جابر عصفور - ضعف فن القصة..

يبدو أن محمد حسين هيكل كان يستبطن حالته بوصفه مثالا على غيره من أبناء جيله، عندما لاحظ في سياق حديثه عن أسباب ضعف فن القصة في الأدب العربي لعصره بسبب ضعف حضور المرأة في المجتمع أن الكثيرين من الذين يكتبون قصصهم في الشرق العربي يقفون عند القصة الأولى، يروون فيها تاريخ عاطفتهم الأولى حين كان الشباب لا يزال يدفعهم إلى تخليدها، فإذا وقعت لهم بعد ذلك تواريخ عاطفية أخرى، ولم يكونوا قد وجدوا التشجيع من ربح مادي أو رعاية عظيم أو تشجيع سيدة مهذبة تعرف كيف ترتفع بهم إلى ما فوق الاعتبارات الثانوية فتقوي ضعفهم وتلقي عنهم غبار فتورهم، نزعوا إلى الناحية التي يرونها أوفر كسبا وأكفل بالشهرة والمجد، وإن تكن شهرة سريعة الانطفاء ومجدا مقضيا عليه بالزوال.

وتلك ملاحظة استبطانية دالة في انطباقها على هيكل الذي بدأ حياته الأدبية ببعض القصص القصيرة التي نشرها في "الجريدة" إلى جانب روايته "زينب" التي استعاد فيها بعض ملامح تاريخه العاطفي الأول، ولكنه سرعان ما انشغل عن هذا التاريخ وعن فن القص كله وانصرف إلى ألوان الكتابة الأخرى، فلم يتخصص في الفن الذي أحبه كل الحب، والذي استخدمه لتصوير صفحات من تاريخه الشخصي، غير أنه ظل على يقينه بأهمية هذا الفن، وعلى إدراكه أن الخاص هو المدخل إلى العام في الفن الذي رآه متأثرا بالمبادىء العلمية التي أشاعتها الفلسفة الوضعية، تلك الفلسفة التي انتقلت بالقص من الوجدانيات الغرامية إلى تمثيل الواقع فيما كتب إميل زولا وجوستاف فلوبير وموباسان على اختلاف النزعة التي نزع إليها كل واحد منهم، فكانت الواقعية "الرياليسم" والطبيعية "الناتورالسم" تعبيرا عن ميول العصر العلمية، وعن الحرص على الطرق التحليلية في البحث وما تدفع إليه في أحيان كثيرة من التشكك واللا أدرية. وقد أفضى التطور المذهل لهذا الفن في أوربا إلى ما أكد أهمية التخصص في وعي هيكل وحتمية الانقطاع له، خصوصا بعد أن أقنعته قراءاته المتتابعة إلى أنه ما عاد يكفي أن يحاول الكاتب العربي وضع الأقصوصة تلو الأقصوصة في أوقات فراغه، ما ظل غير قادر على الانقطاع لدراسة موضوع يكون قصة أو رواية كاملة تقتضي السنين الطويلة من العمل.

ولذلك كف هيكل عن كتابة الرواية بعد "زينب" التي كشف فيها عن بعض تاريخه الشخصي من وراء قناع حامد، كما توقف عن كتابة الأقصوصة بعد محاولة تقديم نماذج تحقق تصوره عن الأدب القومي على طريقة والتر سكوت، واقتنع من فنه الأثير ببعض دور الريادة، منتهيا إلى أن التخصص في القصص كالتخصص في كل عمل من أعمال الحياة، هو مفتاح النجاح والوسيلة الوحيدة للخصب والإنتاج. وزاد هيكل اقتناعا بذلك إيمانه بأن العصر الحاضر انفسح فيه ميدان العلم الإنساني إلى حد أصبح يفرض التخصص في كل مجال من مجالات المعرفة والإبداع. وآية ذلك أن ميدان الفن القصصي والروائي قد أصبح فسيحا إلى حد يحسن معه أن يتخصص الكاتب في أحد فروعه لتعذر الإحاطة بفروعها كلها إحاطة يتيسر معها الإتقان. ويؤكد هيكل ذلك بقوله إننا إذا عدنا إلى أكابر الكتاب القصصيين والروائيين رأينا لكل واحد منهم نوعا خاصا يمتاز به ويغلب عليه، ففي بورجيه غير ما في أناتول فرانس، وما في زولا ليس في فلوبير أو موباسان. وأولئك مثال على غيرهم من كتاب القصة الفرنسيين الذين عرفهم هيكل فيما قرأه من الأدب الفرنسي في النصف الأخير من القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين، حيث تميز كل قاص بميدان خاص انفرد به وتخصص فيه وقصرمباحثه على التعمق فيه ومعرفة ما سبق به إليه، مؤكدا بإنجازه الفريد أن التخصص وحده هو الذي يجعل الإنسانية ترجو بلوغ الكمال في ميدان الأدب والفن وميادين العلم المختلفة. وأتصور أن إلحاح هيكل على أهمية التخصص فيما كتبه عن أسباب فتور فن القصص يضيف سببا آخر إلى الأسباب التي رأى فيها ما حال دون وصول هذا الفن إلى ما رآه جديرا به في نهاية العشرينيات ومطلع الثلاثينيات. وهو سبب يصل بين هيكل وأقرانه من أمثال طه حسين وإبراهيم المازني وتوفيق الحكيم وعباس محمود العقاد وغيرهم من أبناء جيل ثورة 1919 الذين لم يفرغوا لهذا الفن بما يجعلهم متخصصين فيه لعوامل متعددة وأسباب متباينة. فكان ما أبدعوه من هذا الفن ضمن مشروعهم التنويري العام، متعدد الجوانب والإنجازات، بمثابة نماذج دالة مهدت الطريق للأجيال اللاحقة التي لم تعرف معنى التخصص الكامل في هذا الفن إلا مع نجيب محفوظ الذي رأى في فن القصة "شعر الدنيا الحديثة" الزاخرة بإبداعات العلم وكشوفه، فوصلت القصة على يديه إلى آفاق لم تصل إليها من قبل، وفتحت أمام الأجيال التي تعلمت منه حرية التجريب وتنوعه ما أضاف إلى عوالمه الباهرة.

ولكن إذا كان غياب التخصص سببا من الأسباب الأساسية التي تضاف إلى غياب حضور المرأة، في إجابة هيكل عن السؤال الأساسي لتخلف فن القصص في عصره، فإن هذا السبب يرتبط بالمبدع من الزاوية التي تعطفه على القراء في دائرة التخلف التي تشيع فيها الأمية من ناحية، ولا ترتقي فيها الثقافة بما يدعم التربية السليمة للعواطف والمشاعر من ناحية ثانية. أما الأمية فإنها تتقلص بدوائر القراءة، وتحول دون القاص والوصول إلى أكبر عدد من القراء، فتظل رسالته التي تنطوي عليها رؤيته الإبداعية سجينة العدد المحدود من النسخ التي لم تجد قراءها. وسواء كانت هذه الأمية جهلا بالقراءة أو جهلا بقيمة الآداب والفنون. فيما يعرف باسم أمية المتعلمين الذين لا يعرفون الآفاق الرحبة للثقافة العامة في معناها العميق، فإن هذه الأمية مسئولة عن سبب لافت من أسباب فتور القص، خصوصا إذا قسنا علاقة القاص العربي بقرائه على علاقة القص في الأقطار التي تخلو من الأمية العامة والأمية الخاصة، حيث يصل المطبوع من العمل القصصي الواحد إلى ما يجاوز عشرات الألوف إن لم يصل إلى مئات الألوف. والقصة الحديثة تختلف عن المسرحية أو الشعر من المنظور القرائي، لأنها أحوج ما تكون إلى العين القارئة للفرد المتوحد في فعل القراءة، وذلك بالقياس إلى الشعر الذي يمكن الاكتفاء في فعل تلقيه بالاستماع إليه، خصوصا في المجتمعات التي تغلب عليها التقاليد الشفاهية، وكذلك المسرح الذي يخاطب الحواس مجتمعة في لحظة الأداء الجمعي التي هي لحظة تلق جمعي بالقدر نفسه، لا تنطوي على فعل الاستقبال الفردي لعين قارىء الرواية المتوحد بالضرورة.

صوب الأجمل

وقريب من الأمية ما يتصل بها من تدني الوعي الثقافي العام، وغلبة النوازع البدائية في الاستجابة إلى رؤى الإبداع وآفاق الفكر. ولذلك يضيف هيكل ما يؤكد أن ضعف أدب القصص كضعف استمتاعنا بالحياة استمتاعا كاملا يرجع إلى عدم تربية عواطفنا تربية صحيحة، ذلك لأن هذه التربية هي التي تكفل للعواطف حسن الاستمتاع بالحياة فى أجمل صورها وأكثرها سموا وسناء ونورا، فتكفل ازدهار أدب القصة ازدهارا لا سبيل إليه في حياة ناقصة متبلدة العواطف، إلى حد يجعل أهواء المرء وشهواته تحل من نفسه محل المشاعر السامية، فتفسد عليه الحياة التي لا يرى منها سوى جوانبها الغليظة الفجة. وكل فن لا يصدر عند صاحبه عن حبه لجانب من جوانب الحياة التي تسعى إلى مجاوزة الضرورة لا يمكن أن يزدهر.وفن القصص أكثر من سائر الفنون حاجة لحب صاحبه الحياة المتغيرة صوب الأجمل، لأن القصص صور التغير في الحياة الساعية إلى الكمال في صراعها مع أضداده ونقائضه، وفي تأبيها على العواطف الهزيلة التي لا تستطيع أن ترتفع عن مقام الغرائز إلا بمقدار ضئيل.

وكان هيكل يؤكد، نتيجة هذا السبب، أن القصة، أيا كانت الحوادث التي ترويها، إنما تدل على فكرة وتتصل بمثل أعلى في نفس كاتبها. ولذلك كان كتاب القصة الذين استحقوا البقاء من ذوي السعة في العلم والاطلاع إلى جانب مالهم من موهبة الفن القصصي في التصوير والسرد. وما تنطوي عليه أعمالهم من رؤى تضيف إلى العالم ما يغنيه، وتسهم في الانتقال بقارئها من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، دليل على أن الفكر هو أفق الرؤية، والإبداع السردي هو صياغة هذه الرؤية بما يفرض حضور أصحابها من الكتاب علي الوعي القارىء. ويضيف هيكل أن هؤلاء الكتاب يحرك اطلاعهم روح التأمل السردي للمثل العليا التي يطمحون إليها. والفارق بينهم والفلاسفة هو الفارق بين إبداع الخيال وإبداع الفكر المجرد. الفارق الذي يرد قيمة القص إلى ما تتجسد به رؤاه في الحياة وبالحياة، وإلى ما يرسمه القاص بواسطة معطيات الحياة الحية من عوالم إبداعية يراها ويحسها عامة أهل الحياة. لأنها متصلة بعواطفهم ومشاعرهم وبالواقع المحسوس في الكون الذي لا يستعصى على الإدراك. ولا يحتاج إلى انقطاع ودراسة قد يحولان بين الشخص وأن يدرك كثيرا مما في الحياة غير ما انقطع له واختص به. ويعني ذلك أن الفن القصصي يعبر بطريقته الخاصة عن الحقائق التي يكتشفها، والتي ينافس العلم بل قد يسبقه في الدلالة عليها. وإذ صح أن الفن يعبر عن الحقائق بطريقته الخاصة فإن طبيعته النوعية تساعد القارىء على التحصيل منه أضعاف ما يحصل من مقررات العلم فيما يقول هيكل، وخصاله الحدسية كثيرا ما تفضي به إلى أن يسبق العلم إلى الكشف عن الحقائق، فكثيرا ما يصل إلهام الفنان إلى ما تضطرب أمامه أدوات العلم عصورا وعصورا قبل أن تصل إلى إقرار ما كشف الفن عنه.

صراع الأضداد

ولا تنفصل قدرة الفن على الكشف عن القدرة على خلق عوالم جديدة، عوالم تسهم في صراع الحياة مع أضدادها التي تعوقها عن الوصول إلى مستوى الحرية، فتدفع بالإنسان إلى الإرتقاء نحو المثل العليا التي لا يكف عن التطلع إليها. ولا يخلو صراع الحياة مع أضدادها من الأبعاد الاجتماعية والسياسية التي رأى هيكل في تقاليدها الجامدة ولوازمها الفاسدة عوائق مضافة إلى أسباب فتور فن القصة. وإذا كانت الأبعاد الاجتماعية ترتبط بغلبة التقليد والنفور من روح التجديد، ذلك الروح الذي ألح هيكل على أهميته في مذكرات الشباب، فإن هذه الأبعاد ترتبط بالوضع المتخلف للمرأة التي هي لحمة فن القص في حضورها الخلاق الذي هو حضور نصف الإنسانية الثاني فيما يصفه هيكل. ولم تكن مصادفة أن تشغل قضية المرأة الحيز الأكبر من مذكرات الشباب التي كتبها هيكل في باريس، وأن تكون المرأة بؤرة الأحداث وعنوان الرواية التي حاولت بوسائلها الخاصة الدفاع عن الحق الإنساني للمرأة في مواجهة ما أسمته "ظلامات الجمعية"، أو المعتقدات الفاسدة للمجتمع الذي عانت فيه أمثال زينب في روايته الرائدة التي كانت بمثابة "مناظر وأخلاق ريفية". ولم يكن من قبيل المصادفة أن يرتبط الهجوم الأخلاقي الباكر على فن القص بأثره الأخلاقي على المرأة، وما يمكن أن يؤدي إليه هذا الفن من تهييج العواطف وإثارة دواعي الشهوة. وقد نقل أحمد الهواري، في دراسته الرائدة عن نقد الرواية في الأدب العربي الحديث، عن ناقد مجلة "المقتطف" ما كتبه في أغسطس 1882 عن ضرر قراءة الروايات، مؤكدا أن الشابة إذا قرأت "رواية حبية" جعلت تستغنم كل فرصة لقراءة مشاكلها فيضيع وقتها سدى، وتهمل واجباتها، وتغدو فريسة لاندفاع العاطفة التي توقعها في الندم أخيراً. وقد كتب أحمد لطفي السيد نفسه في "الجريدة" في نهاية شهر يناير من سنة 1911 عن الحب والصداقة متأثرا بالهجوم على فن القصة، فطالب بإنشاء قلم مطبوعات كقلم مطبوعات الحكومة تكون وظيفته وضع "كتاب القصص ومعربي القصص تحت المراقبة، حتى لا يضيفوا إلى التشويه الطبيعي في الأمزجة تشويها آخر صناعيا". ويمضي في هذا الاتجاه مؤكدا أن أغلب الفتيان أو الفتيات في سن معلومة تسحرهم القصة، فتسري إليهم العدوى من أخلاق أبطال الروايات إذا قرأوها في خلواتهم.

ولاشك أن النظرة الاجتماعية المستريبة في المرأة بوجه عام، والنظر إليها بوصفها عورة ينبغي سترها والحذر من كشفها أو الحديث عنها، وهي النظرة التي حاول مقاومتها رواد التنويرالذين اهتموا بتحرير المرأة، ابتداء من رفاعة الطهطاوي صاحب كتاب "المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين" مرورا بقاسم أمين صاحب كتابي "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة". كانت النظرة السائدة التي دفعت هيكل إلى نشر الطبعة الأولى من رواية "زينب" دون ذكر اسمه عليه، واستبداله كلمتي "مصري فلاح" بالاسم الذي يدل عليه، فقد خشى من معرة كتابه "رواية حبية" في مجتمع لا يزال ينظر إلى المرأة بوصفها عورة، ويتعامل معها على أنها "حيوان المتاع والشهوة" على نحو ما كتب هيكل نفسه في مذكراته، مجتمع لا يطيق المتزمتون فيه حديث الحب أو حتى ذكر أسماء السيدات في مجالس الرجال. ولم يضع هيكل اسمه على روايته إلا بعد أن اطمأن إلى تقبل الرأي العام لكتابة الرواية من ناحية، وشيوع دوران الرواية حول موضوع الحب الذي أسهم الكتاب السابقون عليه. وبخاصة جرجي زيدان، في تأكيد جوانبه الأخلاقية الإيجابية.

فتور القص

ولولا هذه النظرة ما قص إبراهيم المازني في مقالته الأولى عن رواية "زينب" التي نشرها في "السياسة الأسبوعية" في السابع والعشرين من أبريل سنة 1929. عن ذلك الشيخ الشاب الذي دخل على هيكل، وهو يحادث المازني في أمر من الأمور، طالبا نسخا من رواية "زينب". فتحرج أن ينطق اسمها أولا، ودون ألقاب كما لو كانت "زينب" إحدى قريبات هيكل اللائي لا يليق التصريح باسمها، ثانيا على الأقل دون ألقاب، في المجالس التي تضم من ليس من الأقرباء. وشبيه بذلك ما يرويه المازني نفسه، في مقاله الثاني عن "زينب" بالجريدة نفسها، عن صديق قال له مرة، وقد علم أنه هم بوضع رواية يعالج كتابتها، أن الرواية فن لا يليق به ولا يناسب مركزه الأدبي، فصدم هذا الرأي المازني من صديقه الذي كان يعرف منه الجد والإخلاص وصدق السريرة، فالقصة عند صديق المازني الذي لا يختلف عن الشيخ الشاب تنتمي إلى نوع أدبي يرتبط بالكشف عن المستور الاجتماعي الذي يحرص المجتمع المحافظ على الإبقاء عليه في ستره وحجابه، بعيدا عن مضرة القص الذي ينطق المسكوت عنه من العادات الاجتماعية، ويسلط أضواءه الكاشفة على العورات التي يخفيها المجتمع التقليدي رياء ونفاقا فيضع هذا الفن المجتمع في مواجهة نفسه، كما لو كان يطالع نفسه في مرآه تريه آثامه ونواقصه. ولن يبادل مثل هذا المجتمع القصة كشفا كشفا، بل يناصبها العداء، ويشكك في سلامة نوازعها الأخلاقية، في نوع من أنواع الآلية الدفاعية التي تخفي مبرراتها الأصلية.

ولا يخلو مثل هذا المجتمع التقليدي من سبب آخر يشير إليه هيكل، في حرصه على تعداد أسباب فتور القص، وهو سبب يتصل بالأخلاق التي تشيع في المجتمعات التقليدية التي تضطرب فيها القيم، وتختلط لديها المسميات، فتشيع فيها نزعة هدم وتدمير لكل ما ينطوي على قيمة أصيلة، وهي نزعة يلحظها هيكل فيما يعدده من أسباب فتور القص، ويرى فيها عائقا لا يزال متحكما في أخلاق الشرق من الميل إلى هدم كل رجل ذي قوة وموهبة، وهدمه لأسباب لا صلة لها البتة بقوته وموهبته. فهذا كاتب قدير ولكنه يختلف معنا في الرأي السياسي، أو ينافسنا في صفقة من الصفقات، أو يثقل علينا ظله فيما يقول هيكل، وإذن يجب علينا هدمه أمام الجمهور وإن اعترفنا له فيما بيننا وبين أنفسنا بالتفوق والمقدرة. ومادمنا لا نستطيع أن نهدمه من طريق النقد النزيه فيجب أن نحتال لذلك من كل طريق آخر. ويمضي هيكل في عرضه قائلا إن كثيرين مع الأسف يضعفون أمام هذه المهاجمات غير الشريفة، ويرون فيها جحودا لمجهود أكبر همهم منه خدمة لغتهم وبلادهم أكثر من خدمتهم أنفسهم، فيعدلون عن متابعة سيرهم وينزعون إلى ناحية أمن لكرامتهم وشرفهم وأكفل بحياة أكثر طمأنينة ودعة. وإذا كان من بين الكتاب من لا يحفل بهذا الجحود، في سبيل الرسالة التي يستشعرها في داخله، فإن صاحب الموهبة لا يستطيع من غير معاونة الأنصار والمؤيدين أن يرى في حياته تمام النجاح لرسالته. ولو أن الهدم خفت في النفوس وطأته، وحل محله التقدير النزيه لثمرات الأقلام، لقوى ذلك من هذا الضعف الذي يلاحظه الكثيرون في القصة والرواية في الأدب العربي.

مرارة ذاتية

ومن اليسير أن نلحظ التجاوب بين الجوانب الذاتية والموضوعية في صياغة هيكل لهذا العامل السابق، حيث يلتقي العام والخاص، ويغدو جمود التقاليد الذي كان سببا للهجوم الأخلاقي على فن القص الوجه الآخر من اختلاط القيم الذي يؤدي إلى شيوع نزعة الهدم وتدمير كل ما ينقض المتعارف عليه من الأعراف البالية. وأتصور أن المرارة الذاتية التي تتسرب من بين سطور هيكل في صياغة هذا العامل ليست سوى نغمة متكررة الرجع، نجدها عند غيره من أبناء جيله الذين أخذوا على عاتقهم مهمة التجديد في المجالات المتعددة التي اقتحمها مشروعهم التنويري، أعني الاقتحام الذي أهاج عليهم التيارات المحافظة، وفرض عليهم تحمل الكثير من شواظ هذه النزعة الملازمة لتيارات الجمود، وهي الشواظ التي تصل بين أجيال الاستنارة المتعددة في دلالة الثمن الباهظ الذي لابد للكاتب أن يدفعه ليكمل إسهامه في الانتقال بالمجتمع من وهاد التخلف إلى ذرى التقدم. ولكن الذي لم يشر إليه هيكل في هذا المجال، تحديدا، وإن كانت السياقات المتجاوبة لكتاباته تفضي إليه. أن شيوع هذه النزعة ليس سوى لازمة من لوازم الاستبداد الذي يشيع في المجتمعات التقليدية ويعوقها عن التقدم، خصوصا حين يجد ما يدعمه من استبدال النقل بالعقل والتقليد بالابتكار في المجالات الفكرية والاعتقادية والاجتماعية، وما يتقوى به في المجالات السياسية من نفي التعددية وحق الاختلاف، وفرض هيمنة بطريركية لا سبيل معها إلا للصوت الواحد الهابط من الأعلى إلى الأدنى في كل الأحوال.

وقد تحدث هيكل عن هذا النوع من الاستبداد الشرقي في مجالات متعددة، وأرجع إليه ضعف الأدب القومي كما أرجع إليه تخلف وضع المرأة وحرمانها من أبسط حقوقها الإنسانية، فكتب في مذكراته بتاريخ الخامس من أغسطس ،1909 مؤكدا أن هذا الاستبداد "تخلل نفوسنا. وأفسد ملكاتنا، وتوصل شره إلى الدخول في دمنا، فلم يبق في الإمكان أن نتخلى نحن عن الظلم بل تدفعنا نفوسنا إليه".

هذا الاستبداد الذي تخلل الدماء والنفوس فيما يؤكد هيكل هو السبب الذي يؤدي إلى شيوع نزعة الهدم التي يتحدث عنها في الآلية التي يتحول بها ضحايا الاستبداد إلى نوع من أنواع المقتولين القتلة، خصوصا حين يعكس وعيهم المستلب القمع الواقع عليهم فيشعه معيدا إنتاجه، بما يحيل المظلوم إلى ظالم لمن هو أدنى منه، أو الضحية إلى جلاد لمن هو مثله في الموقع، فيقترب المجتمع كله من صورة الغابة التي لا يعرف فيها مقتول من قاتله ومتى قتله.

هزة عنيفة

وإذا كان هذ الجانب لا ينطبق على فن القص وحده، ويجاوزه إلى غيره من أنواع الآداب والفنون وألوان الفكر والإبداع، فإنه يشير على الأقل إلى الأبعاد السياسية التي لم يغفلها هيكل والتي رأى فيها السبب الأخير من أسباب فتور القص، فاختتم تحليله لهذه الأسباب بتأكيد العامل السياسي، وأضاف إليه أن ما يلزم عنه من حروب ومعارك مستمرة يصرف الأذهان عن التأمل الهادىء الذي يتطلبه فن القص. ويؤكد أن هذا العامل الذي شمل العالم كله كان أبعد أثرا في الشرق لأن الحرب "العالمية الأولى" بعثت إلى الشرق هزة عنيفة أيقظته من سباته وفتحت عيونه على نواحي الحياة المتباينة، فجعلته من أجل ذلك في شيء من الحيرة في أي طريق يسلك إلى أن انتهى الشرق إلى أن الطريق الأول والأقدس هو التخلص من حكم أمم الغرب إياه. وهذا التخلص يقتضي نضالا لا يقل قوة ولا خطرا عن نضال الحرب بين الأمم المسلحة. فكما تستنفد الحرب جهود الأمم كلها، كذلك استنفدت الثورات السلمية كل جهود أمم الشرق، ودفعت بالكتاب إلى أن يضعوا قواهم ومواهبهم في خدمة بلادهم والانغماس اليومي في معارك الاستقلال السياسية، على النحو الذي باعد بينهم وبين التفرغ لفن القص والانقطاع له رغم أهميته التي لم تكف عن الإلحاح على وعي هيكل.


جابر عصفور
يوليو 1997

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى