غريبٌ له رهبة الموت..
فليكن إذن.. ولمَ لا؟ لا شيء أبدا.: إن هو إلا يومٌ واحد من عدم الراحة ، سرعان ما نُتبعه بجذورٍ نغرسها لنا هنا ، كشجرةٍ عند سيل مياه ! وبالمقابل، أولئك المجرمون ………….
- لكن ها هم قد غدوا في الشاحنات ، وما هي إلا لحظاتٌ وينقلبوا صفحةً مطوية . بلا شك. أليست هي حقنا إذن؟ أولم نحتلّها اليوم؟
أحسست كما لو أني أقف على جليد تزلّج . بالكاد تمالكت نفسي وتماسكت. .كل أحشائي صرخت بحدة : “استعمار! ” ..زعقت أحشائي : ” كذبٌ وزيف ” .. : خربة خزعة ليست لنا.. “!
لم يكن مدفع (رشاش)” شبانداو ” ، ليُكسب حقا أبدا . “هوهوهو .. هو هو هو ” صرخات أحشائي في أعماقي.. ماذا تركوا ولم يحكوه لنا عن اللاجئين؟ كل شيءٍ لأجل اللاجئين.، لسلامتهم وإنقاذهم.. طبعا لاجئينا نحن . أما هؤلاء الذين ننفيهم ليغدوا لاجئين، فذا شأنٌ آخر..
-مهلا مهلا : آلاف سني الشتات . ماذا أيضا؟ قتلوا اليهود وعذّبوهم؟! .. يا أوروبا، نحن الآن الأسياد !!
وماذا عن أولئك القادمين للإقامة هنا؟؟ ألن تصرخ الجدران في آذانهم؟؟ كل هذه المناظر والصور ، كل الصرخات التي أُطلقت أو لم تُطلَق .. براءة الذهول في وجوه ضأنٍ مصدوم. وصور استسلام الضعفاء ، وبطولتهم ، إنما البطولة الوحيدة بطولة الضعفاء، الذين لا يعرفون ماذا يفعلون ، ولا يستطيعون لأيّ فعلٍ سبيلا . الضعفاء المصعوقين المشدوهين. ألن تهيّج صورُهم الهواءَ ثائرا بظلالٍ وأصواتٍ ونظرات؟؟
أردتُ أن أفعل لي شيئا. لكني أدركت أن لن أصرخ . سحقا !! ، لماذا أكون الوحيد المتأثّر هنا؟ من أية طينةٍ قد جُبلت؟؟ تورّطتُ هذي المرة . راودني شيءٌ من التمرد ، رغبةٌ لأفجّر الجميع. . حسنا.. لمن أتحدّث فيسمعني؟ جميعهم سيهزأون بي . هزمني انهيارٌ صاعق… وحقيقةٌ واحدةٌ ترسّخت بي ، كمسمارٍ مغروس : لا يمكن أبدا التصالح مع أيٍّ من هذا ، ما دامت تبرق لي دموع طفلٍ باكٍ يسير مع أمه المتماسكة ، بثورة دموعٍ صامتة. ويخرج للمنفى ، حاملا معه آهات الظلم والجور.. صيحاتٌ كهذه ، لا يمكن إلا أن تجد من يجمّعها ذات يوم.
حينها قلت لموشيه ساعيا لأقي صوتي من الارتعاد :” ليس لنا ، موشيه، أدنى وجه حقّ لنُخرجهم من هنا “!
فقال لي موشيه :- “عدتَ مرة أخرى!!”
وأيقنتُ أني لن أنال شيئا من حديثي.. شعرتُ بحسرةٍ.. حسرةٍ حدّ الاختناق.
السيارة الأولى ، لم أنتبه متى انطلقت تتسلّق الطريق الترابية الطويلة . ( لو أمكنني الوصول إلى كلّ منهم لأهمس في آذانهم :أن ارجعوا ، لا تذروها خالية!). إننا نغرب عن البلدة الليلة ، ونتركها خالية ، فارجعوا.. ارجعوا ولا تذروها خاوية!). فورا انطلقت السيارة الثانية أيضا ، بالنساء اللاتي صبغن الشاحنة بثيابهن الزرقاء وحطّاتهنّ البيضاء ، وبعويلٍ ونواحٍ غاص في نحيب الشاحنة الثقيلة ، التي حفرت طريقها وسط الرمال الرطبة . ( أما العميان ، فلا شكّ سينسونهم في متاهات الطريق….) ( شاحنات؟؟ بماذا تذكّرك؟ …. )
كانت ساعات ما بعد الظهر . وعلى هدوء السماء انقضّت ثورة الريح منبئةً بمطرٍ قادم ، ربما غداً أو بعد غد..ومن البلدة انبعثت أعمدةٌ متفرّقةٌ من دخان أبيض ، لمادةٍ رطبة.. لا هي قابلةٌ للاشتعال ، ولا مائلةٌ للانطفاء.. انبعث دخانٌ سيظلّ هكذا يغلي ولا يغلي أياما أخرى ، حتى ينهار فجأةً جدارٌ أو سقفٌ ما ، وتخور بقرةٌ في مكانٍ ما..
حين يصلون إلى أماكن طردهم سيكون الليل قد حلّ.. ثيابهم وحدها ستكون كسوتهم من العري ، وبها يلتحفون. حسنا.. ماذا بالإمكان أن أفعل؟؟ الشاحنة الثالثة بدأت تتحرك.. ونجوم سماء القرية ستشهد علينا ، ما الذي سيكون هنا؟ وأية لا مبالاةٍ غمرتنا؟؟ كما لو أننا لم نكن منذ أول الخلق إلا مهجِّرين مشتِّتين .. وكأنما هذا عملنا وبه قضينا عمرنا..
والوادي بات ساكنا . أحد الرفاق بدأ يحكي عن وجبة العشاء . ومن بعيدٍ في الطريق الترابية ، كانت تنبلع شاحنةٌ أخرى ، مهتزّةً ، متحركة، كالشاحنات الثقيلة المزدحمة بفاكهةٍ أو بضاعةٍ ما . حتى أوجاع الظلم ، و حنق ضيق اليد ، سرعان ما ينقلبون نقدا مجانيا عبثيا ، مرتبكا وخجولا… فجأةً بدا كلّ شيءٍ واسعا ، رحبا.. ونحن كما لو كنا أطفالا طازجين… بعد قليل ، تقوم في العالم ساعةٌ جديدة ، ساعةٌ يبدو فيها من الجمال أن تعود من العمل متعبا ، فتلتقي بأناسٍ آخرين.. بعد برهة فقط ،ـ سيسدل الستار ، ويسود الصمت.. وحين يسود الصمت فلا يشقّ غبارَه أحد .. سيخرج الله وينزل إلى الوادي .. يتجوّل ويرى هل كانت ثمة صرخةٌ هنا ؟؟؟



يزهار سميلانسكي.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى