إبراهيم صموئيل - البيت ذو المدخل الواطئ.. قصة قصيرة

رغم وابل الشتائم واللعنات التي كان يدفعني الألم للتفنّن في تركيبها، وإطلاقها على نفسي، آملاً أن تتيقّظ من غفلتها في المرات التالية، فإنها لم ترتدع أبداً! كرّة أخرى كنت أسهو، أو يستغرقني شاغل، فلا أتنبّه إلاّ بعد أن يرتطم رأسي بالعارضة الحجرية الواطئة التي تعلو مدخل الدار القاطن فيها، ويكتوي بألم ناري حارق!

صدمة خاطفة، كتيمة الصوت، في أعلى جبيني، ترجّني، وتلفّني بالدوار، فأتكّئ من فوري على الجدار خوف السقوط، مدلّكاً رأسي، ومغالباً وجعي إلى أن تختفي النجوم التي شعّت في عينيّ وتعود إليّ سكينتي.

وفي معظم المرات، كنت أتريّث، بُعيد اللطمة، متراجعاً خطوات قليلة، لأتملّى المدخل وأزوره، باحثاً عن منجى، متفكّراً في حلّ ما، فتركبني الحيرة من أمره وأمري، إذ لا أنا بقادر على تغيير بنائه، ولا بمتمكّن من التآلف مع انخفاضه، والتعوّد عليه، فلا أملك، من عجزي، إلاّ أن أشتم بانيه: (أي مسخ، خنزير، ذاك الذي بنى المدخل على هذا النحو الصالح لعبور الدواب!!) أو أسبّ نفسي متشفّياً من غفلتي: (وأية دابة غبية أنت حتى لم تعتد إلى الآن على المدخل فتنحني وتخفض رأسك بما يكفي للعبور بسلامة!).

ولا يحدث ذلك على الدوام طبعاً، بيد أنه حين يقع، ينبش فيّ حال الدار التعيس ومدخلها الغريب وضعف تنبّهي الذي لم أجد في سواه مخرجاً من ورطتي، فجعلت، بطرائق شتى وحيل كثيرة، أوجّه نفسي، أدرّبها، وأسوسها إلى أن طاعت واعتادت المحاذرة، فما بتّ ارتطم إلا نادراً، نادراً جداً، حين يخطر لي، بُعيد خروجي بلحظة، غرض نسيته، فألتفت قافلاً، أو يقلقني التأخر عن موعد،فأخرج متلهوجاً.

عدا ذلك، فقد سوّيت المشكلة تماماً، خصوصاً أنني أضفت، إلى تيقّظي، حذر الكفيف، بأن شرعتُ قبيل المدخل، أرفع ذراعي، مقدّماً كفّي، حتى إذا ما لامست العارضة، طأطأتُ منحنياً، ودلفت بخفّة حمل، ورشاقة بهلوان.

ومع الأيام، امّحت تلك اللطخة البنية المسودّة التي خلفتها ارتطامات الماضي في مقدمة رأسي، وغمرتني غبطة لا حدّ لبهجتها من حال تكيّفي مع المدخل، وتحوّطي الفطين منه، لكأنما ولدت وترعرعت تحته، فطربت لخلاصي وانتشيت، وإن عكّرني خاطر داهم عمّا إذا كان حالي الجديد جرّاء شتائمي وتعنيفي لنفسي، أم هو الخوف يفرّخ في المرء رعباً جسيماً، يحوط به نفسه، فتراها تطوع وتتكيّف بأكثر من اللازم!؟

أيّاً كان، فسكناي الطويل الذي عوّدني، لم يفعل ذلك مع زوّاري وأصدقائي بالطبع! إذ غالباً ما كانوا يرتطمون، ويبدأون زياراتهم باحتجاجات صريحة على مسكني البائس، غير المعقول، مطالبين بأن أجد حلاّ ما، فلا أجد غير الاعتذار منهم، ومراضاتهم، ورواية ظروفي على نحو جديد، مثير، علّهم ينشغلون بها، وينسون رضوض رءوسهم!

لم يفتني، حتماً، تغليف العارضة بقطعة اسفنج سميكة، ألصقتها على امتدادها، بيد أن شدّ الأيادي عليها، أوهنها،ثم هرّأها وهلهلها، فما كنت أفطن لترميمها أو استبدالها، إلاّ بعد لومٍ عتوب أتدارى من صاحبه بالمسارعة إلى تغييرها بأخرى جديدة!

حين قيّضت لي الظروف أن أنتقل من داري القديمة، إلى مسكن جديد، غدوت مضحكة أمام نفسي!

فرغم ارتفاع الباب ارتفاعاً طبيعياً، انتبهت إلى أنني مازلت أنحني وأخفض رأسي، عند الدخول والخروج، في حركة محاذرة بدت لي، هنا، خرقاء تماماً! بل وكثيراً ما حدث - في الليل خاصة - أن رفعت ذراعي، مقدّماً كفّي، لتلمّس العارضة.. فكانت تهوي في الفراغ الشامت!

(العمى!!) قلت لنفسي (أما انتهينا?!) وقد راحت تتلامح ظلال معاناتي الطويلة، ثم دأبت، من جديد، لا على التفطّن إلى ضرورة المحاذرة، بل على كنسها وإزالة آثارها مني، فما تمكّنت إلا بعد أن فضحتني بين أصدقائي ومعارفي، أيام كنت أزورهم، وأتعثّر بمداراتي، على نحو ظاهر، فيغرقون بالضحك مني والتندّر عليّ، معاودين إلحاحهم: (انس يا رجل! انس!) فتفترش تفاصيل الماضي ذاكرتي، وقد تخلّفت على وجهي ابتسامة صفراء، باهتة، من الأسى!

وبكثير من العزم، والتحوّط، إلى توالي الزمن، استطعتُ محوَ عادتي تلك، ذبلتْ، وضمرتْ، إلى أن تلاشت، نسيها الجميع، وكدتُ أنساها، لولا بوغت بأن بلائي مازال فيّ، لم يغادرني قط، بل غار، كالمياه، في أعماقي، وتغلغل في شعابها القصيّة.

وما عثرت، بعد ذلك، على سبيل للتخلص أو النجاة منه، لقد توارى حذري عن عيون الآخرين، وعن عينيّ أيضاً، فلم يعد أحدٌ يلمحه أو يُلمح إليه، بيد أنني أشعر به دفيناً، متلطّياً، يتلفني تحفّزه، إذ ما وصلت منزلاً، أو اقتربت من مدخل إلاّ وبغتني نداء قصّي.. فأجفلني! وما هممت بالخروج مرة إلا وانبثقتْ حركتي المحاذرة تلك، شاقّة عتم ذاكرتي، كحوت، فأرعبتني! لبرهة يحدث ذلك، أو لنثرة من برهة.. لكنني، وأنا أزجرها كي لا تظهر، أغصّ بأنفاسي وأرتعد، إذ يتراءى لي ذلك البيت ذو المدخل الواطئ الذي قطنتُ فيه مرحلة من حياتي، فأحاق بي، وسكنني، متلبّساً إياي كعاهة، لا براء منها، ولا خلاص!
إبراهيم صموئيل مجلة العربي اكتوبر 2000

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى