محمد المنسي قنديل - عشاء برفقة عائشة.. قصة قصيرة

تقافزت سيارة الأجرة بين الحفر. دمدم السائق غاضبا: "ياست. لاأعتقد أنه يمكن أن يكون وسط هذه الحارات مطعم محترم على الإطلاق.." ردت عليه عائشة في صوت حازم: "امض للأمام واستدر يساراً" ثم التفتت إليّ وهي تقول: " لا أحب سائقي الأجرة عندما يتدخلون" هذا هو موعدنا الأول. وكنت قد تركت لها حرية اختيار المكان فاختارت هذا المطعم. لم أسمع به ولاسائق التاكسي. لكنها المرة الأولى التي أجلس معها بتلك الدرجة من القرب. خصلات شعرها تلامس وجهي أحيانا وأشم رائحة عطرها دائما. يرتاح جسدها الدافىء للحظة وجيزة مستندا إلي وهي تتطلع من نافذتي للتأكد من المكان. تتداخل الحارات وتضيق المسالك وتتقارب الجدران وتتعرى من الطلاء وتتصاعد روائح الطعام والعطن، دون أن أجرؤ على سؤالها إن كانت متأكدة من وجود هذا المطعم. كنت مشغولا بما سيحدث فيما بعد. هل نذهب عندي إلى غرفتي الضيقة، أم عندها، في مسكنها الذي لا أعرف عنه شيئاً?.

دخل السائق إلى حارة أكثر ضيقا. فلم نعد نرى السماء. لم يعد غير أطفال مذعورين يمرقون من أمام السيارة يخرجون من أبواب لانراها ليدخلوا أبوابا أخرى لانراها. هتفت أخيراً.. "توقف هنا.. وصلنا..".

توقف السائق بسرعة قبل أن تغير رأيها. وأسرعت أنا بالنزول وأعطيته ضعف الأجرة حتى يكف عن تذمره ووقفت هي حابسة أنفاسها، مثل طفلة تترقب، أزاحت الورق المفضض عن هدية عيد ميلادها.

إذا كان هناك مطعم بالفعل فمن الصعب التعرف عليه. لا لافتة ولاعلامة تدل على ذلك. مجرد صف من البيوت القديمة. استبدل جدار منها بواجهة زجاجية معتمة. مغبرة ومطموسة. لاتستجيب للضوء ولاينعكس عليها صورة أو ظل أو خيال. ليس فيها إلا ذلك الاستواء المحايد الممتد وسط الثقوب والشروخ المتعرجة التي تملأ جدران البيوت الآيلة للسقوط من حولها. ولكن هناك بابا صغيرا. بجانبه أصيص من نبات داكن الخضرة. حين لمسته اكتشفت أنه غير حقيقي. معدن بارد. الباب نفسه يتسع بالكاد لدخول شخص واحد في المرة الواحدة. فكرت أنها ربما قد حضرت إلى المطعم منذ زمن بعيد قبل أن يصيبه البلى والشحوب. وربما تحاول الآن ـ في لقائنا الأول ـ أن تستعيد ذكرى أولية شاحبة.

تقدمت وفتحت الباب وهي تصيح في جذل: "هيا". أسرعت بالدخول خلفها. رن جرس لعله كان معلقا خلف الباب. فوجئت بنفسي في لحظة وجيزة داخل المطعم. ظللت واقفا حتى أتبين تفاصيله من خلال العتمة التي تحيط بالمكان والأصداء لاتزال تصلصل. كنت أتوقع شيئاً مختلفا ومفاجئا. ولكن وجدت ـ بالفعل ـ مطعما. واسعا ومعتما مليئا بالمناضد المتراصة. عليها مفارش بيضاء ناصعة لحد التوهج. بعضها خال. وبعضها يشغله زبائن. اثنان على كل منضدة وبينهما شمعة مضاءة وكل شيء مغلف بضباب رائق شفيف كأننا نقف على حافة حلم ما.

لم أكن أرتدي الثياب المناسبة. كان كل رواد المطعم يرتدون ثيابا رسمية وعائشة أيضا ترتدي ثوبا صيفيا خفيفا موشى بالأزهار يكشف عن عنقها وذراعيها. لايتناسب إلا مع مطعم للوجبات السريعة، ولكنها بدت كزهرة متألقة وسط كل هذه الألوان الباهتة.

لم أفطن للرجل الطويل الأصلع بحلته الرسمية السوداء إلا عندما أصبح بجانبي تماما. تأملنا بوجه جامد الملامح وهو يقول:

ـ مائدة لاثنين ياسيدي..
صوته غريب كأن بداخله فراغاً يرتج فيه الصوت فيخرج مصحوبا بصدى خافت. لم أجب، ولم تكن هناك ضرورة للجواب. سار أمامنا بخطوات متصلبة دون أن يصدر صوتا عن وقع قدميه. رفع بعض الزبائن رءوسهم ورمقونا بنظرات خاطفة ثم عادوا للمضغ والتهامس. أشار الرجل إلى منضدة بجانب الحائط. هزت عائشة رأسها وهي مبتسمة وأشارت إلى منضدة أخرى بجانب الواجهة الزجاجية التي تفصل المطعم عن الشارع. بعيداً عن الزبائن. كانت راغبة في حديث طويل لايستمع إلينا فيه أحد. تردد الرجل لبرهة كأنه يقيس كل الاحتمالات ثم سار حتى توقف أمامها. ابتسمت عائشة في انشراح وهي تأخذ مقعدها:

ـ أرأيت...
حتى الآن لم يكن هذا ماتخيلته عن لقائنا الأول. كنت أريد أن أبدو مهذبا وأحصل على رضاها الكامل. ابتسمت ولكن السؤال أفلت بالرغم مني:

ـ هل أتيت إلى هنا كثيراً قبل الآن?
رفع الجميع رءوسهم من على المناضد مرة أخرى. رمقونا بنظرة عاتبة. هتفت عائشة في همس:

ـ اخفض صوتك. هذا المطعم مثل المكتبة يجب عدم التحدث فيه بصوت عال..

هكذا أكثر حميمية.. هذه هي الفكرة.

لم تفطن لسؤالي. أم لعلها تجاهلته. تأملتها عبر المنضدة. بيننا شمعة مطفأة ووردة حمراء وحيدة . لمستها فسرت في بدني رعدة مفاجئة مثل تيار كهربي. هتفت:

ـ ماهذا.. وردة من المعدن?
قالت عائشة: هذه مجرد بداية. كل شيء هنا مثير ومختلف.

راقبت مايحدث في الجانب الآخر من خلال الزجاج. وجوه العابرين تبدو شديدة القرب. امرأة عجوز تحدق في مباشرة. وجهها مليء بالأسى والخوف. ألتفت إلى عائشة أستنجد بها:

ـ لماذا تحدق فيّ هذه المرأة بتلك الصورة?

قالت بهدوء: هي بالتأكيد لاتراك. هذا الزجاج لايكشف عما في الداخل.

جاء نادل آخر ووقف بجانبي دون أن أسمع صوت قدميه. لم يبتسم. أخرج قداحة من جيبه وأشعل الشمعة. كان هذا أفضل ماحدث حتى الآن. انعكس ضوء اللهب على وجه عائشة فانبعث من عينيها تألق طافح بالفرح. قلت:

ـ أو تعرفين ياعائشة.. ضوء الشموع يزيد من جمالك.

ابتسمت وهي تقول: أوتعرف.. إنها كلمات جميلة. لكنها عادية. انتظر قليلاً ربما قلت شيئاً مميزاً.

وقف نادل أخر بجواري. لم أدر إن كان قد استمع لكلماتها الساخرة أم لا. وجه جامد. كدأبهم جميعاً ليس جمود التأدب والترفع عن التبسط مع الزبائن. ولكنه جمود حقيقي. ملامح يابسة وساكنة على تعبير واحد. وضع قائمتي طعام أمامنا وانصرف دون صوت. فتحت القائمة. حاولت فك طلاسم الحروف والأرقام ، عبثا حاولت أن أعرف شيئاً عن أصناف الطعام أو أسعارها. همست عائشة:

ـ لاتحاول. لن تستطيع قراءتها. الأفضل أن نترك لهم أمرنا. يقدمون لنا شرابهم وأطباقهم الرئيسية. هذا أسهل لنا ولهم. دع القائمة جانبا.

وضعت القائمة وحاولت أن أنظر إلى عينيها مباشرة لعلي أقتنص نظرة حقيقية. لم تكن تجلس ساكنة. أدارت وجهها. جاء نادل أخر يمسك بالقلم ونوتة الطلبات. ناولته عائشة قائمتي الطعام وهي تقول:

ـ احضر لنا شراب اليوم. وطبق اليوم. اثنين من كل صنف.ثم استدارت نحوي ونظرت هي إلى عيني مباشرة وهمست:

ـ والآن ماذا?.. هل نويت التخلي عن غموضك وتخبرني من أنت?

قلت مدهوشا: أنا الغامض أم أنت.. أنا حقا لاأعرف عنك أي شيء.

ردت ببساطة:

ـ جميع من في المؤسسة التي نعمل بها يعرفون عني كل شيء. إنني تزوجت وطلقت مرتين. قصة عادية ومألوفة وسخيفة أيضا. تجدها في زوايا القراء في أي صحيفة. الأسباب تختلف أحيانا. يمكن أن أكون أنا امرأة فاسقة. ويمكن أن يكون هو زوجاً شرساً. ولكن لاجديد دائما في أمثال هذه القصص.. ماذا عنك أنت?

كانت تنظر مباشرة إلى عيني. إلى داخلي. لم أتوقع نظرة بهذه الحدة. أدرت وجهي فرأيت رجلا آخر يحدق فيّ من خلف الزجاج. برغم أن الظلام قد هبط في الخارج فإن ملامحه كانت جلية. حانقة وغاضبة. كأنه يدعوني للانصراف. أدرت وجهي وبدأت رعدة خفية تسري في جسدي. اكتشفت أن أمامي كوبا زجاجيا به مشروب متداخل الألوان وعلى حافته شريحة من البرتقال مركبة بعناية. أمامها كوب آخر. وهي مازالت بنفس جلستها المتحفزة. مقوسة الكتفين قليلا للأمام، مرفقاها على المنضدة وفتحة ثوبها تظهر قمتي ثدييها بوضوح. تولدت داخلي رغبة عابرة سرعان ما انطفأت أمام عينيها المتحفزتين. تناولت من الكوب رشفة سريعة وحاولت القول:

ـ أنا أكثر منك وضوحاً. لايوجد في حياتي تفاصيل. لم أتزوج. لم أطلق. ليست لي تجربة مثيرة ولاحكاية..

توقفت. شعرت بطعم الشراب وهو ينزلق إلى معدتي. مزيج من عصير الفاكهة. والتوابل. والكحول. كلا. هناك طعم آخر. أشبه بالزيت. أمسكت نفسي حتى لاأتقيأ. ونظرت إليها. ردت عليّ بصوت خافت. حاد:

ـ هذه هي المشكلة. لاتفاصيل. هل يمكن أن تكون هناك حياة بلا تفاصيل? يعني هذا أن لديك سراً تحاول إخفاءه. أو ربما شيء تخجل منه. ما الذي يجعـلك مثلا تجلس في أصغر غرفة في المؤسسة.

أحسست أني متهم. بحثت في ذاكرتي عبثا عن أي تفاصيل ولو كانت تافهة:

ـ أنا مجرد محاسب. عملي لايحتاج إلا إلى حيز ضيق. ليس عندي إلا بضعة دفاتر مليئة بالأرقام والجداول. لاجديد. قبلها كان هناك محاسب آخر يجلس على نفس المكتب ويعمل في نفس الدفاتر. عندما مات أخذت مكانه. ولكن أراه كل صباح عندما أتأخر قليلا. يجلس على المكتب ويقلب الدفاتر ربما ليتأكد من جودة عملي. وما إن يراني حتى يتبدد. يذوب. يترك المكان دون ضجة أو اعتراض كل مافي الأمر أن المقعد حين أجلس عليه يكون بارداً قليلاً.

لم أعد أستطيع التوقف عن مواصلة تناول المشروب برغم مافيه. أحاول التغلب على طعم الزيت في معدتي بقول أي شيء. والنُدْل حولنا لايكفون عن الحركة. وكبيرهم الأصلع يومىء فقط برأسه ليوجههم. لم ينهض أحد من الزبائن. ولم يدخل أحد. لم أسمع صوت الجرس طوال هذه المدة. بدا واضحاً أن كلماتي الأخيرة لم تستأثر باهتمامها لأنها عادت تلح في السؤال:

ـ قبل أن تتوظف.. ألم تكن على قيد الحياة?

ـ طبعا.. ولكن.. ليس في مكان محدد. أديت الخدمة العسكرية مثلا.. عاصرت حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر.

بدا الحماس يدب في صوتها قليلاً:

ـ هل شاركت في القتال?

ـ كنت محاسباً.

هتفت في خيبة أمل: في الجيش أيضا?!

ـ لماذا يبدو هذا غريبا. حتى الجيش في حاجة إلى محاسبين. كنت محاسباً في مخازن العتاد. أحسب عدد القذائف والألغام وطلقات الرصاص والصواريخ والطوربيدات التي تطلق في كل معركة أو مناورة أو تدريب. كنت أعرف باشتداد القتال عندما تزداد الطلبات عندي. كنت أعرف حسابات كل معركة بمنتهى الدقة.

قالت: بما في ذلك عدد القتلى?

كنت قد بدأت في التضايق من طريقتها في توجيه الأسئلة:ـ كيف لي أن أعرف عدد القتلى. كل مرة كان يأتيني جنود مختلفون. في كل مرة أتأمل وجوههم على أمل أن أتعرف أحدا يعود إليّ من جديد ليخبرني عن سير المعارك ولكن أحداً منهم لم يعد مرة أخرى. وفي النهاية كنت أدرك أن الطلقات هي دائما أهم من الجنود.. بالنسبة لي على الأقل.

شعرت بالسخونة تصعد من معدتي إلى رأسي. طفلة صغيرة تحدق في من خلف الزجاج. فاغرة الفم. مدهوشة من شيء ما. التفت إلى عائشة. الشمعة التي بيننا متوهجة ولكنها لم تنقص. طرفها المدبب مازال كما هو. والخيط الناشب فيه النار لم يحترق. وهي تتأملني. مستمتعة بمظاهر الحيرة التي تبدو على وجهي.. ترى لماذا دعتني إلى هذا المكان?

فوجئت بالنُدْل وهم يقفون بجانب منضدتنا. بلاصوت لأقدامهم ولاحس لأنفاسهم. بعضهم يحمل الأطباق وآخر يقوم برصها على المنضدة أمامنا. أطباق ذات أشكال هندسية. مثلثة ومربعة ودائرية ومكعبة. كلها من معدن فضي مائل للزرقة. وضعها النادل بحيث لم تترك فراغاً فيما بينها. كون منها جميعا مربعا واحداً متساوي الأضلاع. فعل ذلك بدربة ومهارة. ثم انصرف هو والباقون دون صوت. لم أعد استطيع كتمان دهشتي. هتفت:

ـ هذه الأطباق الغريبة. والشمعة التي لاتحترق. والزهرة المعدنية الباردة والندل الذين لاصوت لأقدامهم أو أنفاسهم.

قالت: بدأت تنتبه أخيراً.. كنت أسأل نفسي متى ستفطن إلى ذلك?

أحسست بالبلاهة. أشارت إلى الطعام الموجود في الأطباق وهي تضيف:

ـ هل رأيت طعاما مثل هذا.. مقطعاً ومعداً بتلك الدقة. طبق السلاطة. استدارة قطع الخيار. كل واحدة تشبه الأخرى تماما. الاستدارة والسمك وطول القطر. حتى عدد حبات البذر الموجودة في كل واحدة منها.. وشرائح الطماطم.. ليس في الحجم والاستدارة فقط ولكنها متشابهة حتى في التعرجات الموجودة في كل شريحة.

قطع الخس والكرافس. لها نفس الشكل. نفس التجعيدات. وحتى عيدان البقدونس والشبت. نفس الشيء في بقية الأصناف. الخبز المحمص والزبد والمخفوقة. كلها نفس الشكل والتواءات الأطراف. تأمل مكعبات البطاطس. وحبات البازلاء. وقطع الجزر المقطعة على هيئة حلزون.. كلها متساوية تماما.. لاتزيد مللي ولاتنقص ذرة. تأمل الخطوط التي تتركها آثار شواء اللحم. متوازية. محددة. قطع الاستيك لها نفس الحجم والمقدار والسمك وحتى قطرات الدهن الموجودة عليها. حتى ذرات الملح والفلفل كلها تترك نفس العلامات. لايوجد هنا شيء تقريبي أو محتمل. كل شيء محسوب بدقة متناهية. ليس في الشكل فقط ولكن الطعم أيضا. الحلو مع المر. الحمضي مع القلوي. الساخن مع البارد. هل لاحظت طعم الشراب?

كان حماسا غامراً. والسخونة تنتشر من معدتي إلى بقية بدني. كانت تبتعد وصوتها يتناهى إلى وسط صدى الفراغ قلت:

ـ كان مليئا بالزيت?

هتفت: أرأيت.. لم يكن ينقصه عنصر واحد حتى الزيت.

تكاثر الأطفال خلف الزجاج. حدقوا فيّ بعيونهم المستديرة اللامعة. رأيت في اتساع حدقاتهم انعكاسات لهب الشمعة التي لاتحترق. قلت في حدة:

ـ ماهذا المطعم الغريب. لماذ أصررت على المجيء بنا إلى هنا?

ضحكت بصوت رائق:

ـ من قال إنه غريب. هذا مطعم المستقبل. هؤلاء الندل الذين لايكفون عن الحركة حولنا ليسوا آدميين. إنهم "روبوت". أناس آليون. انظر إلى مدى دقة أشكالهم والحركة التي يسيرون بها. لايصدرون صوتا ولايتصادمون ولايرتكبون أخطاء في حق الزبائن. لاشيء عفويا وكل شيء غاية في الدقة.

ضحكت مدهوشاً ومفزوعاً:

ـ مطعم يديره آليون.. هنا.. وسط هذا الحي التعس.. أنت تمزحين.

قالت: ولماذا أمزح.. راقب كل شيء بنفسك.

تحركت على مقعدي في قلق. اختفى الأطفال وساد ظلام كامل في الخارج. وظل الندل يواصلون حركتهم الدائبة دون صوت. يحملون أطباقهم الغريبة. موتى وقد نهضوا من قبورهم في نزهة مضنية. لاأحد يتحرك من الزبائن. لا أحد يجرؤ على رفع صوته فوق مستوى الهمس. قلت بصوت مختنق:

ـ هل نستطيع الانصراف?

قالت ببعض من الحدة:

ـ ماذا بك. إنهم غير مؤذين. أليست هذه تجربة جديدة بالنسبة لك. ثم ماذا يختلف الأمر بالنسبة إليك. طوال عمرك ولم تحتك بشيء حي. أرقام وجداول وقذائف ماالفارق هنا..?

لا أدري. ولكن داخلي كله كان يرتجف رعبا. حاولت النهوض ولكنها رمقتني بنظرة قاسية فظللت جالساً في مكاني. قالت:

ـ هل دخلت السجن قبل الآن.. هل وقعت في الأسر?

لا أدري كيف عرفت ذلك. لم أكن قد ذكرت ذلك لأحد. قلت بنفس الصوت المختنق:

ـ قبض عليّ مرة بطريق الخطأ. اعتقدوا أنني أقود إحدى المظاهرات ووضعوني في زنزانة صغيرة مملوءة بالماء لمدة ثلاثة أيام. كان خطأ غير مقصود ولم أحسن الدفاع عن نفسي ولكنهم سرعان ما أفرجوا عني

أشارت إلى الطعام وهي تقول:

ـ تناول طعامك إذن وحاول أن تهدأ.

ـ لا أستطيع.. الأفضل أن نذهب.

عادت نبرة السخرية إلى صوتها:

ـ كونك لم تأكل لايعني أنك لن تدفع الحساب.

ـ سأدفع بالطبع

أشارت بيدها نحو أحدهم. موعدنا الأول قد تخرب تماما ولم أعد استطيع إنقاذ شيء. ربما كان سبب ذلك الشراب. أو المباغتة أو كلماتها القاسية التي لم تكف عن السخرية مني. جاء كبير الندل جامد الوجه متعاليا.. وضع أمامنا رقيقة معدنية. تأملت مافيها من ثقوب وأرقام بارزة. عجزت عن قراءتها. تناولتها عائشة وذكرت الرقم في حدة. لم يكن سعراً مبالغاً فيه. كان في حدود الإمكانات التي خططت لها. أدخلت يدي في جيب بنطالي الخلفي حيث توجد حافظة نقودي. لم تكن هناك. فتشت بقية الجيوب. ثم انتقلت إلى جيوب المعطف. فعلت ذلك أولاً ببطء وهدوء ثم بسرعة وعصبية. أعدت التفتيش مرة وأخرى. جاء بقية الندل ووقفوا خلف النادل الأصلع. توقف كل من في المطعم عن المضغ والهمس. قلت لها:

ـ لقد فقدت نقودي..

قالت بصوت خافت: يبدو ذلك واضحا.. من المؤسف أنني أيضا لا أحمل نقوداً.

قال كبير الندل بصوت معدني أجوف:

ـ هلا أتيت معنا ياسيدي?

قلت بصوت مرتعد:

ـ لابد أن هناك حلا. يمكنكم أخذ أي شيء على سبيل الضمان.. أو استدعاء الشرطة للتصرف.

قالت عائشة:

ـ أستطيع الذهاب وإحضار النقود.. أليس هذا حلا مناسبا?

توجهت بتساؤلها إلى كبير الندل الذي أحنى رأسه وهو يقول:

ـ يبدو حلا مناسبا ياسيدتي.

تأملتها وهي تتناول حقيبتها من فوق المنضدة، لم تتكلم ولم تنظر إليّ. خرجت من خلف المنضدة أوسع لها أحد الندل ممراً حتى تخرج من الدائرة التي تحيط بي. سمعت صوت جرس الباب يصلصل للمرة الأولى منذ أن دخلنا. لم أر خلف الزجاج سوى الظلام. جلست إلى المنضدة خائراً. قال كبير الندل "لاتستطيع أن تجلس للمنضدة ياسيدي" أمسكت بأطرافها متوقعا أن يحاولوا انتزاعي.. قلت "سأبقى حتى تعود.." لم يتخل صوته المعدني البارد عن حياده. قال "لايمكنك أن تشغل المنضدة ياسيدي لمجرد الانتظار. هناك زبائن آخرون سوف يجيئون".

لم يكن وجهه غاضبا ولامتعاطفا. أشار بيده إلى مكان ما في نهاية المطعم. حدق في الجميع ـ الندل والزبائن ـ بنظرات معدنية بليدة. نهضت. سرت وساروا حولي. صوت خطواتي هو الوحيد الذي يسمع في المطعم. فتح أحد الندل بابا معدنيا صغيراً في نهاية القاعة. خفض الزبائن رءوسهم في تواطؤ وعبرت أنا الباب.

وجدت نفسي في المطبخ. أمامي صفوف من المواقد والأواني والمناضد والأرفف المعدنية. حركة دائبة لعشرات الأشخاص الذين يقومون بالطهو والتقطيع والتنظيف. بلاصوت ولا روائح ولا أدخنة. طباخون بملابس بيضاء وأغطية رأس طويلة يتحركون في دأب. لم يهتم أحد بوجودنا. أشار كبير الندل إلى أحد الأركان "سوف تنتظر هنا".

لم يكن هناك مقعد أو مكان للاستراحة. مجرد جدار أملس بجواره نافذة صغيرة يجيء منها ضوء مظلم. وقفت بجانبها وظهري للحائط. انصرف الندل وواصل الطهاة عملهم دون مبالاة بوجودي. الباب يفتح أحيانا لينفذ أحد الندل. يحمل الأطباق المعدة ثم ينصرف سريعا. كانت كل تلك الحركة دون صوت باعثة على الوحشة. لم أتحرك من مكاني ولم أعد قادراً على مواصلة النظر إليهم. أدرت رأسي فقط لأنظر من النافذة. فراغ ممتد وعميق ومظلم وشاسع. لاظل لبيوت. لابريق لضوء. لا حد لأفق. لا مجرى للنجوم. لاصوت لهبوب الريح. لاتمتمات لذرات الرمل. ولا براح للسماء. شعرت بحزن دافق. هذا الفراغ الموحش يأخذ مكانا في الروح رغما عنها. استدرت نحوهم. ضوء صاف يغمر المكان. ليس له مصدر محدد. لهب أزرق في المواقد لايتراقص. حركة دائبة لرص الأطباق والأواني دون تصادم أو تداخل. لايتحركون تلك الحركات المتقطعة الحادة التي تصدر عادة عن الآلات. ولكن حركات انسيابية. محسوبة. متوافقة مع الفراغ الذي يحيط بهم. يعملون بلا تداخل وبلاتفاعل أيضا. لا أحد يتبادل الحديث مع أحد، أو يرفع رأسه عن العمل الذي يستغرقه ولو لبرهة. مثيرون للملل وللرهبة أيضا. بلانقاط ضعف. ولا أخطاء. بلا حاجة الى الحب أو خضوع لرغبة أو حافظة نقود يمكن أن تختفي في أي وقت.. هل ستعود عائشة حقا? استدرت للنافذة. تركت المزيد من الفراغ المظلم يجد طريقه إلى روحي. ربما لن تعود. كانت تريد أن تنجو بنفسها فقط. ذرات الظلام تتشكل أمامي. أرقام وجداول وقذائف وقضبان. ألم شديد يتصاعد من قدمي إلى بقية جسدي. لكن لا أرفعهما. لا أستند إلى الجدار. أغمض عيني. أشم رائحة البارود والغبار والعفونة. كم مر من الوقت? لا وقت.. لاشيء يتغير. اختفى الألم من ساقي. خدر ناعم يتسلل من خلية الى أخرى. لا أحركهما. أتركهما لتتحولا إلى قائمتين تحملان جسدي. ذهني يواصل انتقاله. يقظة. نوم. زمن مضى. زمن لايأتي. أحس بالجوع. نادل يقف أمامي. لا يتحدث إليّ. يضع في يدي كوبا من الشراب. لم أسأله عن عائشة. تركني ومضي فأخذت أشرب. فواكه وزيت. الزيت أكثر كثافة ولكن معدتي تتشربه في ارتياح. لعل هذا هو بالضبط ماكنت أريده. نادل آخر يأتي ويأخذ الكوب الفارغ في يدي. الظلام القادم من النافذة يتماوج كالزيت. ذراته تتداخل في الصورالتي أذكرها. تزيح ألوانها. تحولها إلى صور بيضاء سوداء. ثم ينزاح البياض. تصبح سوداء مريحة. ذكريات كانت من الضآلة بحيث لم تقاوم كثيراً. الظلمة الصافية تملؤني بلا ألم ولاندم. أرخي عضلاتي وأفتح فمي. أترك ذراتها تسكن مسامي وتنفذ من خلال بلعومي. كوب آخر من الزيت.. ثم كوب آخر.. جسدي يزداد ثقلا.. يصبح أكثر ثباتا فوق الأرض.يسحبونني من يدي. أسير معهم طائعا. ثيابي تنزع. ملابس أخرى بيضاء. صفوف الأطباق عالية. كل صف له شكل هندسي مختلف. ملوثة. أطعمة. سجائر. بصاق. أغسل وأغسل. بطيئا. تقع الأطباق. أصدر أصواتا. الوحيد الذي يصدر أصواتا. لا أحد يلتفت إليّ. لكني أصبح أسرع. الأطباق لاتقع. لاأصدر صوتا. أقطع الخضراوات. سكين لامعة تحول كل تلك الأشكال المهوشة إلى أشكال هندسية. مكعبات. مثلثات. مسدسات. تناسق. البطاطس والجزر والخيار تتناسق أخيراً. لاعفوية رديئة.

تنزع ثيابي. ثياب أخرى سوداء. رابطة عنق مثلثة. أترك المطبخ وأعبر الباب الصغير إلى قاعة الطعام. أدور وسط المناضد. زبائن. كائنات ملوثة. تمضغ وتهمس وتتجشأ. أصوات مزعجة. أنا أدور بلاصوت. لاصوت للنجوم في المجرات. ولا للكواكب. لاصوت للضوء. كل الأشياء النقية لاصوت لها.

ذات لحظة. ذات زمن ما. أراها أمامي. لاأذكر اسمها. تجلس في نفس المنضدة. نفس الثوب. رجل آخر يجلس في مقابلها. ينصت لحديثها باهتمام. يفكر فيما سيحدث بعد انتهاء العشاء. أمد يدي بالقداحة وأشعل الشمعة التي لاتحترق. أراقبهما قليلا. أضع الأطباق المثلثة والمربعة والمستطيلة. أكون أمامهما بدربة. تتحدث في حماس تشير إلى أشكال الخضراوات المقطعة. لاتنظر إليّ. أنسحب إلى الركن. أقف بحيث أستطيع أن أرى عينيها وهما تتألقان في ضوء الشمعة.


محمد المنسي قنديل
يوليو 1997
أعلى