أحمد حسن الزيات - 5 - دفاع عن البلاغ.. آلة البلاغة

آفة الفن الكتابي أن يتعاطاه من لم يتهيأ له بطبعه ولم يستعن عليه بأداته. وأكثر المزاولين اليوم لصناعة القلم متطفلون عليها، أغراهم بها رخص المداد وسهولة النشر وإغضاء النقد، فأقبلوا يتملقون بها الشهرة، أو يُزَجون بها الفراغ، أو يطلبون من ورائها العيش، وكل جَهازهم لها ثقافة ضحْلة وقريحة مَحْلة ومحاكاة رقيعة؛ ومن هنا شاع المبتذل وندر الحر، ونفق الرخيص وكسد الغالي، وكثر الكَّتاب وقلت الكتابة

وادعاء الكتابة داء لا ينتشر إلى حين تضعف السلائق وتفسد الأذواق وتطغى العامية، فيصبح التفيهق علماً، والشعوذة فنّاً، والثرثرة بلاغة، واللحن تجديداً، والركاكة رقة. وفي مثل هذه الحال قال صاحب المثل السائر: (ومن أعجب الأشياء أني لا أرى إلا طامعاً في هذا الفن مدعياً له على خلوه من تحصيل آلاته وأسبابه. ولا أرى أحداً يطمع في فن من الفنون غيره ولا يدعيه. هذا وهو بحر لا ساحل له، يحتاج صاحبه إلى تحصيل علوم كثيرة حتى ينتهي إليه ويحتوي عليه. فسبحان الله! هل يدعي بعض هؤلاء أنه فقيه أو طبيب أو حاسب أو غير ذلك من غير أن يحصل آلات ذلك ويتقن معرفتها؟ فإذا كان العلم الواحد من هذه العلوم الذي يمكن تحصيله في سنة أو سنتين من الزمان لا يدعيه أحد من هؤلاء، فكيف يجيء إلى فن الكتابة وهو ما لا تحصل معرفته إلا في سنين كثيرة فيدعيه وهو جاهل؟)

وعجبُ ابن الأثير لن ينقضي حتى يعتدل الزمان بأهل العربية فتنضح الحدود، وتستقيم الموازين، وتصح الأقيسة، فلا يتدخل أعجمي في نسب آل البيت، ولا يجري حمارٌ في حَلبة الكميت!

أما بعد فإن آلة البلاغة الطبع الموهوب والعلم المكتسب. والمراد بالطبع ملّكات النفس الأربع التي لابد من وجودها في البليغ، ولا حيلة في إيجادها لغير الخالق. وهي الذهن الثاقب، والخيال الخصب، والعاطفة القوية، والأذن الموسيقية. فإن كنت على يقين جازم من وجود هذه الملكات في نفسك فامض على ضوئها في طلب هذا الفن فإنك لا محالة واصل.

وسألقي عليك بعض الأسئلة لتعلم من أجوبتك عنها إن كنت موهوباً أو غير موهوب:

هل يتأثر خيالك في يسر ويتحرك فؤادك في سهولة، ثم يكون بين الخيال والقلب تجاوب سريع؟ هل تجد لأذنك الحساسية الرهيفة لانسجام الألفاظ وازدواج الفِقر وإيقاع التراكيب؟ هل يملك مشاعرك جمال البلاغة في روائع الشعر والنثر؟ هل تحس في نفسك السمو إذا حَمَّسها الاطلاع على النماذج الرفيعة من البلاغة فتتحرك للمنافسة والمباراة؟ هل تشعر حين يتجه فكرك إلى موضوعٍ ما أن فكرته الجوهرية الأولية لا تلبث في ذهنك أن تحيا وتنمو، ثم تتشكل وتتلون، ثم تتوالد وتنتشر؟ هل تشعر بالحاجة الملحة والتوَقان الشديد إلى الإنتاج الناشئ عن فيض القريحة وحرارة الفكر؟ هل يسهل عليك إدراك العلاقة بين الأفكار المجردة والموضوعات المحسَّة فتخرجها في الصور المقبولة والألوان المناسبة؟ هل تتمثل المعاني في ذهنك من تلقاء نفسها على أفضل الوجوه الصالحة للتعبير والتصوير؟ هل تحس حين تفكر في موضوع شعري أن العواطف تنثال على نفسك ثم تتزاحم وتتدافع طالبة الانبثاق والتدفق؟

إن كانت أجوبتك عن هذه الأسئلة بنعم، فتعال ننظر معاً في الآلة الأخرى للبلاغة فإنه لا مندوحة لك عنها إذا شئت أن تستغل ما وهبك الله من قريحة خصبة وملكة مواتية

آلة البلاغة الأخرى هي العلم بمعناه الأعم، أو المعرفة بمدلولها الأشمل. فالكاتب، إذا كان ناقص العلم أو قليل الإطلاع، يدركه الجفاف والنضوب فلا يكون في آخر أمره إلا سارد ألفاظ ومقطّع جمل. ذلك أن معارف الكاتب هي منابع إنتاجه. وألوان المعرفة له كألوان التصوير للمصور يجب أن تكون كلها على اللوحة قبل أن يقبض على الريشة. والمعارف لا تستفاد إلا بمواصلة الدرس وإدمان القراءة.

وأقل ما يجب على طالب البلاغة درسه، هو اللغة والطبيعة، والنفس

أما اللغة فلأنها أداة القول والكتابة. وللثقافة العامة منها قدر مشترك يجب تحصيله على كل مثقف؛ ولكن الكاتب أو الشاعر محتوم عليه أن يدرسها دراسة خاصة: يتضلع من مادتها، ويتعمق في فقهها، ويتبسط في أدبها، ويحيط بعلومها، ويوغل ما استطاع في استبطان أسرارها، واستقراء أطوارها، حتى تكون للسانة وقلمه أطوع من الشمع ليد المثّال الماهر. ومن زعم أن النحو والعروض وسائر علوم اللسان لا ينبغي حذقها لغير الأزهريين فهو هازل لا يريد أن يكون شيئاً مذكوراً في هذا الفن

ولكل لغة من اللغات المتمدنة عبقرية تستكنّ في طرق الأداء وتنوع الصور وتلاؤم الألفاظ؛ وهذه العبقرية لا تدرَك إلا بالذوق؛ والذوق لا يُعَلَّم، وإنما يكتسب بمخالطة الصفوة المختارة من رجال الأدب، ومطالعة الروائع العالمية لعباقرة الفن. واطلاع الكاتب على النماذج الرفيعة من البيان الخالد يرهف ذوقه، ويوسع أُفقه، ويريِه كيف تؤدى المعاني الدقيقة، وتحيي الكلمات الميتة

ولقد علمتَ أن الجاحظ والبديع والخوارزمي في الكتّاب، وأبا نواس وأبا تمام وأبا العلاء في الشعراء، كانوا مضرب المثل في كثرة القراءة وسعة الحفظ. وكان فلويير لا يقع في يده كتاب إلا استوعبه. ولم يعالج روسو الكتابة إلا بعد أن حفظ مونتيني وبلوتارك. وبوسويه كان يحمل على ظهر قلبه التوراة وأحاديث الرسل ومواعظ الأحبار. وقد اعترف شاتوبريان بأنه كان يدمن قراءة برنار دي سان بيير. فإذا كان هؤلاء العباقرة قد رأوا أن الاستمرار على دراسة الروائع الأدبية ضروري لضمان الخلود، فإنه ولا ريب يكون لذوي القرائح الناشئة ضرورياً لاستكمال الوجود

(للكلام بقية)

أحمد حسن الزيات


مجلة الرسالة - العدد 498
بتاريخ: 18 - 01 - 1943

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى