عبد الرزّاق بوتمزّار - معطف السّيـد بوليزار

بَعدَ نظرةٍ خاطفة، حدّدَ من خلالها موقعَ الدكان، توقـفَ وأخرج عدسته. اقترب من بائع اللـّعَب الجائل، المُنكمش على نفسه صامتاً فوق كرسيه، واستأذنه في التقاط صور لمعروضاته الصّغيرة. ألقى نظرة على الدّكان، وهو يتحدّث إلى البائع، الذي اخترق بردُ يْنّايرْ جسدَه النّحيف فجعله يلوذ بكرسيه الصّغير جامعاً إليه أطراف معطفه البالي، كما وجهِه البارد، الخالي من أيّ اهتمام. لم يكن السّيد بُوليزارْ مُهتمّاً بمعروضات البائع ولا بحياده البارد وهو يردّ على أسئلته المُرتجَلة. ما همَّ السّيد بُوليزارْ، في الحقيقة، هو أن يتأكد من أنه لا يزال هناك؛ معطفُه الذي لم يصرْ بعدُ له.. في كلّ مرّة يرتجل حيلة للاقتراب من المحلّ وإلقاءِ نظرة عليه. بدَا فخماً في زاوية الدّكان الواسع، حيث كان قد اتفق مع البائع على أن يحتفظ له به. شعر به، السّيد بُوليزارْ، كأنّه يستفزّه ويتحدّاه، معطفه الذي لم يَصرْ بعدُ له..
دفَع، منذ بداية الخريف، القسط الأكبرَ من ثمن المعطف؛ اتّفق مع البائع على أن يُكمل له المبلغ من راتب الشَّهْر المُوالي وترَك المكان. حينذاك، لم يكن يفصل عن نهاية الشّهر إلا أسبوع أو أدنى، لذلك لَمْ يُعرْ السّيد بُوليزارْ أهمّية للمبلغ البسيط المُتبقّي في ثمنِه، مِعطفِه الذي لم يَصرْ بعدُ له. كان من مارْكة رفيعة، وكلّ يوم يمُرّ عليه، في هذه الأيام الباردة، دون أن يضعه فوق كتفيه يحسبه بالسّاعة. يستعجل اليوْمَ التالي بصبرٍ أقلّ وبأملٍ أكبرَ أن تحُلّ نهاية الشَّهْر سريعاً، كي يقبض راتبه ويدفع، أخيرا، ما تبقى من ثمنه وارتدائه في أقرب فرصة؛ مِعطفِه الذي لم يَصرْ بعدُ له؛ إنّما كان للقدَر رأي آخر.. مـرّ الشهر الأول فالثاني. مرّ الخريف وحلّ الشتاء وكادت أيامه تنصرم والسّيد بُوليزارْ لم يستطع بعدُ دفع ما تبقى في ثمن المعطف. ففجأةً، هبّت هوجاءَ كاسحة، عاصفةٌ على عُمومِ البلد. تعطـّلتِ الأعمال ولـَم يقبض السّيد بُوليزارْ درهما واحداً من راتبه، الذي لَمْ يتوقع يوما أنّ صرْفه قد يتوقف هكذا، على حين غـرّة. وكما معطفِه (الذي لم يَصرْ بعدُ له) بقي معلـّقاً، راتبُ السّيد بُوليزارْ، فلمْ يستطِعْ إلى دفعِ المبلغ المتبقي في ثمن المعطف سبيلاً ولا حيلة. لا أعمالَ سارت كما يبغي الطيّـبُ بُوليزارْ ولا غيرُ الطيّب في وظيفةٍ ما، في بلد ما؛ لا مُعامَلاتٍ تحقـّقت ولا صفقاتٍ أُبرِمت ولا مشاريعَ أُنجِزت ولا دراهمَ في حينِها صُرفت. الأزمة التي اعتادت البلاد حلولها بين ظهرانيها في هذه الفترة من السّنة وتحاول التكيّف مع تبعاتها وتصريفها بأقلّ الأضرار الممكنة، كانت أشدَّ وأعتى. أينما ولـّيتَ طبلةَ أُذنك أو لَمْ تُـولِها لا تسمع سوى شكاوى من الوقت “الرّاكْدة” والحركة الواقـْفة.. دخلت الشّركة في منعطف تراجيديّ لم يكن أكثرُ المُتشائمين بين موظفيها يتوقّعه. بعد اجتماعاتِ أزمة مُتتالية، نزل عليهم، ذاتَ صباح بارد، الخبرُ /الصّاعقة.
-أنتم تعرفون جيّداً أنّ الشّركة صارت تعيش في وضع الأزمة خلال الآونة الأخيرة…
قال المديرُ، بنبرة حزينة وبأوداج مُتهدّجة، قبل أن يواصل حديثه، وهو ينتقل بين الوجوه بعينيه المُنتفِختين، بنظراتهما التّائهة، كأنَّما لا تريان شيئاً ولا أحدا:
-كنتُ أظنّ أن الأزمة عابرة، كما اعتدنا في هذه الفترة من السّنة، لكنْ يبدو أنّ الأمورَ أخطرُ من توقعاتنا الأكثرِ تشاؤماً.
مع كلّ كلمة من كلماته، يتبخّرَ حُلم الطيّب بُوليزارْ في أن يرى الطيّبَ دافئاً في معطفٍ يليق به في شتاء المدينة، الذي رافقته نسبٌ قياسية في انخفاض درجات الحرارة. شتاءُ كازابلانكا هذه السنة بلا معطفٍ من هذه المارْكة التي اكتسحت واجهات المحلات الأنيقة سيمرّ ثقيلاً على السّيد بُوليزارْ ومُنهِكاً لصحّته، التي تراجعتْ كثيراً بفعل تركيزه وسهره الزّائدَين في عمله. لكَمْ تمنـّى ارتداء المعطف قبل أن يلقاها في موعدهما اللاحق؛ يريد أن تظهر عليه “أماراتُ التّرقي في السلّم الإداري”، كما قال لها في آخر لقاءاتهما قبل أسبوعين. سيُشجّعها ذلك على بذل مجهودٍ أكبرَ لإقناع والدها، التّاجر، الذي لم يُبدِ يوماً ارتياحاً تجاهه منذ عرف وظيفتَه، “غير المُستقرّة والتي ليس بمقدور مُزاولِها أن يفتح باباً ولا أن يُكوّن أسرة”؛ هكذا كانت تنقل له كلـّما ألحّ عليها في معرفة مَوقفَيْ والدَيْها منه. منذ مدّة طويلة وهو يُواعدها دون أن يستطيع حتى الآن زيارة منزلها لخطبتها. خطـّط طويلاً حتى تسير أمورهما كما أراد في بداية العام الجديد. أراد أن يفتتح السّنة بعقد قرانه عليها، أخيراً، بعد كلّ هذه السنوات التي أمضاها معها يراوغان العيون المُتلصّصة بين مقاهي المدينة. لكنّ العاصفة الهوجاء التي هبّت على اقتصاد البلاد أصابتْ كلّ مخطّطاته في مقتل.
منذ شهرَين وهو يختلق، في كل يوم، عذراً جديداً كي يتحدّث إلى البائع؛ الذي يُطمئنه في كل مرّة، مؤكداً له أنْ لا داعيّ للقلق؛ فهو سينتظره في زاوية الدكان إلى أن يُحضر ما تبقّى من ثمنِه، معطفُه الذي لم يَصرْ بعدُ له.. في لحظةِ يأس، والنّكبات تتوالى عليه، فكر في أن يطلب من البائع أن يعيد له ما دَفَع مقابل معطف يأبى أن يَصيرَ له. “لم تعدْ بي حاجة إلى المعطف، رجاءً أعدْ لي التسبيق، وحين يتوفر لديّ المبلغ كاملاً آتيك وأشتري آخر”؛ فكر في أن يقول للبائع، لكنّ خجله منعه من ذلك. تراكمتْ عليه فواتير الماء والكهرباء منذ حلّ بمنزله الجديد، في الحيّ الراقي الذي اختاره عُشّـاً يجمعه بحبّ حياته؛ حين تأخّر أكثر ممّا ينبغي في دفْع ثمن ما استهلك من المادّتين أرسلت الشّركة المُفوَّضُ لها تدبيرُ القطاع أحدَ مُستخدَميها وقطعَ عنه التزوّد بالكهرباء، ثمّ في مرحلة لاحقة، الماء.. في الأثناء، لم يستطع دفع إيجار شهرين متتاليّين للمالك، فصار منزله، الذي أراده حديقةً غنّاءَ لحبّهما، قطعة مُظلمة وكئيبة؛ والوضعُ ما انفكّ، كما نفسيتِه المهزوزة، يتأزّم ويتردّى.
-يؤسفُني أن أخبركم بأنّ أمور الشّركة لم تعدْ تسير بتاتاً كما ينبغي خلال الشّهور الأخيرة، لقد وصلتْ مُعامَلاتُنا إلى مستوى غير مسبوق، كثيرٌ من زبائننا لم يدفعوا ما في ذِمَمهم وتراكمت الدّيون المُستحَقـَّة لنا على شركاءَ ولشُركاءَ آخرين علينا، دون أن نجد، ولو من التّبريرات، ما ندفع به مُطالباتهم المُلحّة لنا بالتّسديد ولو إلى حين؛ وأنتم تعرفون الوضع العامّ لاقتصاد البلاد في هذه الأيام المتأزّمة؛ لكنْ اطمئنّوا، نحن نُفكـّر فيكم قبل التّفكير في أنفسنا..
قال المدير، في الاجتماع الثاني، للحاضرين، الذين جلسوا متباعدِين في مقاعد الغرفة الواسعة وهم يتبادلون نظرات حائرة؛ مُتسائلين في صمتٍ عن سـرّ هذا الاجتماع، الثّاني في ظرف أسبوع. لَمْ يسبق للمدير أن دعا إلى اجتماعَين مُتواليّـَين في هذه المُدَة الوجيزة. توقـّعَ بعضهم أن يسمعوا أخطرَ ممّا قال المدير سابقاً؛ لم يخبْ ظنـّهم، وكان منهم السّيد بُوليزارْ.
-أمام هذا الوضع المأزوم، يُؤسفُني، باسم شركتكم سِـرّ السعادة، أن أخبركم بأنّ مالية المؤسَّسة قد تضرّرت كثيراً؛ والحقّ أنّنا لم نجد أمامَنا غيرَ حلَّين مُـرَّين اخترْنا منهما، طبعاً، أهونَهما، مُراعاةً لكم وتقديراً لتضحياتهم الجسام، التي نُقدّرها ونُشيد بها، لكنكم تعرفون أنْ ليس كلّ ما يتمنّى المرءُ يُدركه..
افترّت شفتـَا الطيّب وغير الطـّيب ممّن حضروا اجتماعَ الأزمة عن ابتسامات مُلغزة. يعرفون أنّ الأوضاع مُتأزّمة، لكنْ لم يضعوا في حسبانهم أن يأتيّ عليهم وعلى “سـرّ السعادة” يومٌ يُخيّم فيه كلّ هذا الحزن، وتسري في الأجواء كلّ هذه الشّحنات السالبة. لم يعُدْ ثمّةَ ما يشي بكثيرِ سعادةٍ بين دهاليز شركتهم، صانعةِ السّعادة، ولا بقليل…
-أجدُني عاجزاً عن اختيار الكلمات المُناسِبة، لكنْ دعُوني أنتهِ من هذا الموقف بسرعة.. اعذروني أن أعلن لكم أنّ إدارة الشّركة ارتأت أن ندفع لكم نصف الأجور فقط ابتداءً من الشّهْر الجاري إلى أن تنقشع هذه السّحابة، الـّتي نرجو أن تكون عابرة، وكذلك ستكون، بحول الله وبفضل تفهّمكم ومؤازَرتكم..
(نحن، أيضاً، لا نريد لهذا الموقف أن يطول). قال بعضٌ ممّن حضروا الاجتماع لأنفسهم، وقال الطيّب.
عايشُوا الأزمة وحاولوا، جاهدين، أن يُجنّبوا الشّركة ما استطاعوا من تبعاتها؛ لكنّ رياح الخريف هبّتْ عاتيةً وعاصفة. أصابت مفاصلَ اقتصاد البلاد بعجز غير مسبوق وعظامَ الطيّب بآلام حادّة وجُيوبَه بثقوب كثيرة..
“لن أشتري المعطف، في نهاية المطاف، لتذهب إلى الجحيم الشّركة وأزمتـُها المُستجدّة، التي لم تشتدَّ إلا بعد أن قرّرتُ شراءَه، هذا المعطف اللّعين الذي يأبى أن يصير لي”. قال لنفسه، الطيّبْ، قبل أن يُعيدَه صوت المدير إلى مكانه في غرفة الاجتماع، اجتماعِ أزمةٍ للمرّة الثانية في أسبوع واحد.
-كما قلت، فقد اخترنا من الحلول أهونَها مُراعاةً منّا لأوضاعكم بعد كلّ تضحياتهم في سبيل أن تستمرّ سـرّ السعادة في ضمان سعادة زبائنها.. لا أريدكم أن تتفاجؤوا إن لم تتوصّلوا في نهاية هذا الشَّهْر بِغيرِ نصف رواتبكم! لسوء الحظ، لم نجد أمامنا حلا أفضلَ من هذا. لقد اضطررنا إلى خفضِ أجوركم كي نتفادى قطع أرزاقكم بالمرّة.. هل مِن تعقيب أو سؤال؟ وإلا رجاءً، دعوني أُنهِ هذا الاجتماع بسرعة.
قالها وهو يتهيّأ لترك كرسيه. يعرف أنّ ما سمعوه سيشلّ تفكيرهم إلى حين. غادرَ القاعة، بجثـّته العجيبة وهو يتمايل مثل فيلٍ أسيويّ أعزب. (لماذا يتشابه المديرون في الأمور السّلبية، مثل البدانة والبرود والحضور المتأخّر إلى مقرّات العمل، ولو في عـزّ الأزمات؟!).. لم يكن الطيّب في مزاج جيد للاسترسال في مثل هذه الأسئلة والاستنتاجات التي يمضي في مُطارَدتها، في العادة، جزءاً من نهاره وليله. غادر غرفة الاجتماع وهو يفكر فيها وفيه، لن يلبس أيّاً منهُما؛ خطيبته، التي لا يبدو أنّ تَفاقُم أزمة الشّركة سيجعلها تكون من نصيبه، على الأقلّ في الأجَل المنظور، ولا هذا المعطف، الذي كان يتمنّى أن يرتديه منذ أول أيامِ الخريف، فإذا بالشّتاء كاد ينتهي وهو لَمْ يصرْ بعدُ له…



عبد الرزّاق بوتمزّار

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى