محمد بن سعد الدبل - عبدالقاهر الجرجاني ورأيه في الإعجاز بالنظم

نحن الآن مع شيخ البلاغة وإمامها، الذي رفع قواعدها وأحكم بناءها، "ورأيه في الإعجاز قائم على التربية الفنية؛ تربية الذوق والإحساس والشعور؛ وذلك بممارسة أي نص أدبي أو قرآني، حتى إذا ما ألف الذوق النقد، مارس النص القرآني باحثًا عن الجمال فيه، ففي نظمه يكمن سر إعجازه[1]".

إذا كان عبدالقاهر يقرر أن تربية الذوق إحدى الدعائم التي تعين على إدراك سر الإعجاز بالنظم في القرآن، فما دليله على ذلك؟

إننا نجد الدليل واضحًا فيما يسوقه من الآثار الأدبية والنصوص القرآنية مفسرًا ومحلِّلاً، اقرأ قوله في دلائل الإعجاز: "إنكم تتلون قول الله - تعالى -: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ [الإسراء: 88]، وقوله - عز وجل -: ﴿ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾ [هود: 13]، وقوله: ﴿ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ [البقرة: 23].

فقولوا الآن: أيجوز أن يكون - تعالى - قد أمر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بأن يتحدى العرب أن يعارضوا بمثله، من غير أن يكونوا قد عرفوا الوصف الذي جاءهم من قبله التحدي؟

ولا بد في الجواب من "لا"؛ لأنهم إن قالوا: يجوز، أبطلوا التحدي من حيث إنه - كما لا يخفى - مطالبة بأن يأتوا بكلام على وصف، ولا تصح المطالبة بالإتيان به على وصف من غير أن يكون ذلك الوصف معلومًا للمطالَب، ويبطل بذلك دعوى الإعجاز أيضًا"[2].

وهذا الوصف الذي يمهد به عبدالقاهر، أيكون في اللفظة المفردة، أم في التركيب؟ أم في المعاني؟ أم في الحركات والسكنات؟ أم في المقاطع والفواصل؟ أم فيما يجد من صورة بديعة مبنية على استعارة أو تشبيه؟

إذا امتنع إعجاز لدى عبدالقاهر بهذا كله، ففي ماذا يكون؟

إن الإشارة إلى الممهد به لا يعين على فهمه إلا فحصه بتذوق النظم وحلاوته؛ فبالنظم والتأليف يكون الإعجاز، وليس هذا الأمر إلا في القرآن.

وهذا شاهد على ما ذكره عبدالقاهر، وذهب إليه في الإعجاز بالنظم؛ إذ يقول في كتابه دلائل الإعجاز: "هل تشك إذا فكرت في قوله - تعالى -: ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 44]، فتجلى لك منها الإعجاز، وبهرك الذي ترى وتسمع، أنك لم تجدْ ما وجدت من المزية الظاهرة، والفضيلة القاهرة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وهكذا، إلى أن تستقريَها إلى آخرها، وأن الفضل تَناتَجَ ما بينها وحصل من مجموعها؟

إذا شككت فتأمل: هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت، لأدت من الفصاحة ما تؤديه، وهي في مكانها من الآية؟

قل: ﴿ ابْلَعِي ﴾ واعتبرها وحدها، من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك اعتبر سائر ما يليها.

وكيف بالشك في ذلك؟ ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض، ثم أمرت، ثم كان النداء بـ: "يا" دون "أي"، نحو: يا أيتها الأرض، ثم أمرت، ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال: ابلعي الماء، ثم أن أُتبع نداءُ الأرض وأمرُها بما هو من شأنها، نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل: ﴿ وَغِيضَ الْمَاءُ ﴾ فجاء الفعل مبنيًّا للمفعول، وتلك الصيغة تدل على أنه لم يَغِضْ إلا بأمر آمر، وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله - تعالى -: ﴿ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ﴾، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور، وهو ﴿ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ﴾، ثم إظهار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة، والدلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة "قِيلَ" في الخاتمة بـ: "قِيلَ" في الفاتحة.

أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها - تعلقًا باللفظ من حيث هو صوت مسموع، وحروف تتوالى في النطق، أم كل ذلك لما بَيْنَ معاني الألفاظ من الاتساق العجيب؟"[3].

وبمثل هذه الأسلوب التحليلي الرائع يصل عبدالقاهر إلى ما يريد من تقرير ما أسلف، من أن الشأن للنظم كاملاً، ولا شيء من الاعتبار للَّفظ وحده قبل أن يدخل في هذا النظم المعجز، ولا شك أن تحليل عبدالقاهر للآية الكريمة تحليلُ خبيرٍ بدرجات الكلام، هداه إليه فكر ثاقب، وبصيرة نيرة، وذوق سليم.

ويشير الدكتور بدوي طبانة في كتابه "البيان العربي" إلى أن عبدالقاهر في عرضه لهذه الآية نسي فضل الألفاظ المختارة، فهنالك قبل هذا النظم وهذا التلاؤم الذي فصَّله، وهذا الوضع للكلمات على هذا النسق العجيب - تخيُّرٌ لكل لفظ، ولا شك أن هنالك ألفاظًا غير هذه الألفاظ كان يمكن أن تؤدَّى بها هذه المعاني، ولكن الفضل يظهر في التخير والانتقاء، المبني على تفضيل لفظ على لفظ آخر[4]".

ولو أردنا استقصاء الأمثلة والشواهد التي ساقها عبدالقاهر من القرآن الكريم ومأثور كلام العرب، لأفضى بنا ذلك إلى الاستطراد، وما ذكره من ذلك قارٌّ في موضعه من كتابيه: أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، يمكن لأي باحث الوقوف عليه.

والآن نتجاوز عبدالقاهر إلى غيره من العلماء ممن سبقه، وممن جاء بعده، ورأى الإعجاز بالنظم.

لعل من أقدم القائلين بالإعجاز بالنظم "أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ" (ت255هـ)، الذي ألف كتابًا عن إعجاز القرآن في نظمه، غير أني لم أجد هذا الكتاب، وكل ما يذكره عنه الباحثون "اسمه فقط"، ويستخرجون رأي الجاحظ وقوله في الإعجاز بالنظم من بين ثنايا كتبه على طريقته في الاستطراد، والخروج من مسألة إلى أخرى، وخلاصة ما يراه في الإعجاز بالنظم يتضح من قوله الذي نقله المبرد في هامش كتابه "الكامل": "إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مخصوص بعلاقة لها في العقل كموقع فلق البحر من العين".

وذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لقريش خاصة والعرب عامة مع ما فيها من الشعراء، والخطباء، والبلغاء، والدهاة، والحكماء، وأصحاب الرأي والمكيدة والنظر في العاقبة: إن عارضتموني بسورة واحدة، فقد كذبت في دعواي، وصدقتم في تكذيبي، قال الجاحظ: ولهم بعد ذلك أصناف النظم، وضروب التأليف؛ كالقصيد والرجز والمزدوج والمجانس، ثم هم بعد ذلك التحدي عرَفوا عجزهم، وأن ما طلب منهم لا يتهيأ، فرأوا الإضراب عن ذكره والتغافل عنه أسلم لهم في هذاالباب[5].

ومن رأي الجاحظ في الإعجاز بالنظم قوله: "وفي كتابنا الذي يدلنا على أنه صدقٌ نظمُه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد، مع ما سوى ذلك من الدلائل التي جاء بها[6]".

كما أن الجاحظ قد فطن إلى أن لألفاظ القرآن ميزةً أزيد على غيره من حيث النظم، وهي: "إتيان بعض ألفاظ المقترنة متصاحبة، لا تكاد تفترق؛ كالصلاة والزكاة، والجوع والخوف، والجنة والنار، والرغبة والرهبة، والمهاجرين والأنصار، والجن والإنس[7]".

وهذه الفطنة تدلنا أيضًا على رأيه وقوله بالإعجاز بالنظم، وهذا محصل ما قاله في هذا الصدد، وإلى جانب اهتمام الأدباء وأهل اللغة بإبراز مزايا النظم القرآني وأسلوبه، تعرَّض أهل الحديث والفقه للرد على الشبهات التي أثيرت حول أسلوب القرآن ونظمه وبلاغته.

وفي جملة أولئك ابن قتيبة (ت276هـ) في كتابه "تأويل مشكل القرآن"، الذي يعد من الآثار الجليلة التي خدمت لغة القرآن وأسلوبه، وقد عني فيه بالمجاز، وتوسع في مفهومه، والذي يهمنا منه في هذا المقام رأيه في الإعجاز بالنظم؛ إذ يقول في مقدمه كتابه:

"والحمد لله الذي نهج لنا سبل الرشاد، وهدانا بنور القرآن، ولم يجعل له عوجًا، بل نزله قيمًا مفصلا بينًا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وقطع بمعجز التأليف أطماع الكائدين، وأبانه بعجيب النظم عن حيل المتكلمين، وجعله متلوًّا لا يمل على طول التلاوة، ومسموعًا لا تمجه الآذان، وغضًّا لا يخلَق على كثرة الترداد، وعجيبًا لا تنقضي عجائبه، ومفيدًا لا تنقطع فوائده... وجمع الكثير من معانيه في القليل من لفظه"[8].

هذا ملخص بعض أقوال ابن قتيبة في الإعجاز بالنظم، ولم يزل الميدان فسيحًا لغيره؛ فهذا الرماني (ت386هـ) في رسالته: "النكت في إعجاز القرآن" يفصح عن رأيه قائلاً ضمن باب عقده تحت عنوان "باب التلاؤم": "التلاؤم نقض التنافر، والتلاؤم تعديل الحروف في التأليف، والتأليف على ثلاثة أوجه: وذلك بيِّن لمن تأمله.... والتلاؤم في التعديل من غير بُعْد شديد يظهر بسهولته على اللسان، وحسنه في الأسماع، وتقبله في الطباع، فإذا انضاف إلى ذلك حُسْنُ البيان في صحة البرهان في أعلى الطبقات، ظهر الإعجاز".

ويقول الرماني - وهو يناقش الوجوه التي ذكرها في الإعجاز -: "إن العادة كانت جارية بضروب من أنواع الكلام معروفة، منها الشعر، ومنها السجع، ومنها الخطب، ومنها الرسائل، ومنها المنشور الذي يدور بين الناس في الحديث، فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة، لها منزلة في الحسن تفوق به كل طريقة[9]".

وقد ساق الرماني مقارنة بين قول الله - تعالى -: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾ [البقرة: 179]، وبين القول المأثور عن العرب: "القتل أنفى للقتل"، وهذه المقارنة من صميم قوله بالإعجاز بالنظم.

وبعد الرماني نلتقي بأبي سليمان حمد بن إبراهيم الخطابي (ت388هـ) في رسالته: بيان إعجاز القرآن؛ لنقف على رأيه في الإعجاز بالنظم.

قال بعد أن عدَّد بعض وجوه الإعجاز التي ذهب إليها بعض العلماء: "إن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة"... إلى آخر ما ذكره عن أوصاف الكلام المحمود، والكلام المذموم، وبعده ينفذ إلى القول بإعجاز بالنظم على حد قوله:
"ولا ترى نظمًا أحسن تأليفًا، وأشد تلاؤمًا وتشاكُلاً من نظمه.... فتفهَّم الآن، واعلم أن القرآن إنما صار معجزًا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمنًا أصح المعاني؛ من توحيد الله - عزَّت قدرته - وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته؛ من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساوئها، واضعًا كل شيء في موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه، ولا يرى في صورة العقل أمر أليق منه، مُودعًا أخبار القرون الماضية".

ويمضي الخطابي قائلاً: "ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور، والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتسق - أمرٌ تَعجِز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قُدَرُهم، فانقطع الخَلق دونه، وعجزوا عن معارضته[10]".

ومن بين من قال بإعجاز القرآن بالنظم: أبو هلال العسكري (ت395هـ)، وشاهد ذلك قوله في "الصناعتين": "وإنما يعرف إعجاز القرآن من جهة عجز العرب عنه، وقصورهم عن بلوغ غايته؛ في حسنه وبراعته، وسلاسته ونصاعته، وكمال معانيه وصفاء ألفاظه"[11]، وبهذا القول ومما سبق ذكره عن أبي هلال نرى أنه يقرر إعجاز القرآن في بلاغته المتميزة بالنظم البديع، وحسن التأليف، وجودة التركيب، ولم يذكر أن أبا هلال ألف كتابًا خاصًّا عن إعجاز القرآن، وإنما قيد الوصول إلى إدراك علم البلاغة والفصاحة بالوصول إلى إدراك أسرار إعجاز القرآن الكريم، وهذا ما قدم به كتابه الصناعتين[12].

وعبر تلك الجولة السريعة نلتقي بالقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني ورأيه في الإعجاز بالنظم.

لقد كان من جليل مؤلفات هذا العالِم كتابه: "إعجاز القرآن"، والإعجاز بالنظم عنده يرجع إلى وجوه، منها:

ما يرجع إلى الجملة؛ "وذلك أن نظم القرآن على تصرُّف وجوهِه، واختلاف مذاهبه، خارجٌ عن المعهود من نظم جميع كلام الناس، ومباينٌ للمألوف من ترتيب خطابهم".

ومنها: "أن له أسلوبًا يختص به، ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتادة".

ومنها: اشتماله على الفصاحة والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة من غير اختلاف، ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، ويتضح هذا الوجه من: أن عجيب نظمه، وبديع تأليفه - لا يتفاوت ولا يتباين، على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها؛ من قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وإعذارٍ وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، في الوقت الذي ترى فيه اختلاف كلام الخطيب المصقع، والشاعر المفلق، على حسب اختلاف هذه الأمور.... ويمضي الباقلاني في استقصاء الأدلة على إعجاز القرآن بالنظم فيقول: "ومنها نظمه البديع الذي وقع موقعًا في البلاغة يخرج عن عادة كلام الجن والإنس؛ فالجن يعجزون عن الإتيان بمثله كعجز الإنس، ويقصرون دون بلاغته كقصور الإنس تمامًا بتمام"، وهذا الوجه قد سُبِقَ إليه الباقلاني، ولكنه أربى على من سبقه بإيراد الأدلة من القرآن الكريم ومناقشتها، وعرض المقارنات الكثيرة في ذلك، بل قد فصل القول في نظم سورتي غافر وفصلت، وبيَّن دلالته على ذلك بالتفسير والتحليل، فلنقف معه على هذا الشاهد العظيم من سورة غافر، وهو يعرض لنظم الآية الكريمة: ﴿ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [غافر: 14 - 16].

قال الباقلاني:

"قف على هذه الدلالة، وفكِّر فيها، وراجع نفسك في مراعاة معاني هذه الصفات العالية، والكلمات السامية، والحكم البالغة، والمعاني الشريفة، تعلم ورودها عن الإلهية، ودلالتهاعلى الربوبية، وتتحقق أن الخطب المنقولة عن الخطباء، والأخبار المأثورة عنهم في كلماتهم الفصيحة - قد باينتْه الآيةُ الكريمة.

فأي خاطر يتشوق إلى أن يقول: ﴿ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ ﴾ [غافر: 15، 16]؟

وأي لفظ يدرك هذا المضمار؟ وأي حكيم يهتدي إلى ما لهذا من الغور، وأي فصيح يهتدي إلى هذا النظم؟

ثم استقرئ الآية إلى آخرها، واعتبر كلماتها، وراعِ بعدها قوله - تعالى -: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 17].

من يقدر على تأليف هذه الكلمات الثلاث، على قربها، وعلى خفتها في النظم، وموقعها من القلب؟...[13]".

بنحو هذا الأسلوب التحليلي، واستقصاء وجوه الإعجاز بالنظم عند الباقلاني - يتضح رأيه فيه.

ولصاحب المغني القاضي عبدالجبار الهمذاني المعتزلي رأيٌ في الإعجاز بالنظم، ومذهبه في الاعتزال لا يمنعنا من الوقوف على رأيه في الإعجاز بالنظم، فما قاله في هذا المضمار جدير بالإشارة، والغالب على من سبق ذكرهم من العلماء الأخذ بمذهب المعتزلة، وعذري في تتبع أقوالهم في الإعجاز بالنظم أنهم فرسان هذا الميدان دون سواهم.

ألَّف عبدالجبار كتابه "المغني"، وخصص الجزء السادس عشر منه للكلام في إعجاز القرآن، وبيان سره في ربط العبارات، واختصاصه برتبة في الفصاحة، وللرد على منكري الإعجاز على طريقة المتكلمين، وخلاصة رأيه في الإعجاز بالنظم "أن القرآن الكريم جاء بطريقة فذة في النظم والتأليف، مختصة برتبة في الفصاحة معجزة، وأنه باعتبار الأمرين: الطريقة الفذة في النظم، والاختصاص برتبة الفصاحة - يكون الإعجاز"[14].

وما أكثرَ العلماءَ الذي قالوا بالإعجاز بالنظم؛ كابن الزملكاني والزركشي، حتى السكاكي صاحب العلوم المنطقية والعقلية، ومن بينهم: الرازي والألوسي في المحدثين، والرافعي، ومحمد دراز، وسيد قطب، في المعاصرين، وما قالوه في هذا المضمار قارٌّ في مؤلفاتهم، يمكن لأي باحث الرجوع إليه.

[1] انظر: إعجاز القرآن البياني للدكتور حنفي محمد شرف ص 102، مطابع الأهرام.

[2]انظر دلائل الإعجاز ص 246 طبعة المراغي.

[3]انظر دلائل الإعجاز ص 32، 33 طبعة المراغي.

[4] انظر البيان العربي؛ للدكتور بدوي طبانة، ص 227، الطبعة الرابعة.

[5] انظر البيان والتبيين؛ للجاحظ ص 19 طبعة دار الفكر، والمجاز البياني؛ للدكتور حنفي محمد شرف ص 23، 26 مطابع الأهرام، وأثر القرآن في تطوير النقد العربي؛ للدكتور محمد زغلول سلام ص 81 الثانية المعارف.

[6] انظر البيان والتبيين؛ للجاحظ ص 19 طبعة دار الفكر، والمجاز البياني؛ للدكتور حنفي محمد شرف ص 23، 26 مطابع الأهرام، وأثر القرآن في تطوير النقد العربي؛ للدكتور محمد زغلول سلام ص 81 الثانية المعارف.

[7] انظر البيان والتبيين للجاحظ ص 19 طبعة دار الفكر، والمجاز البياني للدكتور حنفي محمد شرف ص 23، 26 مطابع الأهرام، وأثر القرآن في تطوير النقد العربي للدكتور محمد زغلول سلام ص 81 الثانية المعارف.

[8] انظر تأويل مشكل القرآن؛ لابن قتيبة ص 10، ورسالة في الإعجاز؛ للدكتور مصطفى مسلم ص 72.

[9] انظر النكت في إعجاز القرآن؛ للرماني ص87، 88 وما بعدها، تحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام، مطبعة دار المعارف بمصر ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن؛ للرماني والخطابي وعبدالقاهر.

[10] انظر ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي وعبدالقاهر ص 24، 25، تحقيق محمد خلف الله والدكتور محمد زغلول سلام.

[11] انظر مبحث العناية بالدراسات القرآنية في هذا المبحث.

[12] انظر مقدمة الصناعتين؛ لأبي هلال ص 7، تحقيق علي البجاوي وأبي الفضل إبراهيم، مطبعة الحلبي.

[13] انظر إعجاز القرآن؛ للباقلاني ص 51 وما بعدها، تحقيق أحمد صقر، مطبعة دار المعارف.

[14] انظر الإعجاز البياني لبنت الشاطئ ص95، والمغني لعبدالجبار، الجزء السادس عشر ص 316 وما بعدها، مطبعة دار الكتب بمصر.



رابط الموضوع: عبدالقاهر الجرجاني ورأيه في الإعجاز بالنظم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى