طيبي بوعزة - ظاهرة التشكيل البصري في الشعر الجزائري المعاصر وجمالياتها في ديوان "ما لم يقله المهلهل" للشاعر امحمد زبور.

الملخص:[/B]
يُعتبر موضوع هندسة الكتابة من أهم القضايا التي يشتغلُ عليها النَّقد المعاصر، نظرا للمعطيات الجديدة التي يطرحُها والقراءات المتعددة التي يُثيرها، فهو حقل خصب، خاض فيه الكثير من النُّقاد أمثال "محمد بنيس" في "بيان الكتابة" و"محمد صفراوي" في "التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث" و"محمد عبد الرحيم" في "السر والسكوت والصمت في الشعر العربي" فالشاعر المعاصر ابتكر لنفسه أسلوبا جديدا للتَّعبير عن رؤاه وأفكاره، بعدما تبيَّن له أنَّ الصورة السمعية لم تعد قادرة على تبليغ رسالته فلجأ إلى الصورة البصرية في محاولة منه لمغازلة المتلقي واقحامه في النص الشعري. والشاعر الجزائري المعاصر أصبح ينزع إلى إثارة مواطن الجمال لدى القارئ والعزف على أوتارها، باعتماده على تشكيل صور بصرية مكثَّفة مليئة بالإيحاءات غنيَّة بالدلالات، فالنص الشعري المعاصر تستمدّ جماليته من سمات فنيِّة بصرية بالدرجة الأولى.
الكلمات المفتاحية: الشعر الجزائري المعاصر، البياض، التشكيل البصري، المسكوت عنه، الصورة البصرية.
سنحاول في هذه الورقة البحثية المصغَّرة التطرُّق إلى ظاهرة التشكيل البصري في الشعر الجزائري المعاصر وجمالياتها محاولين الكشف عن الدلالات المضمرة التي تُضْفيها هندسة الكتابة على النص الشعري. هذه الظاهرة التي برزت إلى الساحة الأدبية الابداعية في الجزائر كنتيجة حتمية لثورة التَّجديد الشعرية العالمية، واستجابة لما نادت به موجة الحداثة من ضرورة تداخل الأجناس الأدبية وكسر الحدود الفاصلة بينها، وكذا الانفتاح على الفنون التشكيلية والبصرية، وقد وقع اختيارنا على الشاعر الجزائري "امحمد زبور" في ديوانه "ما لم يقله المهلهل"، الحائز على المرتبة الثانية في مهرجان الشارقة للإبداع العربي سنة 2005م عن مخطوط شعري يحمل عنوان "أسئلة الماء والتراب". سينصبُّ جهدنا على تتبُع المظاهر البَصَرَية بمختلف أشكالها مع تَتبُع العلاقة بين الدلالة البصرية والدلالة العميقة في النص الشعري. ولتحقيق الهدف المرجو من البحث سنقفُ على أهمِّ مظاهر التشكيل البصري الواردة في الديوان موضعَ البحث وهي: تقسيم الصفحة، تشكيل البياض، تشكيل السطر الشعري، علامات الترقيم.
1- تقسيم الصفحة: والمقصود بها تلك الطريقة التي يَعمدُ فيها الشاعر إلى "توظيف مساحة الصفحة في انتاج دلالة النص الشعري"() فالصفحة البيضاء مفتوحة على كل الاحتمالات، تُشعر المتلقي بالارتباك والحيرة بفعل الغموض الذي يكتنف تأويل بياضها وما تُمليه الذات الشاعرة من رؤى وتصورات وتُترجمه اللغة إلى ألفاظ وعبارات يُزيل غموض البياض. بالإضافة إلى كون الصفحة في بنية الخطاب الشعري عبارة عن حيِّز مكاني، ومن هنا حازت أهميتين استراتيجيتين، فالأولى أثناء كتابة النص الشعري وتتمثَّل في كيفية استثمار الشاعر لمساحتها، والثانية أثناء تلقِّي النص الشعري وتأويل المتلقي لبياضه وسوداه، فالشكل الحقيقي للنَّص الشعري المعاصر يظهر في تشكله على الصفحة التي تتشكل باللغة وبها تُستنطق([ii]).
تخضع الصفحة في الشعر العربي المعاصر إلى عدَّة تشكيلات، ومن الأشكال التي نجدُها ماثلة في ديوان "مالم يقله المهلهل":
– التفريع في العنونة: وهو أنْ يكون هناك عنوانا رئيسا للنص الشعري تتفرَّع عنه عناوين فرعية، وهو ما نجده في نص "حالات لصوت واحد"، يقول الشاعر:
- حالة أولى:([iii])
سقطتْ وردة من رفوف الجنوب
تهامس رمل الأحبَّة...
لم ننتبه...
سقطت وردتان..ثلاث...
ومضى الليل يطوي صباباتنا...
كل هذا الخراب ولم ننتبه.
- حالة ثانية:
لم تكن غير نهد...
زوايا يؤرقها اللهب
كل من قال: أنَّ (النساء حبيباتنا)
رحيق الحضور...
غواية هذا المدى...
قال ما تدَّعيه الخرافة...
ما يتناهبه الكذب.
- حالة ثالثة:
حاصر أسماءكـ
كيما لا ترث الأسماء سواكـ
وتوحَّد فيك ومنكـ.
فخِّخْ أحجارك..بَحرْكـ..
واخرج منك إليهم،
من نمل الطرقات،
ومن شجر الشهداء إلى زمن الأحباب...
(أبا ذر) لا أخبار سوى قتلاكـ.
لجأ الشاعر في هذا النص إلى تقسيم القصيدة إلى ثلاث وحدات شعرية، جاعلا على رأس كل وِحدة منها عنوانًا فرعيًا، كما خصَّص لكل وِحدة صفحة مستقلة في إشارة منه إلى انفصال الوحدات في جُزئيتها واتفاقها في كليتها، فالشاعر هنا لجأ إلى الفن الروائي واستعار منه إحدى تقنياته، وهي تقسيم الرواية إلى مقاطع وفصول، فمن عناصر "أو استراتيجيات السرد الروائي بوصفه نصًا مكتوبًا، تقسيم المادة المسرودة (القصة) أو (الحكاية) إلى وحدات متفاوتة الحجم تسمى: الأجزاء والأقسام داخل الرواية المفردة والفصول، والمقاطع داخل الفصل الواحد..."([iv]) فالشاعر يفصلُ بين ثلاث حالات هي في الأصل مرايا تعكسُ حالة واحدة، يبدو في الحالة الأولى ساخط على المجتمع وما آلتْ إليه الأوضاع، وهو يرمز بالجنوب إلى فئة تعاني الكثير من التهميش والاهمال واللامبالاة، فئة لا يلتفت إليها أحد، فئة تمثل الجزء الأكبر من الشعب، وفي الجنوب أيضا تتلاشى وتسقط الكثير من الأحلام ويموت الأمل في الانسان، وفي الحالة الثانية ينتقل من العام إلى الخاص في أدقِّ خصوصيته، ينقلُ حالة شعورية عاطفية تتملَّكُه فتُسبِّب له الأرق، فيكفرُ بالحب ولا يعترف به، وكل أحاديث الحب عنده مجرَّد كذبٍ وأقاويل وتزييفٌ للواقع، وهو بذلك لا يتحدَّث عن ذاته بل يُشخِّص علاقة الانسان العربي بالمرأة، فهو صورة مناقضة لما يَكتبُ ويَتغنَّى به، فهو لا يحمل في أعماقه إلاَّ صورة الجسد وشهوة لا تخمدُ، أمَّا الحالة الثالثة فهو يرسم لنا صورة للإنسان العربي المكافح عن أرضه وشرفه، في ظل وحدته فلا اخوة ولا أصدقاء ينصرونه، وحدة أشبه بوحدة أبي ذر، وهي حالة تعبِّر عن تحدٍ لكل من تسبَّب في ألامه وأحزانه وخذله. إذن هي ثلاث حالات في ظاهرها، حالة واحدة في باطنها، وما على المتلقي إلاَّ أنْ يستنفر معارفه ويستحضر رؤاه ويجمع الحالات الثلاث ويوائم بينها ليدرك مقاصد الشاعر.
2 – تشكيل البياض: سبق وأن أشرنا إلى أنَّ الصفحة البيضاء لا أهمية لها مالم تمتزج مساحتها بالسواد وهو ما لا يتأتى إلاَّ بِتشكُلِ النص الشعري عليها، وهذا لا ينفي أهمية البياض، بل على العكس فلكل منهما أهمية في تأويل الأثر الأدبي "...فمن تمازج بياض الصفحة وسواد النص تتجلى أهمية كل مِنهما"([v])، والشاعر الجزائري المعاصر يوظِّف الكتابة بالبياض أو بالحبر السري - في عُرف بعض النقاد والدَّارسين - ويمزج بين البياض والسواد بشكل مُلفتٍ للانتباه، فالبياض في الأصل ليس إلاَّ "توقف ضروري للمتكلم لأخذ نفسه. وهو بالتَّالي ليس إلَّا ظاهرة فيزيولوجية خارجة عن النص، ولكنَّها بطبيعة الحال محمَّلة بدلالة لغوية."([vi])
ومن النصوص التي اعتمد فيها الشاعر "امحمد زبور" على تشكيل البياض نص "ترحال"، يقول:
وحدي في هذا الوهم العاتي، سأزوِّجه قدم التِّرحال([vii])
وأسأله عن أحبابي، عن أقمار البدو وعن سفر لا
أُدرك وجهته، وأنام على الخُبز الحافي
وحدي أتسلَّق فلسفة الأشياء، أُشكِّل من طين النَّهر
الأسماء، ومن حِكم الطير الهامات، ومن وجهي
مدن الحب الصافي.
وحدي أتذكَّرُ ليلى، يا أعراسي الأولى، يا مائي
المهدور على سفح العشاق، تركتُ بهائي، حضن
الطين الدافئ.
وحدي يا الله أُهاجر فيك فيفضحُني ذنبي، أتمنَّاك
وأدنو ... أدنو، كم وَسِعَ الكرسي الأشياء، وكم
وسعتْ يَدُك الرمل الجافي.
وزَّع الشاعر نصَّه على أربعة صفحات، بمعدل ثلاثة أسطر في كل صفحة، ممَّا يعني أنَّ مساحة السواد تساوي خُمْسَ (1/5) مساحة البياض، باعتبار أنَّ بعض النصوص الواردة في الديوان تضمُّ خمسة عشرة سطرًا، وكأنَّ الشاعر يمنح المتلقي مساحة كافية من البياض ليملأها بما يُوحي به النص من دلالات وإيحاءات، وهذا ما "يُعدُّ في التجربة الشعرية المعاصرة وسيلة من وسائل توفير الإيحاء وتوصيل الدلالة للقارئ."([viii]) كما أنَّ الشاعر يتوقَّف في كل صفحة عند الجملة المِفتاح للمسكوت عنه (الخبز الحافي/الحب الصافي/الطين الدافئ/الرمل الجافي) ويترك الحرية الكاملة للمتلقي لتأويلها والكشف عن دلالاتها، ويجعل منه شريك في إنتاج النص الشعري وذلك بمواصلة الكتابة انطلاقا من النقطة التي توقَّف عندها.
إنَّ توقف الشاعر عند هذه الجمل مدَّة زمنية معينة تعادل في الحقيقة حجم بياض الصفحة، ثم استئنافه في الصفحة الموالية لم يكن عشوائيًا، إنَّما خاضع لتجربة الشاعر الشاعرية والشعورية، فالشاعر وصل إلى درجة ضاقت فيها العبارة واتَّسعتْ الرؤية "وعند الوصول إلى هذا الحدِّ يأتي الغموض والغياب والبياض في القصيدة جناحًا يُحلق به الشاعر إلى ما وراء اللغة إلى لغة اللغة، هكذا يُجابه الشاعر شيطان اللغة ويغالب سلطته وهيمنته بتعاويذ يكتبها في بُقع البياض بحبرٍ مفرغ من اللون، وتمائم تحملها كل العناصر الغائبة عن النص."([ix])
وفي نص آخر يحمل عنوان "الفجيعة" نجد الشاعر يترك سطرا أبيضًا، وهو بذلك يوسع المسافة بين الأسطر، يقول:
المعابرُ شاخت([x])
فأيُّ متاه يكون دليلا
أنهكتني مواويل أهلي
وأنخاب أهلي وفرسان أهلي.
تطير الشعوب إلى مُنتهى الفكرة
والعروبة ترجع يوما فيوما منازلها والصهيل.
فالشاعر هنا لا يوظف نقاطًا ليعبر عن المسكوت عنه، بل يذهب إلى أبعد من ذلك ليترك سطرًا كاملا من البياض، وهو في الأصل (السطر الأبيض) حذف دلالي وجمالي له أثر عميق في المتلقي. وللسطر الأبيض دلالته الخاصة عند "امحمد زبور" فهو يستحي من أن يعترفَ بانتمائه لهذه الأمة التي تبكي مجدًا مُضاعًا وتكتفي بالوقوف على مشارف الحضارة والتطور بينما تطير الشعوب إلى منتهى الفكرة على حدِّ تعبيره، وهو بذلك يُشرك القارئ في ملأ الفراغ وإعادة كتابة النص عبر هذا الفراغ الذي خلَّفه وراءه وذلك بتِعداد المفاخر والبطولات والانتصارات التي مازال العرب يفتخرون بها إلى اليوم، رافضين مواجهة الواقع المعيش.
3- تشكيل السطر الشعري: السطر الشعري هو "كمية القول الشعري المكتوبة في سطرٍ واحد سواء أكان القول تامًا من النَّاحية التركيبية أو الدلالية أم غير تام."([xi]) فالسطر الشعري مجموعة من التراكيب والتفاعيل تحملُ مضمونًا شعريا قد يكتمل معناه في سطر واحد أو سطرين أو أكثر... وهو يتَّخذ عدَّة أشكال: كالتفاوت الموجي والأطوال السطرية المتساوية... ومن التشكيلات التي استعان بها "امحمد زبور":
أ- التفاوت الموجي: يظهر في النص الشعري عبر "تنوع امتدادات سطوره بين الطول والقصر على غير تسلسل مطرد، فلا تجيىء مسافات امتداداتها مجموعة في القصيدة على صورة واحدة متساوية."([xii]) ومن النصوص التي تشكَّلت وفق هذه التقنية نص "ربَّما" يقول:
ربَّما يعتريك التفرد والإشتباه([xiii])
يا ابن هذا الخريف الغزيرْ
قد تؤجِّجك الأسئلة
مبهم كل ما ستراه
خلفك الرَّمل...
عير القبيلة...
وجه أبيك...
طفولة أشيائكـ الحافية.
ذا وضوحكـ .
يعترفُ الشاعر منذ البداية بحجم الحيرة التي تجتاحه وهو ما يُفصح عنه العنوان، فـ"ربَّما" تحتمل أكثر من تأويل وتذهب بتفكير المتلقي في اتجاهات شتَّى، والشاعر يحاول مع كل سطرٍ شعريٍ أن يُبدِّد هذه الحيرة ويجعل منها يقينًا، غير أنَّ محاولاته تبوء بالفشل، وهي حيرة تنمو وتكبر في منحنى تصاعدي فكلَّما كَبُر حجمها قلَّ طول السطر الشعري، لذلك نجده يتوقَّف دون أن يُتمَّ المعنى وينتقل إلى سطرٍ آخر، وهو بذلك ينقل للمتلقي حالته الشعورية لفظًيًا ويسجِّلها في ثنايا النص تسجيلا بصرياً فربّما " كان قول الصمت أشدَّ مضاعفة وكثافة لأنَّه في تحليقه فيما وراء اللغة يطمح إلى أن يلتقط حركة الروح، وعندئذ نرى أنَّ توزيع الكلمات على السطور في القصيدة ليس مجرَّد أداة للتوافق الإيقاعي في الأوزان، بقدر ما هي طريقة في تشعير اللغة، إذْ تكفُ عن نثريتها وهي تسعى إلى اقتناص فائض دلالتها."([xiv]) فتفاوت أسطر القصيدة يرجع في المقام الأول للدفقة الشعورية عند "امحمد زبور".
ب- الأطوال السطرية المتساوية: وهي أن يتساوى طول سطرين شعريين متواليين أو أكثر تساويًا تركيبيًا وايقاعيًا([xv])، وهو نوعان: تساو افتتاحي وتساو ضمني، فالتساو الافتتاحي هو "التساوي السطري الذي يفتتح مقاطع النص معتمدا على تكرار البنيتين التركيبية والايقاعية للأسطر المكرَّرة"([xvi]) ومن أمثلة ذلك في ديوان "امحمد زبور" ما افتتح به نصه "حزن ونشريسي" يقول:
في (الونشريس) سادتي([xvii])
مرَّ النهار عابرا فقيرْ
والماء لاذ نازفا أعشابهُ
والحزن كلها الخيام.
كانت لنا أعراسنا
نصفف الأشجار فيها تارة
وتارة ندعو الغمامْ
كنَّا نعدُّ قمحنا وظلَّنا واسمنا
تبدو أسطر النص متساوية إلى حدٍ ما، وهو ما يتناسب والحالة النَّفسية والشعورية للشاعر، فقد افتتح نصه بشبه جملة (في الونشريس) حدَّد من خلالها الحيِّز المكاني لآلامه وأحزانه، واستعمل مفردات تدل على ذلك (فقيرْ، نازفا، الحزن) كما وظَّف أفعالاً ماضيةً في بداية كل سطرٍ (مرَّ، كانتْ، نصفِّفُ، كنَّا) دلالة على أنَّه في موقف السَّارد لهذه الآلام والأحزان، فجميعها كانت في الماضي، الأمر الذي يجعلها أخفُّ وطأةً عليه، وهو ما يُشعره ببعض الهدوء والسكينة، لذلك جاءتْ الأسطر متساوية من حيث التركيب اللغوي والإيقاع.
أمَّا التساو الضمني فهو "التساوي السطري الوارد ضمن النص الشعري من غير أن تكون له وظيفة تكرارية"([xviii]) ومن أمثلته نص "طائر خرافي" يقول:
طائرٌ كان يأتي إلى الحيِّ([xix])
كل مساء ...
عندما يُطلق الليل قطعانه..
عندما ينتحى الضوء زاوية في الملاذ..
عندما يسقط النَّهر من دفتر الوقت..
تخلو الشوارع من نمنمات الأحبَّة
والذكريات تحطُّ بعيدا عن الغرباء
فالأسطر الأربعة الأخيرة متساوية من حيث التركيب والإيقاع، وتنطوي على نفس المعنى والدلالة، وهو تساو ضمني، فالشاعر يحدِّثنا عن الوقت الذي كان يأتي فيه الطائر الخرافي إلى الحي.
4- علامات الترقيم: تُعرف علامات الترقيم أو الوقف على أنَّها "وضع رموز مخصوصة، في أثناء الكتابة لتعيين مواقع الفصل والوقف والابتداء وأنواع النبرات الصوتية والأغراض الكلامية في أثناء القراءة"([xx]) فعلامات الترقيم تُيسِّر عملية الفهم على مستويين على مستوى الكاتب أثناء الكتابة وعلى مستوى المتلقي أثناء القراءة. ويمكن أن نقف على بعضها في ديوان "امحمد زبور":
- نقطتي التوتر (..): وهما "نقطتين أفقيتين بين مفردتين أو عبارتين أو أكثر من مفردات أو عبارات النص الشعري"([xxi]) وهي ذات صلة وثيقة بالتلقِّي البصري في الشعر المعاصر من خلال دلالتها البصرية على توقف صوت الشاعر مؤقتا بسبب التوتر والاضطراب اللَّذان تشهده حالته النَّفسية، ومن النصوص التي اعتمدت بكثرة على نقطتي التوتر نص "نشيد آخر للشنفرى" يقول:
هو ذا (الشنفرى) يطلع من شقوق الزَّمان([xxii])
من فراغ الصحارى البعيدة ..
من زمر الكادحين ..
من حبَّة خردل ...
هو ذا والكراسي التي شرَّدته تفرُّ
المدى ضيِّقٌ..
تبرزُ نقطتي التوتر في السطر الثاني والثالث والسادس، ويبدو أنَّ الشاعر يستدرك بعض أشعار الشاعر الجاهلي الشنفرى، الذي عُرف بانتمائه إلى الشعراء الصعاليك، وتوظيف الشاعر له كان توظيفا رمزيا له أبعاد اجتماعية وسياسية فـ"الشنفرى" موجود في كل زمان ومكان بكل تجلياته وصُوَرِه، وشنفرى اليوم موجود في الجنوب حيث تنعدم التنمية والحضارة موجود في الطبقة الكادحة... ونقطتي التوتر في الأسطر الثلاثة تُظهر احجام الشاعر عن الكلام لكي يَقِيسَ المتلقي ما يتلاءم وحالته الاجتماعية والنفسية. كما يسعى من خلالها إلى الحفاظ على تدفق الإيقاع الشعري عبر تجسيد اليأس الذي يسكنه ونقطتي التوتر تخلق بدورها صراعًا بين البياض والسواد، هذا الصراع هو بمثابة معادل موضوعي للصراع النفسي العميق الذي يُحسُّه. وتكتسي نقطتي التوتر دلالة أخرى تتمثَّل في عجر الشاعر عن تحديد المكان الذي يأتي منه "الشنفرى" فهو مكان مُبهمٌ لا يتبيَّنه أحد، وما يُصرح به ليس إلاَّ تخمينات فقط، وعلى المتلقي أن يجتهد بدوره في تحديده وكشف معالمه.
- نقاط الحذف (...): وهي "ثلاث نقط لا أقلَّ ولا أكثر، تُوضع على السطور متتالية أفقياً لتشير إلى أنَّ هناك بتر أو اختصار في طول الجملة"([xxiii])، وفي الكثير من الأحيان تنصرف دلالتها إلى المسكوت عنه. وظَّف الشاعر نقاط الحذف بكثرةٍ في نصوصه، كنص "حالة جنون"، يقول:
للبحر مُتَّسع من الأذكار([xxiv])
والسَّفر العبابْ
ولها القناديل التي...
لي شهوة النَّمل الذي...
لي وسوسات هذا الإنبهار
ولي الكلامِ.
سأطوق الأشجار بالوهم الكثيفْ...
أَبْني القبيلة بالقِبابْ...
إنَّ نقاط الحذف في آخر كل سطرٍ تمنح المتلقي ما لا نهاية من المعاني والدلالات، وبها يستعينُ النَّاقد في استنطاق النص والكشف عن المسكوت عنه، فالتنقيط "كناية بصرية عن دال (كلمة أو جملة) مُغيَّب بنحو مقصودٍ من قِبَل الشاعر تجنبًا للحساسية الدلالية التي يمكن أن يُثيرها ذلك الدال لو ظهر علنيًا في القصيدة."([xxv]) وتوظيف "امحمد زبور" لنقاط الحذف دليل على الامتداد البصري الذي يساهم في منح النص مساحات شاسعة للتأويل، وتوظيفه لها في سطور متتالية ينمُّ عن قلق واضطراب نفسي كبير، الأمر الذي يمنعه من البوح والافصاح، فيلجأ إلى الإيحاء ويترك الباقي للمتلقي ليُفكك هذه النقاط بغية الوصول للمسكوت عنه، فالمتلقي يمكن له أن يُضيف أي صفة لـلقناديل أو النمل أو الوهم، لأنَّ أي صفة سيأتي بها ستخدم المعنى العام للنص وتضيف إليه دلالة أخرى.
- الفاصلة (،): وهي "الوقوف على القليل في الجملة الواحدة."([xxvi]) ومن نصوص "امحمد زبور" التي وظَّف فيها الفاصلة نص "ما لم يقله المهلهل"، يقول:
كل شيءٍ على ما يُرام([xxvii])
تقول جرائد هذا الصباحْ
يُشعل الصمت بهو الطفولة، بيض الخطى ،
يافتات الحب والثلج، نهد سعاد الخجول ،
أراجيز أمي، متون أبي ،
وقرى البدو والبرتقال.
جاءت الفاصلة في نهاية كل سطر دلالة على اختلاف الدلالة بين السطور (الثالث والرابع والخامس) واتفاقها في السطر الواحد، فالطفولة تتوافق واللَّون الأبيض والبراءة الصادرة عنهم، كما أنَّ الحب والخجل والثلج من حقل دلالي واحد فكلها تتَّسم بالنقاوة والصفاء، والأم والأب يمثلان العائلة، أمَّا الفاصلة في آخر السطر فتكتسي دلالة مهمَّة، تتمثل في كون دلالة السطر تتوقف عند آخر مفردة فيه، فهي غير قابلة للزيادة كما هو الحال مع نقطتي التوتر ونقاط الحذف.
خاتمة:
استنادا إلى ما تمَّ التطرق إليه من مظاهر التشكيل البصري في الشعر الجزائري المعاصر، وتحديدًا في ديوان "ما لم يقله المهلهل" للشاعر "امحمد زبور" نذكر أهم النتائج المتوصل إليها:
- الشاعر المعاصر لا يكتفي بلغته الشعرية لإيصال رسالته بل يدعمها بتشكيلات بصرية لها دلالة مباشرة بحالته النفسية والشعورية.
- قدرة الشعر الجزائري المعاصر على مواكبة ثورات التَّجديد الحاصلة في عالم الشعر، وتجاوز المقولات التقليدية.
- اتجاه الشعر المعاصر إلى توظيف الصور البصرية، وإبراز حضوره من خلال ثنائية البياض/السواد.
- تكتسي ظاهرة التشكيل البصري أهمية بالغة في الإفصاح عن مقصدية الشاعر وفتح دلالات النص أمام المتلقي.
- الشاعر "امحمد زبور" يرسم لنا صورة واضحة المعالم للاضطراب المتنامي بداخله، وهو لا يتحدَّث عن نفسه وأحلامه بقدر ما يتحدَّث عن مجتمع بأكمله، فهو يشعر بنوع من الغربة في ونشريسه.
- وظَّف الشاعر علامات الترقيم بعناية شديدة، ولم يُسرف كثيرا في استعمالها إلاَّ ما استدعته الحاجة منها، فهو يُوظفها كي يُنبِّه المتلقي لما لا يقله وهو قادر على قوله.
- اظهار الشاعر "امحمد زبور" خصوصية شعرية جزائرية واعية من خلال توظيفه لبعض مظاهر التشكيل البصري في نصوصه كتقسيم الصفحة وتشكيل البياض وعلامات الترقيم.
مراجع البحث
() التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث (1950 - 2004) بحث في سمات الأداء الشفهي "علم تجويد الشعر"، محمد الصفراني، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء،ط1، 2008م، ص134.
([ii]) ينظر : م ن، ص 151.
([iii]) ما لم يقله المهلهل، امحمد زبور، دار أسامة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، ط01، د ت، ص50.
([iv]) البياض السردي: الأعراف ودلالات العدول، محمد بن سليمان القويفلي، مجلة جامعة الملك سعود، المجلد 15، العدد02 1423ه/2003م ص ص317 – 318.
([v]) التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث، محمد صفراوي، ص 151.
([vi]) ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب - مقاربة بنيوية تكوينية – محمد بنيس، المركز الثقافي، الدار البيضاء، المغرب، ط02، 1985م ص54.
([vii]) ما لم يقله المهلهل، امحمد زبور، ص 39.
([viii]) طائر الوجد دراسة تطبيقية في بنية النص الشعري العربي الحديث - سعدي يوسف انموذجاً – عبدالقادر جبار - دار الشؤون الثقافية – بغداد ط01، 2011م، ص 63 .
([ix]) ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، محمد بنيس، ص ص 207-208.
([x]) ما لم يقله المهلهل، امحمد زبور، ص64.
([xi]) التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث، محمد صفراوي، ص 171 .
([xii]) شعرية القصيدة القصيرة عند منصف المزغني، أحمد جار الله ياسين، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية، الملجلد2، العدد4، بغداد جامعة الموصل، 2005م، ص171.
([xiii]) ما لم يقله المهلهل، امحمد زبور، ص06.
([xiv]) أساليب الشعرية العربية، صلاح فضل، دار الآداب، بيروت، لبنان، ط01، 1995م، ص223.
([xv]) ينظر: التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث، محمد صفراوي، ص 176.
([xvi]) م ن، ص176.
([xvii]) ما لم يقله المهلهل، امحمد زبور، ص32.
([xviii]) التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث، محمد صفراوي، ص 177 .
([xix]) ما لم يقله المهلهل، امحمد زبور، ص85.
([xx]) الترقيم وعلاماته في اللغة العربية، أحمد زكي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر، د ط، 2012م، ص 12.
([xxi]) التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث، محمد صفراوي، ص 204 .
([xxii]) ما لم يقله المهلهل، امحمد زبور، ص ص97-98.
([xxiii]) دلائل الاملاء واسرار الترقيم، عمر أوكَان، أفريقيا الشرق طرابلس، ط01، 2002م، ص 119 .
([xxiv]) ما لم يقله المهلهل، امحمد زبور، ص77.
([xxv]) شعرية القصيدة القصيرة عند منصف المزغني، أحمد جار الله ياسين، ص172.
([xxvi]) مقاربة تاريخية لعلامات الترقيم، عبد الستار العوني، مجلة عالم الفكر، مج 26 ، ع 02، الكويت، 1997م. ص281.
([xxvii]) ما لم يقله المهلهل، امحمد زبور، ص24.



* المقال منشور بمجلة دراسات أدبية (مجلة وطنية محكمة)، مركز البصيرة، العدد الثالث الملجد العاشر، أكتوبر 2018م.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى