محمود الورداني - بستان العلماء.. قصة قصيرة

كانوا ينحدرون من محطة "الأوتوبيس " في الطريق الممتلئ بقطع الأحجار الحديثة القطع وجبال الرمل والزلط، بينما انتصبت براميل القار ضخمة على جانبي الطريق، كانت الأم تتطوح بينهما، وقد حمل الولد حقيبة قماشية تضم الشُريك والبلح، أما البنت فكانت تشعر بالبرد مستسلمة لكف أمها، وتتطلع إلى الشواهد الممتدة في حضن جبل المقطم المغطى بالضباب.

وحين وصلوا أسفل ما بدا أنه نفق، استقامت أمامهم صفوف تتداخل من النسوة العجائز المنحنيات ببطء والشابات اللاتي كشفن عن رقابهن ونحورهن، فيما كانت شعورهن الطويلة تهتز في رياح الشتاء الخفيفة، وثمة رجال وأولاد صغار يتقدمون هناك حتى يغيبون في ظلمة النفق.

ينقبض قلبها وهم يغادرون النفق، وتحبس دموعها فيجتاحها ألم وانكسار لا تملك دفعهما، تشتد قبضتها على أصابع ابنتها التي تحاول الانفلات من القبضة المضمومة على كفها، ثم تدفع البنت برأسها تحاول أن تتبين أخاها على جانب أمها البعيد، لحظتها شد الولد أمه إلى بائعة الخوص الواقفة في بداية الطريق.

كانت امرأة سمينة تلف رأسها بمنديل أسود وجسمها مبلول، تناولها طفلة بجوارها حزم الخوص المنداة والمشبوكة بها بضع زهور متناثرة.

وتابعوا طريقهم يعاودون الانحدار بعد المطلع القصير على باب النفق، والأم ضائقة بالخوص المبلول مختلطا بتراب لزج، تحاول منعه من الانفلات من يدها اليمنى، وبيدها اليسرى تقبض على كف البنت.

في الليل كانوا قد ناموا متأخرين بعد حمام العيد، تنازعا حضنها فلم يكد الولد يغمض له جفن، يلفه دوار ونعاس، حاملا حقيبته ويدب بقدميه على الأرض غير المستوية، طوال الوقت يتهيأ خائفا من مفاجأة الأم، حين تتوقف وتأخذ في النشيج مرتجفة تسعى لوقف انفجارها وتكتم الشهقات وقد أغلقت عينيها.

وتذكر الولد، فيما كان يستقبل الحارة الضيقة، حيث يتكأكأ الجميع، بل ويكادون يتوقفون تماما، حتى تتسرب صفوف المتشحات بالسواد، ويدلفن رويدا، تذكر الولد أنهم لم يعودوا يطلعون على أبيه إلا في العيد الصغير والعيد الكبير فقط، في السنين الماضية كانوا يطلعون في رجب وشعبان ومولد النبي، بل إن أمه كانت تحكي أمامه إنها كثيرا ما اصطحبتهما، ويقضون أيام العيد جميعها في الحجرة الخشبية التي تضم شاهد الأب الراقد مع أعمامه وجده وأبناء أعمامه ورجال العائلة الآخرين.

واستقبلوا ضريح إحدى زوجات سلطان مملوكي، وانتاب الأم ذات الخوف على الولد والبنت من ميل القبة الشديد، فحاولت أن تخطو خلفهما وتكاد تدفعهما دفعا بين أجساد النسوة البطيئة، بينما تلفحها الرياح القاسية الخفيفة وتطلم وجهها ورقبتها. زمان.. قبل أن يموت زوجها طلعت معه مرتين أو ثلاثا، في المرة الأولى تركها أمامه وقد انفجر ضاحكا، لما وجدت نفسها فجأة أسفل الضريح، لحظتها كانت متأكدة أن القبة على وشك السقوط، وحكى هو لها عن الضريح والمرأة الراقدة منذ مئات السنين دون أن تسقط قبتها، ثم ذكر لها اسمها الذي نسيته الآن.

ومن بعيد، تراءى لهم بستان العلماء، رأت البنت لون الشجر الأخضر يتألق بين الشواهد البيضاء، حيث تجده دوما: الشيخ عُلما الضامر الذي يكاد جرمه أن يكون جرم طفل بعينيه الضيقتين ترسمان ابتسامة ماثلة على وشك الانفراج.

بعد أن تضع الأم الخوص على الشاهد الأول في حجرة النساء، حيث يرقد الرجال، وهما يقفان خلفها يرددان الفاتحة، تلتفت هي للنسوة القاعدات على الحصيرة يشددن أثوابهن ليغطين ركبهن الوامضة خلف الجوارب السوداء، فيستديران وتستقبلهما النسوة يطرقعن قبلاتهن على خديهما، عمتهما "أفكار" وحدها تستبقي البنت قليلا في حضنها وهي تشهق مختنقة بدموعها تغطي وجهها، غير أن رائحتها حلوة حين تحتوي جسم البنت الصغيرة. وتذكرت البنت أنهم سيدلفون بعد ذلك عبر الحاجز الخشبي نحو الحجرة الأخرى: حجرة الرجال حيث ترقد النساء، وتضع أمهما الخوص وتتراجع لتقرأ الفاتحة عبر باب حجرة النساء، تدور البنت مع أخيها على الرجال الذين يلامسون وجنتيهما بسرعة، وتنتظر أن ينتهوا من ذلك سريعا حتى تركض إلى البستان لتنادي على الشيخ علما.. هو الوحيد الذي تصر الأم على أن يتلو على روح أبيها، يظل الرجل يتلو مقرفصا وهو يهز جسمه يمينا ويسارا، بينما تتعالى أصوات النسوة يثرثرن، والرجال يزجرونهن بين الحين والآخر.

ها هي الرائحة تهل عليهم، رائحة الشجر وصفوف الصبار تحيط بغابة تعج بالشواهد المرفوعة الهامة والمنتهية بطرابيش قصيرة محفورة في نفس لوح الحجر اللامع بكتابة غائرة.

قال الولد، وقد ناء بحمله الثقيل: قبل أن ينصرفوا لقبور أخرى أو إلى بيوتهم، يضعون العيدية في جيوبنا ويمضون بينما نراقب نحن تناقصهم حتى يغيب آخرهم، فآخذ "منى" أختي في يدي وننطلق إلى الخارج لنلعب مع الآخرين في الباحة الواسعة، أمام البيت الخشبي ونترك أمي وحدها. وقبل أن يغادروا آخر البستان، فاجأتهما الأم بالتوقف عن السير، ثم مالت تستند على السور، وانخرطت في شهقات قصيرة متتابعة، تحاول كبحها وهي ما تني تهتز.
[SIZE=3]
ابريل 1994[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى