أحمد حسن الزيات - 6 - دفاع عن البلاغة (2) آلة البلاغة

أشرنا في كلام سبق إلى أن طالب البلاغة الموهوبَ لابد له من درس اللغة، والطبيعة، والنفس، على الأخص؛ ثم أجملنا المراد بدرس اللغة، وألمعنا في صدد ذلك إلى منهاج يبتدئ بتقويم السليقة وينتهي باكتساب الذوق

وكان الأشبه بطبيعة الموضوع أن نفصل الكلام في تحصيل علوم اللسان ووضع الخطة لها وبيان الفائدة منها؛ ولكننا في مقام من يدافع ولا يعلِّم، ويوجه ولا يقود. وقديماً شكا عبد القاهر ما نشكو من زهادة الكتاب في اللغة، وأنصرافهم عن النحو، واستخفافهم بالبيان، وتنكرهم للشعر، وجريهم في الصياغة على الاحتذاء، وظنهم أن الكاتب متى (عرف أوضاع لغة من اللغات. . . وعرف المغزى من كل لفظة، ثم ساعده اللسان على النطق بها، وعلى تأدية أجراسها وحروفها، فهو بيّن في تبك اللغة كامل الأداة. . .) على أن (ههنا دقائق وأسراراً طريق العلم بها الروية والفكر، لطائف مستقاها العقل، وخصائص معانٍ ينفرد بها قوم هُدوا إليها، ودُلُّوا عليها، وكشف لهم عنها. . . وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام، ووجب أن يفضُل بعضه بعضاً، وأن يبعد الشأو في ذلك وتمتد الغاية، ويعلو المرتقى ويعز المطلب حتى ينتهي الأمر إلى الإعجاز. . .)

ولقد حاول عبد القاهر أن يطبَّ لهذا الداء فوضع كتابيه القيمين (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة)؛ ولكن الداء كان قد استشرى فلم يصحّ عليهما إلا أفذاذُ رزقوا شدة الأسر وقوة الفطرة. ثم عقم الدهر بمثل عبد القاهر، وانقطعت الأسباب بين كتابيه وبين الزمن، فتجددت معانٍ وصور، وتولدت أغراض وأساليب، وأصبح هذان الكتابان في أول الطريق مناراً لا ترى بعده إلا إغفالاً ومجاهل! فهل في البيانيين من أساتذة جامعاتنا الثلاث من يحاول في البلاغة الحديثة ما حاول عبد القاهر في البلاغة القديمة، فيجددوا ما درس، ويكملوا ما نقص، ويقيموا أدب الكتابة وأدب النقد على قواعد ثابتة من الفن الصحيح والعلم الحديث؟

ذلك، وأما درس طالب البلاغة للطبيعة فلأنها كتاب الفنان الجامع ومصوَّره العجيب. منها موضوعه ومادته، وعنها اقتباسه ووحيه، وفيها دليله ونموذجه، وبها أخيلته وصوره، فيج أن يطيل فيها النظر، ويشغل بها الفكر، ويرجع في كل ما يعمل لأصولها الثابتة وقواعدها المقررة، ليتقي الضلال والخطأ، ويأمن الإغراق والتكلف

هذا الكتاب المحيط المعجز الذي ألفته يد القدرة قد تجمعت على هوامش متنه الهائل عقول بني آدم منذ استبصوا، يحاولون كشف أسراره وفهم حقائقه؛ فوفِّقوا بالاستقراء والاستنباط إلى ابتكار علوم، وابتداع فنون، تخصص في هذه أقوام، وفي تلك أقوام، كالجيولوجيين والجغرافيين والطبيعيين والكيميائيين والفلكيين والمهندسين وسائر من يتصل علمهم أو عملهم بالأرض والسماء، واليبس والماء، والجماد والحي. والأديب وحده هو الذي يجب عليه أن يشارك في كل علم ويلم بكل فن؛ لأنه عرضة لأن يكتب في كل أولئك ولو على سبيل التصوير والتشبيه. فإذا لم يكن واقفاً على مصطلحات الفنون والعلوم، عارفاً بمختلف الحدود والرسوم، قدح ذلك في ثقافته وغض من كفايته. ولقد عبرنا بالمشاركة والإلمام لأن دراسة الأديب للطبيعة تختلف عن دراسة الفيلسوف لها: الفيلسوف يدرسها ليعرف، والأديب يدرسها ليحتذي. الفيلسوف يشرح ويحلل، والأديب يصور ويمثّل. فحظ الأديب من درس الطبيعة هو حظ المصور من درس التشريح: لا يزيد على القدر الذي يضيف إلى جمال التخيل جمال الحقيقة، ويجمع إلى دقة المثال براعة الطريقة

إن الأسباب لا تعني الأديب وإنما تعنيه النتائج. فالفلكي يرقب فعل الجاذبية، ويرصد حركة الأفلاك؛ ولكن الشاعر يصور نظامها الدقيق وتلاؤمها العجيب وتطورها الدائم. والطبيعي يحلل الضوء والصوت؛ ولكن الشاعر يُسمعك في شعره هزيم الرعد من جبل إلى جبل، وزفيف الريح من واد إلى واد، فيقذف في قلبك الرهبة. ويريك وميض البروق الزُّهر تتكسر في الأفق صفائح وهاجة تشق رُكام السحائب الجون، فتبعث في نفسك الروعة. والكيميائي يشرح سطوع الروائح على طريقته الخاصة؛ ولكن الشاعر يصورها لذهنك في النسيم الرفاف يصفق في الهواء بأجنحته المخضلة بأنداء الفجر، المضمخة بعطور الصباح

وأما دراسته للطبيعة فلأنها الينبوع الثّرُّ لما يزخر به الشعر والنثر من مختلق الغرائز والعواطف والأفكار والأحاسيس؛ ومعرفة الينبوع في مصدرِه وجوهره ومداه، شرط في معرفة ما يصدر عنه على حقيقته وطبيعته وأثره. وإذا كان من خصائص فن الكاتب أن يخلق أشخاصاً للقصص، ويمثل أهواءً على المسرح، يعالج أخلاقاً في المجتمع، ويحلل عقّداً في الناس، فمن غير المعقول أن يحسن شيئاً من أولئك إذا لم يكن عليناً بأسرار القلوب وأهواء النفوس وما ينشأ من التعارض والتصادم بين الغرائز والأخلاق، وبين العواطف والمنافع. وإذا كان مدار البلاغة على مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال، فإن إدراك الفروق الدقيقة بين الحالات المختلفة للمخاطب، وصياغةَ الكلام على قوالب المقتضيات المناسبة للخطاب، وتصويرَ الأخلاق على نحو يغرى بالخير أو يحذر من الشر، والقدرةَ على خلق الجمال في الأسلوب، أو التعبير عما يخلقه الجمال فينا من العواطف؛ كل أولئك يسلتزم دراسة خاصة لعلم النفس وعلم الأخلاق وعلم الجمال

هذا كلام أشبه بالمتن في تعميمه وإيجازه. والعذر المسوغ لهذا الأسلوب أننا نخاطب الكتّاب ونبين الحدود وتبرز الخصائص؛ ومن اجل ذلك قصرنا الكلام على اللغة والطبيعة والنفس من جملة ما يجب على طالب البلاغة درسه؛ لأنها في رأينا أشبه بعلوم التخصص له. والمفروض أن يخصها بطول النظر بعد أن يأخذ قسطه الأوفى من ضورب الثقافة

(للكلام بقية)

أحمد حسن الزيات



مجلة الرسالة - العدد 500

بتاريخ: 01 - 02 - 1943

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى