فلك طرزي - دون جوان لبنان يفكر.. قصة قصيرة

جلس (موفق) على حافة البركة التي تتوسط حديقة منزله الصغير وأخذ يداعب المياه الصافية التي تتساقط في الحوض وتتسابق بأصابعه، ويرسم على صفحتها خطوطاً وحلقات سرعان مت كان سير الماء يبددها ويمحوها لتتعود صفحته جلية ملساء تتراكض في وسطها الحبات اللؤلؤية، وكأنها قطع صغيرة من الماس تتقاطر من ثقوب النافورة وتتساقط على صفحة الماء رذاذاً فتبعث نغمة خافتة ووسوسة شجية. لم يصغ موفق إلى الموسيقى العذبة التي كانت تنبعث من لحنها لأن نفسه كانت بعيدة، بعيدة جداً عن هذا الحوض الصغير الذي كانت أنامله تعبث بمائه وتلهو به.

لقد ذكر موفق في هذه اللحظة أياماً ولّت وليالي انقضت كان خلالها يتمتع بأهنأ اللذات والمسرات، إذ كان النعيم يكسو ساعاتها ولحظاتها بأثواب السعادة الزاهية الألوان المختلفة الأشكال، ويبسط عليها ظلال الهناء والمرح والسرور، فكان كل من هذه الظلال الثلاثة يرشده إلى جنات وفراديس تجري من تحتها الأنهار، وتغرد على أفنانها الأطيار. . . فكان موفق يتمتع ويتلذذ، وكان يرشف كؤوس اللذة صافية حتى الثمالة، وكان يقطف ما حلا له من الزهر وما طاب من الثمر، ثم يعرض عن هذه وتلك حينما يتضح له أن ذبولاً قد ذهب بنضرة الزهر، أو أن مرارة قد مازجت حلاوة الثمرة، حتى شاع أمره بين الناس وذاع بين جميع البيئات، فدعوه (دون جوان لبنان) لما عرف عنه من حبه للنساء وإغرائه إياهن بشتى الوسائل، وإيقاعهن في حبائله بمختلف الطرق والأساليب.

وكان موفق يسر بهذا اللقب أما سرور؛ وهل من شيء يعتز به كل دون جوان في الحياة أكثر من اعتزازه بالحظوة الرفيعة التي يلاقيها عند النساء؟ فكان يذيع هذا النبأ الجديد هنا وهناك ويطلع الذين لم يعلموا بأمره أنه كان يحلم بهذا اللقب منذ حداثته، بل منذ كان صبياً يلعب والصبية الصغار من أبناء الحي. وكان كثيراً ما يقص عليهم حوادث وحكايات جرت له وهو مازال في الثامنة عشرة من عمره، وكم من مغامرات غامرها، وكم من نسوة ساذجات كان يغريهن بالكلمات المعسولة والمجاملات اللطيفة ليجذبهن إليه ويوقعهن في شباكه؛ ثم ليعرض عنهن ويوليهن ظهره بعد أن ينال منهن بغيته ويتركهن وشأنهن ويذهب ليبحث عن اللذة عند غيرهن.

ولما كبر وصار رجلاً جعله أبوه مديراً للمتجر الكبير الذي كان يعد من أشهر المحال التجارية في بيروت، وقسم الأعمال الأخرى على اخوته الثلاثة الذين يصغرونه ببضع سنين، وترك له حرية التصرف في الدخل الذي كان ينهال على هذا المحل كأنه النهر المتدفق يجرف في طريقه كل الأشياء ولا يبقي منها شيئاً واحداً. . . أخذ موفق ينفق بسخاء وإسراف ويبدد الأموال هنا وهناك وفي كل مكان دون أن يفطن للآخرة ودون أن يحسب لها حساباً، وكم كلفته شخصية دون جوان، هذه الشخصية التي تقمصته وامتزجت به واختلطت بنفسه فصارتا نفساً واحدة.

أجل! كم كلفته أموالاً وإسرافاً، بل كلفته جهوداً في العدو وراء كل امرأة يستهويه جمالها وتجذبه حمرة شفتيها.

وما لبث موفق أن أخذ يستعرض في ذاكرته أشكال النسوة اللاتي تولى زمامهن في الحياة إلى حين. وأخذ يذكر النعيم والهناء اللذين تذوق حلاوتهما في عشرتهن ومصاحبتهن، ويذكر هذه النشوة التي كانت تعتريه حينما كان يظفر بفريسة يشبع نهمه بلحمها ودمها. . .

فهذه التي تمثل الآن شبحها وتجسم في مخيلته، كانت هيفاء القد نحيلة الخصر، وتلك التي عقبت أختها الآن وتصورها خياله كانت، ويا شد ما كانت! كانت ناعسة الجفون، حالمة العينين، تزيد نظراتهما رقة وعذوبة أهداب كثيفة سوداء كثيراً ما كانت تسدل فوقهما لتخفي بين الجفون معاني تلوح في حدقتيهما. وأما هذه الأخرى فيا لشفتيها! كم كانتا رقيقتين كأنهما وردتان نضرتان متفتحتان في روض وجهها الذي تتلألأ فيه فتنيره عينان وضاءتان كحيلتان تريقان عليه نوراً مشرقاً ساطعاً يزيد في إشراق سمائه وجماله، وهؤلاء الفتيات الخمس اللائي وضعهن يوماً في السيارة وسار بهن من بيروت إلى أحد مصايف لبنان حيث قضى معهن سهرة أحياها إلى الصباح. . . لقد جلس بينهن أمام مائدة قد صف عليها جميع أنواع الكحول، وتكدست فوقها أصناف النقل المتنوعة والأثمار المشكلة. . . وما أسعدها ليلة قضاها موفق بين نزعات الهوى الباسم ونغمات الهواء البليل الناعم، يتمتع بمغازلة خمس حسان من أجمل الفتيات وأرشقهن قدوداً وأعذبهن صوتاً وأحلاهن حديثاً. . . وما أهنأها ليلة وما أجملها، تنشق موفق النسمات اللطيفة التي ينفحها جو لبنان الصافي العليل.

غير أن الأوراق المالية كانت في هذه الليلة تسيل من جيبه كما كانت الشمبانيا تسيل من القوارير.

كان موفق يفعل هذا كله لإرضاء نفس لا يستطيع كبحها، وأهواء ليس في وسعه ردها؛ ولم يذكر موفق أن الحب، الذي يدعونه بالحب الخالص الصافي، قد خالط نفسه يوماً من الأيام.

كلا؛ فهو ما شعر قط بلذة الروح - هذه اللذة العالية التي ترفع بصر الإنسان إلى ما فوق المادة وتجعل القلب يخفق بأنبل العواطف وأشرفها - تعتور نفسه، وتشعرها برعشة تهتز لها أضالعه وتختلج جوانحه. كلا! إنه لم يعرف من الحب سوى المعنى الوضيع الذي تولده حيوانيته، وجهل ومازال يجهل المعنى الرفيع الذي تولده نورانيته، والذي يضئ الروح بنور الفضيلة والهدى والحق. . .

لقد كانت أهواؤه شغل حياته الشاغل، إذ هو لا يجيد من فنون الحياة إلا فن الإغراء والإغواء والمخادعة. . . وما فكر قط أن آخرة مؤلمة ستنتج عن حياة الطيش والفوضى؛ لقد انتهى موفق إنفاق ما في خزائن المتجر وتجاوزها إلى رأس المال، فأفلست التجارة. . ولم يجد الدائنون بداً من عرض جميع ما يملك موفق وأسرته في المزاد العلني، فبيع المنزل وجميع مفروشاته الفاخرة، وبيعت الحديقة الغناء الواسعة الجوانب التي تحيط به من جميع أطرافه، ونزحت الأسرة المنكودة عن البيت بعد أن نعموا باجتماع الشمل حقبة، وراح موفق ينشد العمل في كل مكان فلم يعثر عليه إلاَّ بعد جهد جهيد مقابل أجر زهيد يكاد لا يكفي نفقته ونفقة أخته التي تقاسمه الحياة وتشاطره البؤس. . .

أحس موفق حين رجع بذكرياته إلى هذه الذكرى المؤلمة، كأن هزة عنيفة تعتري جسمه فانتفض واختلج، وشعر كأن شيئاً أخذ يحز في نفسه حزاً مؤلماً، فانتصب واقفاً وغادر حافة البركة التي كان جالساً عليها يداعب مياهها، وأخذ يجول بنظره في أطراف الحديقة، ويتلفت يمنة ويسرة، يحدق بكل ما يبصر، ويصغي إلى كل ما يسمع، فإذا به يشاهد براعيم الأزاهر ترنو إليه وترفع نحوه أكمامها المتضوعة العبير تشكو ظمأها، فاقترب من البركة وأخذ إبريقاً من المعدن الأبيض وملأه وسقى الأزاهر وبلل أغصانها بقطرات الماء النمير، ثم بعد ما فرغ من سقيها أخذ وعاء صغيراً ووضع فيه دقيقاً خلطه بماء، ثم أخذ يعجنه حتى إذا تماسك قدمه إلى حمامة سمعها تنوح شاكية له جوعها. . .

وهكذا تعزى دون جوان المنهزم عن عزه الغابر المفقود بإطعام الحمام وسقى الأزهار!

فلك طرزي



مجلة الرسالة - العدد 173
بتاريخ: 26 - 10 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى