عبد الله الشقليني - قهوة المساء مع عرَّافة.. قصة قصيرة

هو في العشرينات، جلس أمامها وقال:
ـ اقرئي لي من صفحات عِشقي، وارشديني ما المصير.
دفع هو (بالبياض)، وجلس قُبالتها. أمسكت بصغار قواقع (المريق) بين أصابعها، واختلطت الأقدار وقذفت بهن على الطاولة، ثم تفرست بعيني صقرٍ وقالت له:
ـ أنت صغير يا بُنيَّ في مُقتبل العُمر، من القى بِك في لُجَّة العِشق؟
قال:
ـ لا أعرف.
بدأت العرّافة تنظر، وتلونت قُرنيتاها بالضوء والألوان وقالت:
ـ غريب أنت، أي عشق وقعت في لجته !
رد كمن لا يدرك ما يقول:
ـ لِمَ؟
حركت العرافة بابهامها احدي القواقع وهي تقول:
ـ هي في الأربعين وأنت في الثانية والعشرين!. طفلتها الوحيدة وعمرها عامين. ترملت قبل عامين، وهي ميسورة من ميراث شيخ هرِم، تزوجها وهي في عمر أحفاده.
هز رأسه مردداً:
ـ نعم .. نعم.
استطردت العرّافة:
ـ كيف ساقك قلبك إلى تلك المهالك؟. هي تكبرك بما يكفي، وأنت في مقتبل العمر وتتوسط عمرك الجامعي، وأمامك سنوات لتبدأ حياتك العملية. تنظر أسرتك اليك، كأنك جِزع خشبي تبقّى من أشلاء سفينة يُمسك بها الناجون من الغرق.
رد بكلمات الواثق:
ـ أحببتها، ففيها من ملامح والدتي التي فقدتها منذ صباي. فهي طاغية الأنوثة، تزوجت هي بمعادلة الفقر والحاجة بلا محبة، من رجل يكبُر والدها. أجلسوها لمعادلة يقولون أنها عقلانية، تُكسِب الدنيا، وتَخسر نفسها برهة من الزمان. ومن بعد عمر قصير تبقى للشيخ الهرِم، تبدأ حياتها من جديد. لكن عمر الشيخ الهَرِم امتد عشرين عاماً أكثر مما نظره أهلها، ولم تنجب من الشيخ الا قبل موته بسويعات. ترك ميراثاً لها مسكناً فارهاً، ودخلاً من استثمار سكني يديره قانوني مقتدر. التحقت بالدراسة مُجدداً، وكنت أعينها. ونبعت المحبة من بعد معرفة نبيلة.
نظرته العرّافة بتعجب وقالت:
ـ كيف كنت تعينها!. أجلست لمعادلة عقلانية أنت أيضاً؟ .ألم تسمع بمن قال، اغضبوا ولا تخطئوا، ولا تعطوا ابليس مكاناً.
تغيرت ملامحه، وارتبك وهو يقول:
ـ ماذا تقولين يا امرأة!
صمتت العرّافة قليلاً، ثم نظرت قواقها الصغيرة، وهي تقول:
ـ كأنك تسرق من السيدة شيئاً، أو تعرف أنت لون تنورتها. كأنك تلمست قماشه الناعم، إنك تمسك بخيوط الخطيئة. اقتربتما من بعضكما، وربما هي تشكو حرماناً عاطفياً، أما أنت كأنك تلثم عنابها بعينيك، وذهنك يقدح ...
قاطعها بانفعال:
ـ استحلفك سيدتي لا تظلمينني، لم نرتكب الفاحشة أبداً. أحببتها بكل وُجداني وأرغب زواجها وفق الشرائع.
قالت العرّافة:
ـ رأيت المال يا ولدي، وأحببته. رغبت أنت امرأة دفئاً لمستقبلك. أمام رَبك أنت لص تهوى مال غيرك، تستحلله لنفسك، ولا يعفيك أن تبوح بأنك تُحِب وتعشق.
اشتد عليه الحصار، فقال لها:
ـ إنها تحبني، وسأكون رفيق دربها حبيباً وزوجاً يحميها..
قاطعته العرّافة:
ـ تجاوز أنت ماضيك وحاضرك، وانظر مستقبلك من بعد سنوات، عند الصفاء تطمح مستقبلاً وأحلاماً أكبر. هي في طور من يبحث الظِل والسكينة، تتعلم بعض الذي تغسل به الماضي، فقد عاشت شيخوخة حقيقية عند كل فجر يطِل، وإلى سكون الليل التالي، عشرين عاماً. لبِست وقار الكبار قبل موعده، ويغسل الدمع عينيها في ظلمة كل ليل. تفكرت هي أن تشق عصا الطاعة، وترمي بالبيعة الإجتماعية، وتعيش لجسدها تفي بحاجاته. تلفحت بشال التُقي يدعوها للصبر، فجلست في زورق من التمائم والتعاويز. زارت كل أقطاب الدجل المقنّن. دخلت عوالم الخرافة، ولم تسقط أسيرة الجسد ورغائبه. أنستها التعاويز حاجاته والدنيا ومذاقها الحلو. وجئت أنت في موعدك...
علت وجهه الحيرة وهو يقاطعها:
ـ من أين لكِ كل هذا؟. لا أصدق أن قبضة من القواقع الصغيرة، تطلعك على كل الدنيا. أنتِ ساحرة، ومن ورائك عظيمٌ من الجان، يعينك على ما تفعلين. أراكِ تؤثرين النُصح، وأنا قصدتُكِ لمعرفة مستقبلي!.
هزت العرافة رأسها كمن تؤمِّن على حديثه، أمسكت بقبضتها على القواقع الصغيرة، وقذفت بالأقدار مرة أخرى. أخرج هو منديلاً يمسح حبات العَرق من على وجهه.
فقالت له:
ـ نعم نبدأ من ماضيك يا ولدي ... وكيف بدأت؟. قدمت أنت أول مرة، إذ دَعتك تستذكر معها، فقفز دلفين المحبة من البحيرة الساكنة، يشوِّش عليك الدرس. تبدأ الشرح، وأنت تبسِّط لُغته، يفاجئك عسل العينين، بلوري الملامح. تبدأ تجميع أطرافك، وأنت تتلعثم ثم تعيد أنت الدرس من جديد.
قلت أنتَ للسيدة:
ـ أنت امراة مسكونة بالجمال كأنك في العشرين!، النور يلتف من حولكِ.
ضحكت السيدة ثم قالت لك:
ـ زماننا ولى، وما بقي إلا العمل الطيب.
فقلت أنتَ لها:
ـ أنتِ في مقتبل العمر، شباباً تنوّرين الدنيا.
فتبسمت السيدة من اطرائك وقالت:
ـ أشعر كأن قلبي يرقص، إنها متعة غريبة!، فما تعودت أذناي الكلام الجميل. وأنا من بعد أكبُرك كثيراً، أنتم الشباب تتقنون الكلام المُحلىّ. ستجد من تُعجبك، ابنة ثمانية عشر تبنيان عُشاً سوياً.
قلت أنتَ لها:
ـ من يُحب، تأسره العيون، ولا يملك نفسه عندما ينظر، مثلي تماماً. يقولون المُحب لا يعرف لون عيون من يُحب، ولا أعرف أي عسل هو لون العينين. لون العسل يتبع لون مراعي النَّحل، وأنا لا أعرف من أي عسل هو، ومن أي المناحل موطنه.
قالت لك السيدة متعجبة:
ـ ماذا تقول!.. أنت شاعري، وكلامك حلو. ستسعد هي من تكون من نصيبك. أرني من تُحب لأخطبها لك.
قلت أنتَ لها:
ـأنتِ من أحب.
صمتت السيدة بلا حراك، وأكملت أنتَ حديثك:
ـ إنكِ جميلة كزهرة ناضرة، تعتَّقت وهي تصارع الدنيا لتصل ضوء الشمس، ذكية ونابهة أنتِ في علوم الدنيا، من يعرفك لن ينجو من محبتك. خَرجت عيناك تجمل الدُنيا من حولي.
صمتت هي طويلاً، ثم قالت لك:
ـ أنا عالم من الأحزان، يمسك الماضي بكل حاضري. وأجمل ثمار الماضي إبنتي، وأعلم محبتها لك التي تسللت الى روحي حتى أشرقتُ من الكآبة، وتعلمت الفرح مما تحكي لها وتداعب. خرجت أحرف الأبوة من شفتيها عند وجودك معنا، تعودنا عليك. أرى نفسي تريد أن تنسى، وأخاف أن اعذبك معي.
فقلت أنت لها:
ـ أحببت الصغيرة بين يدي، وأحببتك أنتِ من بعد، وقلت مراراً إنني صادق معك.
قالت السيدة لك:
ـ أنت تُكذب عليَّ، ألم تعجبك زميلة أو رفيقة درب؟.
رددت أنت عليها:
ـ أنتِ أول طَعم أتذوقه من العِشق، دخلتِ أنتِ قلبي فتوهجت نفسي وتجملت دنيتي...
انتفض وهو يقاطع سرد العرَّافة منفعلاً:
ـ يكفي سيدتي... هذا يكفي، أريد صفحة مستقبلي!.
أمسكت العرّافة بصغار قواقع (المريق) بين أصابعها مرة أخرى، واختلطت الأقدار وقذفت بهن على الطاولة ، ثم تفرست بعينيها وقالت له:
ـ غُبار كثيف يلوَّن مستقبلك يا ولدي. أرى ألواناً متقلبة في عينيك، وطبعك يتأرجح في دُنيا مضطربة. في خطوِكَ أعشاشاً تُهدَم، وعصافير الدنيا جَزِعة تفِّر. أنت متقلب الطباع، أراك تطوِي قلبك في بئرٍ عميقة. تتكلس تقاطيع وجهك وأنت في رونق العُمر، من يقع في شراك محبتك يتألم كثيراً. تفجعه أنتَ عند كل منعطف، من حولك نار موقدة. مال وفير أنت لن تنعم به، و لن ينجيك إلا حاضرك. الحُب يا ولدي يهبط من العلا، فلا تعبث به.
19/12/2004

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى