لام مجبور - طابور الحياة.. قصة قصيرة

وقف في الطابور مع بقيّة الخلق، إنه اليوم الثالث على التوالي الذي يدحرج فيه جرَّته
إلى الأمام كلما آثرت الرجوع إليه هكذا إلى أن يصل إلى مركز توزيع الغاز، كما أنّه الوعد الألف على التوالي بأن حِملَ الغاز سيصل اليوم من معمل التعبئة، لقد سمع أحدهم يقول:
- إن المسلّحين قطعوا خط الغاز ولم يصل شيء إلى المدن التي لم تصل إليها سكاكينهم.
وسمع آخر يقوم هامساً:
- إن ابن أحد المسؤولين أوقف شاحنة الجِرار الممتلئة عند مدخل المدينة وأنزلها إلى السوق السوداء.
سدّ أذنيه عمّا يسمع، ووثّق بنبض قلبه وبهمس المطر فوقه، رفع رأسه إلى السماء وقال:
- اللهم اجعله خيراً، إنّها تمطر اليوم بغزارة.
وافقه الرجل الجالس أمامه على جرّته وقال وهو يقدّم له سيجارة أشعلها بصعوبة تحت زخّ المطر:
- إنها إشارة خير، أكّد لي الموزّع بأن حِمْلَ الجِرار سيصل اليوم. لا تغادر مكانك.
استبشرَ خيراً وقال:
- هل أنت متأكد؟ تركتُ الأولاد جياعاً في البيت، عفّنت قلوبهم من الحواضر، وصارت كأس الشاي الساخنة أكبر شهوة لنا.
- أحضرت لزوجتي سخَّانة تعمل على الكهرباء.
فقاطعه بضحكة مدوية شاركَته بها المرأة الواقفة خلفه مع جرّتها وأضاف قائلاً:
- لا كهرباء ولا غاز، اللهم بدّل هذا الحال بأحسنه.
ضحكوا قليلاً ثم عاد كلُّ واحد منهم إلى ظُلمة عالمه أما هو فقد نظر إلى الطابور الطويل، رجال وأطفال ونساء... الجميع يقف منتظراً حلم جرّة غاز يعود بها إلى بيته ليتوجها ملكة، ويُطمئنَ بها أنين القلوب الخائفة من غد مجهول يشي بأنّ نقصاً جديداً في إحدى أساسيات الحياة قادم لا محالة. منذ مدة شحّ الوقود ووقف الجميع في الطابور، فوقف هو معهم حاملاً سيفاً وترساً، واليوم شحّ الغاز أما الكهرباء فَنَسِيَها الجميع.
ربما غداً سيشحّ الزيت... السمنة... القمح... الرّز... وكلّ شيء سيُنادى بسعر بورصته إلا بشر هذه المدينة فإنّ أثمان أكفانهم أغلى منهم.
انتشله صوت الشاحنة من دوامته وبدأ التصايح والصراخ، وعلم بأن المعركة قد انتقلت من دواخله الصدئة إلى قعر واقع متجلٍ أمامه، رجال يتصارعون ونساء عُجنت أجسادهنّ بين هذه الكتل البشرية المتدفّقة نحو شاحنة الجِرار. تعالت أصوات رجال الأمن فوق أصوات الجميع، فقد استعان بهم المُوزّع ليقي نفسه خسائر معركة لا بد منها.
بعد مدّة من الصراخ والسُباب وقف الكلّ بدوره، وراح رجل ينادي على الأسماء المسجّلة مسبقاً في قائمة الحجز. أخيراً... سمع اسمه، حمل عبئه وهرول إليهم منتصراً، وأخذ جرَّته وهرع بها إلى البيت، لم يأبه للطوابق السبع التي صعدها حاملاً غنيمته ولا للكهرباء المقنّنة، فصورة أولاده متحلّقين سعداء حول أمهم وهي تطهو لهم ما يشتهون غسلتْ مع دموعه المكابرة مأساة كرامته المسفوحة هذا النهار.
دقّ الباب بقدمه وفتحت زوجته الباب، صفّق الصغير فرحاً وقفز إخوته حول أبيهم.
قال الأب مبتسماً:
- دعوني أُركِّبها.
حلَّقوا حوله فرحين، لا بأس في أن تصبح خيالاتنا حقيقة، قد تكون مكافأة مرضية بعد المعارك اليومية الطاحنة في مدينة يشحّ فيها كل شيء.
جرّب الجرّة مستخدماً الصابون هذه المرة بدلاً من إشعال القدَّاحة عند صمامها، فقد قرر أن يتخلى عن حِسّ المغامرة في داخله.
تمدّد على الأريكة المقابلة للساعة وراح يرقب الوقت منتظراً نهاية فترة تقنين الكهرباء المسائي، ولم يؤثر هذا في استمتاعه برائحة البطاطا المطبوخة مع مرقة البندورة. حين انتهت زوجته من إعداد الوليمة طلبتْ من ابنتها أن تُحضِر الخبز لكن الأخيرة تردّدت:
- ماما، لا يوجد خبز في البراد.
سمعها الأب فما كان منه إلّا أن نهض مستسلماً للقدر، ارتدى معطفه ونزل طوابقه السبع مُعِدَّاً نفسه لخوض معركة الخبز.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى