محمد أحمد اشماعو - ليلة الزفاف وأيام العرس

... ونذهب إلى منزل العريس، لنكون معه في حفلات عرسه _ قبل عصر التطور الحديث - مبتدئين بحفل ( الهدية ). أنه قبل الليلة الكبرى ( ليلة العمر) التي تزف فيها المرأة إلى بيت زوجها، تعرض هدايا العريس إلى عروسته، عرضا مرتبا أنيقا، وذلك بعد العصر، من حيث تقبل الناسء والعذارى المحجبات، من غير ذوات القرابة، زيادة على ذوات القرابة ليتفرجن، بل ليتفحصن جيدا نوعية تلك الهدايا، ويتعرفن عن قرب على ما فيها من جديد، ومن طريف، ومن ثمين... وقد يطالبن "النكافة" القائمة على حراسة تلك المعروضات بتقريب ما هو بعيد، ليكون التعرف على الأشياء كاملا. ولا مانع عند أم العروسة وقريباتها من هذا الفضول الزائد، ما دام يزيد في زعزعة كيان الحاسدات...
والمعروضات قد تشتمل على أثواب متنوعة، بعضها مخيط على أحسن حال، وصالح للاستعمال في الحين : "تحتيات" حريرية ناعمة الملمس، مطروزة ومخرمة عند الطوق والأكمام، و"قفاطين" ثمينة من نوع الملف أو المبر أو الصقلي، ذي اللون الذهبي البراق، جيدة التفصيل والخياطة، ثم "منصوريات" ذات نسج هفهاف، مطرزة آليا، بأنواع الورود والأزهار والأشكال الزخرفية التي لا حصر لها، ثم تعرض "السبنيات" الحريرية المزخرفة، ذات الذوائب الطويلة الناعمة، وهذه هي غطاء الرأس، ووضعها على الرأس، يعني أن الفتاة أصبحت سيدة، ولم تعد عذراء كما كانت، يوم كانت تلف شمرها وتغطيه بمنديل ملون أو أبيض في غالب الأحيان. وتعرض كذلك ( حمالة ) أو أكثر، وهي مشد للكمين، يمر بين الأكتاف، عند الظهر وتتدلى منه ذوائب أيضا، ضفرت أو فتلت بمعرفة "المجدليين"، وتوضع "المضمة"، وهي حزام من الثوب المطروز محشو بالورق المقوى القابل للثني، وهذا أمر طبيعي لأنه سيحيط بخصر العروسة الواهي، أو الموشك أن يكون واهيا...
يبقى غطاء الرجل وهو "الشرببيل" وهو أيضا حذاء نسوي خفيف مطرز، والتطريز في كل هذه الأشياء، إما بخيوط الحرير أو بخيوط الذهب المعروفة بـ "الصقلي"، حسب المقدرات المالية.
ويستحق الذكر أن العروسة لا تلبس أيام عرسها إلا خفين مطرزين كذلك "امزلاكية" هما من الخفة بمكان، وبذلك يمكنها أن تصعد بهما حتى فراشها، خوفا على القدمين الرشيقين من ثقل الشربيل بعض الشيء، وهكذا فالكل يحرص على ألا ترهق العروس، أو أن تحمل مالا تطيق، وهى تودع بيت أبويها.
ومن خلال معروضات ( الهدية ) يبرهن الزوج وأقرباؤه على أنهم ليسو فقراء، وليسوا من ذوي الإمكانات المحدودة، وتأكيدا لهذا يعرضون الحلي المذهبية أيضا المشروطة في الصداق وعقود الجواهر، وما لديهم من نوادر المجوهرات إن أمكن... فباب التباهي - حينئذ - مفتوح على مصراعيه، وقد لا تتفطن الفضوليات إلى أن من بين المعروضات أشياء ثمينة معارة فقط، من حيث جرى الاتفاق خفية بين العائلتين على أن تعرض وتحمل في موكب الهدية، وفي الأيام الموالية ترجع من حيث أتت، ولتزد قلوب الحاسدات تمزقا.
يتهيأ ( موكب الهدية ) بعد صلاة المغرب، من حيث يأتي أقارب العريس فرادى، فيجدون عند الباب كراسي يجلسون عليها منتظرين، ربما ليكونوا شهودا الحضور على عملية التسليم، وفى هذا الحين يدعى الطبال والغياط للدخول إلى دهليز الدار، ويشرعان في العزف الإيقاعي المنغم، على نمط عزف أجواق الطرب الأندلسى، وتكون كل "نكافة" قد حملت صينية على جزء من الهدايا" التي كانت معروضة طيلة المساء، وتطوف هؤلاء المسخرات بحمولتهن الخفيفة، في فناء الدار سبع مرات على الأنغام، وقد يمارسن بعض الرقصات، والأطفال والطفلات بينهن يحملون الشموع الموقدة. ويتجه الموكب من الدار إلى الدهليز ثم إلى الخارج : حملة الشموع أولا والطبال والغياط، يليهما حامل كيس الدقيق، والآخر القابض على الحبل الموصول بقرون الكبش، فالكبش هو أيضا حاضر في الموكب.
ويسير الموكب الهويني، وفي المؤخرة مجموعة أفاضل من الأهل والأقارب والمعارف، وعند الوصول إلى مسكن والد العروسة، يجد القادمون أفاضل آخرين في الاستقبال، وهكذا تدخل الهدية تحت أبصارهم إجمالا، فليس لهم فضول مثل فضول النساء ليتفحصوا الأشياء واحدة واحدة، المهم هو هذا القدوم واللقاء المبدئي السعيد . . . وتتلى الفاتحة، ويذهب كل إلى حال سبيله.
وفورا يتجدد العزف الإيقاعي في البيت الثاني، وتتعالى الأصداء والأهازيج والزغاريد، ولا بد وأن تكون قد بلغت أسماع العروسة المنزوية فوق فراش أمها، فيهتز قلبها نشوة وطربا، وحبذا لو كانت وسط الجمع ترى رؤية العين أجواء الاحتفال بها... ولكن هذا لا يجوز!.
ووفاء بتعهد مقابل وفاء. فعند منتصف الليل، من تلك الليلة، يهتز الحي ويتيقظ النائمون من جراء الزغاريد الصداحة، وهنا لا بد من المبادرة بالقول أنه على الحيين معا، الحي الذي يسكنه العريس، والحي الذي يسكنه والد العروسة أن يتحمل سكانهما هذه الإزعاجات : ولو أن أفراح قوم عند قوم مضايقات، فيوم لنا ويوم علينا... إن هذه الأهازيج والزغاريد هي بسبب أن أحمال (الشورى) في طريقها من بيت الأبوة إلى بيت الزوجية.
وتصل الأحمال إلى الحجرة الجديدة العارية إلا من الفرش واللحف الواصلة من قبل ذلك، والتي أشبعها أقارب العريس تحسسا، وحكموا هل هي محشوة بالصوف الخالص أو محشوة بخليط... وتتقدم الموفدات الحاذقات ( بتعليق الشوار) : فتعلق الخاميات والستائر بمختلف ألوانها وأنواعها وأحجامها، وتوضع "التلامط" أي الأغطية على اللحف والفرش، وإذا كان من بساط، تركي النسج، فارسي الزخرفة فإنه يفرش على الأرض وبهذا وبغيره تصير الحجرة تحفة تبهج الأنظار، وتملأ الخياشيم برائحة الثياب الجديدة... وبمجرد الانتهاء تتناول الزائرات كؤوس الشاي على عجل، فالليل موشك أن ينتهي، أو هو قد انتهى فعلا، وحلت محله أنوار الفجر، والجميع في حاجة إلى قسط من الراحة، استعدادا للأفراح المقبلة التي تتطلب مجهودات وسهرا.
ويصبح الصباح، وهو آخر صباح للعذراء المحتفل بها في بيت أبيها، وهو آخر صباح كذلك لشاب أعزب أوشك أن يغادر أيام العزوبة بما فيها، من خير وشر، ولو سئل عن مشاعره لما وجد ما يقول، فالقلب معلق والفم مطبق.
القريبات تصبح معهن، هنا أو هناك، مشاعر متضاربة، تؤججها الغيرة، فإما أن يرين راضيات بما وصل، ومثنيات بلسان لا يخطئه التعثر، وإما سخط وتذمر من التقصير والخلل، وهات من تعاليق وتنكيت وسخرية، وحتى سب وإقذاع، واحتجاج على المقامات غير المتساوية... هذا مع أن المعنيين بالأمر منصرفون على الخوض من هذه السفاسف . . . فما وقع قد وقع.
وتغرب شمس ذلك اليوم، فتوقد مصابيح الدار كلها، وقد تجلب خيوط مصابيح من الخارج، وعندئذ يتجلى أن حجرات الدار كلها قد فرشت، وهيئت على أحسن حال لاستقبال المشاركين في الحفل، ويكون الإشراف على الاستعدادات كلها من والد العريس، أو من أحد الأقارب، الموصوفين بالخبرة والحنكة والحذاقة واللباقة، وإلا فإن صديقا عزيزا ذا أريحية هو الذي يتولى الإشراف، وقد يزاحمه أحد الفضوليين الراغبين في الظهور !.
وتقضى العادة أن يأتي المدعوون بعد صلاة المغرب لتناول "لقمة الحلال"، وهي غالبا من الكسكس، الذي يختار لهذه المناسبة من أجود الأنواع، كما يختار له لحم الضأن لا غيره من اللحوم، وتعوض الخضر بطبيخة "التفاية" المشهورة... وإذا كان العريس، أو والده، من ذوي اليسار فإنه تضاف وجبة الدجاج المحمر، المرصع بأنصاف بيضات، وبحبات اللوز المسلوق المقلي، وقلما تضاف إلى ذلك فاكهة الموسم.
ووجد بعض الناس أن الطعام المجموع يكلف كثيرا فأخذوا يحصرونها في أضيق نطاق، من أخذوا يستدعون إلا أشد الأقارب صلة بالعائلة مع أخذ الاحتياط من نسيان أحد أو تجاهله، لان الأمر - عندئذ - لا يعود يتعلق بأكلة، وإنما يعني عدم الاعتراف بالقرابة أو تنكرا للصداقة... ويذكر أن من جملة من يحتفى بهم، وفى مقدمة الجميع جوق الطرب.
فأهل الحواضر لا يرون قيمة مهمة لحفل زفاف لم يحيه جوق الطرب الأندلسي، وفعلا فور انتهاء العشاء، يحتلق أفراد الجوقة ويبتدئون العزف، حتى ولو كان الحاضرون قليلين، ويكون البدء - في الغالب - بالتواشي السبع، وهى معزوفة صامتة، ذات مقاطع سبعة، من نوبة الحجاز المشرقي، وبعد استراحة قصيرة يشرعون في أداء نوبة مطولة، تستغرق ساعة ونصف أو ساعتين. فقد تكون نوبة "الاستهلال" أو "الحجاز الكبير"، وتتوالى النوبات، أو نتف من كل واحدة، حتى إذا هبت نسائم السحر، التي لا يدركها بالإحساس الفريد إلا مثل هؤلاء الفنانين، أتى دور "رصد الذيل" ثم "نوبة العشاق"، وبهذه يكون الختام، ويؤجل "رمل الماية" الطافح بمدائح الرسول إلى حين بدء جلسة الحلاقة.
وفعلا، يقع تعديل في جلسات الحاضرين، إذ لا حاضرات هناك، وإنما هن فوق السطح يشرفن من أعلاه على الحفل الزاهر، ويصببن من الزغاريد الكثير الكثير، خصوصا من العذروات، فالمكان حافل بالعزاب، والأماني هناك في الأعالي وهنا في الأسافل لا بد وأن تخالط الأفئدة الفتية وتهزها، ويتجرأ البعض فيرفع الرأس باحثا من وجه مليح، ولكن كيف، والحجاب ضارب أطنابه؟
يأتي العريس وسط الهتاف والضجيج فيجلس على كرسي مرتفع، ويتقدم الحلاق الرصين، ويشرع في مباشرة عمله، متثاقلا عن عمد، مستغلا ما تبقى عند العازفين والمنشدين من حماس، ومن حوالي العريس رفيقان يرطبان الجو الحار بتحريك منديلين حريرين، ويأتي ثالث من الخلف فيسر في أذن العريس بعض الهمسات، يحمر منها وجه الشاب، ولعله يذكره بمواقف هو مقبل عليها، إن لم يكن يحرضه عليها تحريضا، وسرعان ما يعود البال منه إلى جو الاحتفاء به الذي يملؤه نشوة وسعادة، حتى يتوهم أنه فعلا "مولاي السلطان" وأنهم موشكون حقا أن "يبايعوه"...
وتنتهي جلسة الحلاقة "الحسانة"، ويغادر أفراد الجوق حلقتهم، فيؤخذ العريس إلى حجرة من الحجرات يستبدل ملابسه بثياب العرس، وهي كلها مغربية فضفاضة ناصعة البياض، ويحرص على أن تكون الأطواق - عنده هو أيضا - مفتوحة، وأن يكون غطاء الرأس نازلا إلى قرابة الحاجبين دلالة على الحياء، ولو أنه حياء يخفي تحته اعتزازا وثقة بالنفس وجراءة.
ووسط أهازيج أقوى مما سبق وهتافات أعلى يخرج العريس إلى فناء الدار في تؤدة واتزان، فيجد حلقة منتظمة دائرة فيقف في نقطة منها، محفوفا بـ "وزرائه" ورفقائه، ويقف الوالد أو كبير العائلة في الطرف المقابل، وبعد قراءة الفاتحة يتقدم العريس في خشوع وخضوع صادقين نحو والده، فيقبل راحتيه - اعترافا بالجمائل السابقة – ورأسه، ثم يتهاوى إلى الأرض ليقبل قدميه، وهنا يتكهرب الجو، إذ تلمع العيون كلها، وتسمع حشرجة وهمهمة دلالة على التأثر، ولكن زغاريد النساء تطغى على ذلك، وعندئذ يخرج احد المتشجعين بترنيمة البيتين المشهورين من بردة البوصيري :
ومن تكن برسول الله نصرته ** إن تلقه الأسد في آجامها تجم
من يعتصم بك يا خير الورى ** شرفا الله حافظه من كل منتقم
وعلى أصداء هذه الترنيمة الحلوة يغادر الجمع منزل الحفل، في الطريق إلى أحد الأضرحة، لرفع أكف الابتهال، ويختار أبعد الأضرحة عن الدار، وبذلك يفسح الطريق لموكب العروسة التي تحمل في الحين إلى بيت الزوجية، بعد وداع حار، وعند المدخل تستقبل من طرف حماتها - إن كانت – بقدحين، أحدهما مليء بالعسل، والآخر مليء بالحليب، مع المتمنيات في أن تكون الأيام حلوة كالعسل وبيضاء نقية كاللبن، وتقاد العروسة في احتفاء بالغ لتجلس في صدر بيتها الجديد، في انتظار قدوم العريس المشوق، وسرعان ما تتناهى إلى الأسماع الأصداء والأنغام واللعلعات والهتافات الآتية من بعيد. ولا حاجة إلى السؤال عد المشاعر الجياشة عند القادم والمقدوم عليها...
ويستقبل العريس هو أيضا بالحليب والعسل، وتحرص الوالدة على أن تقف عند باب الحجرة، وتمد أرسها بطوله، مستندة براحتها على حافة الباب المقابلة، ومن تحت هذه الذراع يدخل الولد البار إلى عشه الزوجي، مستسلما مطيعا مشمولا بالرضى، مؤملا فيه أن يبقى استقبالا كما كان.
وإذا كان العريس متجرئا فإنه يتقدم إلى العروس، ويكشف عن وجهها المزين الستار الحرير، ويتعرف في تلك اللحظة بالذات، وربما لأول مرة على الوجه الذي سيرافقه على مدى الحياة، إن كتب الله عشرة طويلة وطيبة، وقد يتمادى في جراءته فيطبع هناك قبلة، في مكان ما من محيا العروسة، وإذا لم يفعل لتردده أو حياءه فإن "وزيرته" هي التي ترفع الستار، وتقدم له إرشادات في شأن هذه القبلة.
ولا حاجة إلى تطويل الجلسة فالإيماءات من البعض للبعض تأخذ الحاضرات فى الانسحاب، ولا تبقى إلا "الوزيرة"، التي تقدم بمساعدة العروسة على التخفف من حليها وملابسها، بينما يتوجه العريس إلى أداء ركعتي الشكر، ثم يتولى بنفسه تغليق الأبواب، ثم يقبل هو أيضا على نزع ملابسه الفضفاضة، ولا يبقى إلا الخفيف... ولا يهمه شيء من صخب ونداءات النساء العازفات الضاربات في فناء الدار، كما تهمه إزعاجات الضاربين على مصراع باب الدار، من المحرضين الأصدقاء العزاب، الذين لم يجدوا ما يدعوهم ويلزمهم بالانصراف!
وبعد فترة تطول أو تقصر يفتح الباب، وينادي على الوزيرة الخاصة ويطلعها على ما من شأنه أن يزيد في الصخب والابتهاج...
وينسل صاحبنا عند طلوع الشمس أو قبله إلى الحمام العمومي، وتكون معه لوازم الاستحمام تامة وجديدة، التي حملتها معها العروسة في جملة ما حملت، إنما هذه تعتبر هدية خامة حميمة إلى الزوج الكريم، ويكون المستحم مصحوبا بأحد أقاربه... وفي غيبته يأتين فرادى وجماعة، لطبع عشرات القبلات على خدي العروسة الدافئتين مهنئات وتبقى من تعينها على نظافتها، وعلى تجديد عمليات الزينة والتعطر، وتهيئها لتكون مشاركة لزوجها في طعام إفطاره... وتكون المفاجأة إذا ما رجع الزوج، إذ يجدها ممتنعة عن هذه المشاركة، ربما لأنها لا تزال واخذة في خاطرها من هذا المتجرئ عليها... بارك الله في رجولته !
باقتضاب، وإلا فهي ممسكة عن كل جواب، وتكتفي بالتحديق أمامها في لا شيء، فالعتب عليه ما زال شديدا.
وعلى غير العادة ينام الشاب في هذه الضحى، وما أن يستغرق في النوم، حتى تأخذ القادمة
السعيدة في تفحص المكان، وتتأكد مما هو ملائم، ومما هو فير ملائم، وقد تقوم بخفة، متغلبة على ما تشعر به من ألم عند مشيتها من جراء "أحداث" الليلة الأخيرة، ويطلب لها أن تلقي نظرة من قرب على هذا الرجل الذي ارتبطت به وتكاد تتلمسه عضوا عضوا، وهكذا تصير لها فكرة عامة عنه، وتلقائيا تجد نفسها تحنو عليه، من حيث تغطيه بعناية تامة.
وتقبل على صندوق زينتها، وقد صار لها من الجرأة من مراحلها الأولى، فتكحل عينيها، وتضع على وجهها قليلا من البودرة، وتحمر الخدود والشفاه بالدمام، وتعطر رقبتها وما وراء أذنيها... وعلى عكس ما توهمت فإنها تجد وجهها طافحا بالسعادة، وأن لعينيها بريقا جديدا لم تعرفه من قبل، إنما تجد أن تحت الجفون أثرا رماديا بسبب أتعاب وأحداث الليلة السابقة.
ويطرق الباب بخفة، وتدخل الوزيرة الحاذقة، وتلقيها نظرة عامة سريعة على الأشياء والناس فتجد آثارا للمسات الرقيقة الحانية، خصوصا ذلك الزوج النائم في سعادة، والمغطى بعناية، مما يدل على أن عفوا شاملا قد صدر في حقه... وتتقدم تطوعا منها فتوقظه بلطف، فمائدة الغذاء الحافلة قد تهيأت.
تقضي بعض العوائد في بعض الأسر، أن تتبع العروسة في صبيحتها تلك بطعام إفطارها الأخير المستحق على أبيها، وهو طعام إفطار سخي يزيد على الحاجة، فيه حلويات ومحشيات وفواكه، مما يكفي طعاما لكل من في الدار، ولا عجب فالموقف حتى ذلك الحين ما زال متعلقا بإظهار الترفه والاستطاعة الوافرة والنعم التي أنعم الله بها.
ويحسب العريس أنه دخل في زوايا النسيان عند الرفقاء والأقران والأقارب في مثل عمره، ولكن الواقع عكس هذا، لقد اقتحم بعضهم فناء الدار وأصر على أن يؤخذ عنوة من بين أحضان عروسه إلى دار "الصبوحي" أو "يسلان"، حيث يكون جوق الطرب الأندلسي يلعلع بنوبة "العشاق" وببعض "البريولات" الخفيفة، فالحماس أقل مما كان عليه في الليلة السابقة، وإن كان الأنس والتعاطف أشمل. ويستغل أحد الأصدقاء الحاذقين الفكهين توقفات العزف ليحكي بعض النكات الباعثة على الضحك والصخب، وإن وافى الحظ بوجود أحد المغفلين فإن الجو ينقلب إلى فرجة تمثيلية لا تقدر بثمن.
ورغم أجواء العزف والإنشاد، ورغم النكات والممازحة تعجب الجميع، فإن واحدا من بين هؤلاء لا يعجبه شيء من ذلك، إذ قلبه معلق بتلك التي تركها، ولم تشبع منها بعد لا العين ولا الأذن، ولا أية جارحة من الجوارح، ذلكم هو العريس، الذي يتحين أية فرصة فينسحب، ولا يدري أحد كيف كان ذلك الانسحاب... ولو تتبعه لوجده قد وصل إلى جوار عروسته وجلس يتحدث، ويتحدث، ويأكل ويشرب، ويجهر ويهمس، ويبتسم ويقهقه، ويضايق بالأسئلة التي لا مهرب للعروسة منها مهما أسعف عروسته الذكاء واللباقة. وليس أمامها إلا هذا، فوصايا الخبيرات لا تزال معها بأن تكون معاندة بعض الشيء، رافضة بعض الشيء، متكلمة بعض الشيء، متكتمة بعض الشيء... فالطبع عند هذا الرجل ليس معروفا على حقيقته بعد!
وتمضي القيلولة جيدة ومريحة، يشبع فيها الزوجان راحة ونوما، وعند العشي تأتى القريبات الصارمات - من جهتهن - فينتزعن منه العروسة، وبوده وبودها ألا يكون هناك انتزاع ولكن . . ، يقمن على تزيينها وإلباسها ثم على إبرازها للحاضرات من قريبات العريس، هؤلاء اللواتي هي جديدة عليهن كلهن، وهناك تسلط على الأنظار المتفحصة، على شكلها بصفة عامة، على ميزاتها الجمالية، على رصانتها وتعقلها، ومن المفضل أن تبقى عيناها مغمضتين، ونعم ما فعلت، فإذا غلبت على أمرها من جراء نكتة من إحدى الوقوحات، التي تستغل فرصة الجو النسوي الخالص، فتطلقها أقوالا مكشوفة يصطخب لها التجمع صاخبا من الضحك، وتكتفي هي بالابتسامة، التي تغطيها بالسبابة والوسطى مضمومتين، ومع ذلك تخن الواحدة من جهته يأكل بشراهة في صباحه الجديد السعيد هذا، ويلح عليها أن تؤاكله، فإن هي امتنعت دس بين الشفتين الحلوتين القرمزيتين بعض اللقيمات والجرعات، وعندئذ لا يكون هناك حفز. ولما يحاول أن يجاذبها أطراف الحديث تجيبه على أسئلته جارتها عند ظهور الابتسامة، توقعا لتصرفات أكثر جرأة.
ثم تأخذ الاهتمام تلك المرأة المعروفة بـ (الشيخة ) مع جوقتها، وهى ليست شيخة سنا، وإنما فنيا وإشرافا، وإلا فهي جميلة، باذخة الزينة، ومن اللواتي لا يتحرجن في الأقوال والتعليقات والإشارات بالشفتين والعينين... وما جاءت هذه الجراءة إلا من كونها تجالس بعض الرجال وتغني لهم في بعض الأوساط، لهذا فموقف النساء الكريمات منها ومن زميلاتها موقف التحفظ، وكل واحدة تسر لنفسها أو لجارتها "الله يستر"، وكيف لا يقلن هذا وهن يرينها بين الوصلة والأخرى تخرج السيجارة، وتروح تدخنها علانية، وبالنذاذ ووقاحة، وتبرز من الحلقة واحدة ممشوقة القدام مليئة الوسط لتؤدي رقصات لولبية تنال عنها مكافآت لها ولمعلمتها ابتداء من أم العريس وقريباته إلى صغرى الحاضرات، دون إفلات! ويأتي الليل بأنسه ومتعه!
وبخصوص اليوم التالي، المعروف عند البعض بيوم "الراحة"، فالعروس يلازم عروسته ملازمة ملاصقة، ويؤتى لهما بما يلذ ويطيب من المأكولات والمشروبات... وتكون المناسبة مواتية ليفتح لها قلبه، ويحكي لها الكثير من أخبار ماضيه، ويرسم أمامها خطوط المستقبل، ومقابل ذلك لا تبخل عليه بالحديث دون استفاضة ولا تفاصيل، ودون الدخول في ذكر ما لا ضرورة لذكره، وقلما تدخل واحدة عليهما، فحتى الوزيرة يقل تدخلها، علما منها أن دورها يكاد ينتهي إن لم يكن انتهى بالفعل.
في اليوم الرابع تفتح الأبواب والنوافذ، وترفع الستائر، لأنه في بعض التسميات (يوم الحزام)، إذ العروسة تضع على نصفها حزاما يشد على وسطها لأول مرة بعد الزواج. وتخرج لفناء الدار، وتجد دائرة حول مائدة الإفطار، فتدعى لأخذ مكان بارز بينهن، محاذيا لزوجها، ويكون المنظر حلوا جذابا، وهي بينهن امرأة جديدة فتية، يترقرق الصبا والرقة والجمال في وجهها، وعددها ما زال طريا رشيقا لافتا للأنظار، .وتثير الإعجاب بقايا الزينة الكبرى التي لا تزال بادية للعيان، وهي تعرف أنها قبلة للأنظار دائم، لذلك تنال فطورها بلباقة وحذق كبيرين. وتصاحبها - بعد هذا - إحدى القريبات للتجول في أنحاء المنزل، وعندئذ تستطيع أن تقدر أنها انضمت إلى أسرة ميسورة أو دون ذلك !
وقبيل الزوال، يقام آخر احتفال عائلي، فتعان الشابة على أخذ الزينة مجددا، وتجلس في صدر البيت، ومحاذاة لها يجلس زوجها العزيز، الذي يكلف تكليفا بإعداد الشاي، ويجتهد أن يؤدي هذا الدور بمهارة وتدقيق، وإلا تعرض للتعليق والنقد من إحدى المترشحات المتجرئات عليه، ويكون ضحك وصخب من الجمع، وتكتفي العزيزة بالابتسام، وحبذا لو استطاعت الدفاع... ولكنها تغتنمها فرصة فتزيد في معرفة رجلها، هل هو رصين؟ هل هو ماهر؟ هل هو مضبوط الحركات والسكنات؟ هل هو لبق وذكي في ردودها وأجوبتها... هل هل..؟
في نهاية الجلسة تقوم رفيقة العروسة من قبل أهلها، ومنذ اليوم الأول، بتوزيع الهدايا الشخصية على الأقارب والقريبات، وكلها من الملبوسات، وهي عند الأب والأم ذات قيمة بالنسبة للباقين والباقيات، والعملية في جملتها تثير مشاعر مختلفة، ولكن التقبل والشكر يكون هو الطابع السائد.
بعد الغذاء، يسود المنزل نوع من الأسف على أن موعد الافتراق قد حان، ويود الجميع أن يستمر اللقاء والأنس والسمر إلى ما لا نهاية له، ولكن لا بد مما لا بد منه، فتجمع أشتات الملابس في صناديقها، وتلف الأغطية، ويرجع ذلك إلى المنازل، لإشعار الأزواج هناك أن ربة الدار في الطريق... وذلك انتقال سعيد هو أيضا وهو الأبقى.
وتتقبل العروسة عشرات ومئات القبل، كما يودع العريس توديعا قلبيا حارا، مع ترك التمنيات الصادقة في حياة هانئة طيبة ميسورة.
__________
1 - هذه الصورة هي من مجتمع سلا والرباط قديما، قد تختلف عن الحالة في مجتمعات حضرية أخرى، ألا أنه اختلاف غير كبير . م / ش.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى