السيد محمد زيادة - مليم العظماء. .؟! - قصة قصيرة

وقف هذا العظيم وقفة ناطقة بعظمته أمام دكان حلاق، ثم جاز بابه متهادياً منتفخاً كما يجوز باب داره التي لا تحوي إلا ما هو مالكه؛ وكان الحلاق جالساً كالنائم، لا يصل بصره وذهنه إلى أبعد من مجلسه، فهب واقفاً تدق على قلبه هيبة الداخل عليه.

وجلس الرجل على الكرسي جلسة أمير متواضع، ووقف الحلاق من خلفه كما يقف المتهم في ساحة العدل. . . وكان دهشاً يزدهيه ويربكه أنه على فقره وخموله يحظى بشرف التصرف في نبات ذلك الرأس العظيم وتزيينه وريه بأغلى ما عنده من العطور؛ ولكنه استجمع نفسه وذهب يجلب من نواحي دكانه أجود مقصاته وأحد أمواسه، وبدأ يعمل بفكره وعينيه ويديه، حتى يخرج من مهارته تحفة فنية رائعة ترضي عظمة (الزبون) وتفتح للدكان باباً في الشهرة ومن ورائه باباً في السعادة. . .

وتواردت على رأس الحلاق أحلام خلابة تنبئه بحياة هنيئة ناعمة، وصيت ذائع منتشر. . . فتصور أن بعد ذلك الرأس الرفيع رؤوساً رفيعة أخرى ستظهر عليها بدائع يديه. . . وأيقن أن قد حان الوقت لينال حقه المهضوم وينصف فنه المظلوم. . .

وتصور أنه إذ يتعب في تزيين ذلك الشعر وتجميله إنما يتعب في تزيين دنياه الجميلة التي الجميلة التي في خياله. . . ثم اعتقد أنه ولا شك بالغ بعد ذلك غاية الأمل ما دام قد حلق لهذا العظيم، وما دام العظيم يرضى عنه، فجعل يبذل ما في وسعه من حذق لتجيء الصنعة فاتنة لا عيب فيها فتجيء الدنيا كاملة لا نقص فيها.

وراح الزبون الكريم المتواضع يطلب موسى غير الموسى لتكون أمضى، ويطلب فرشاة غير الفرشاة لتكون أطهر؛ ثم أخذ ينبسط مع الحلاق ويؤنسه من نفسه العظيمة ويحاضره في تواضع العظمة وعظمائها. ويقص عليه نوادر تبين له أن الكبير من لا يتكبر، وأن الحلال حلو ولو مرَّ، والحرام مرٌّ ولو حلا، وأن الدنيا والآخرة للأمين، والدنيا والآخرة على الخائن؛ ثم كان يفصل قصصه بأحكم الحكم وأصدق الأمثال. والحلاق غارق بسمعه في لذة الحديث، مستغرق بعينه في لذة الصنعة، سابح بفكره في لذة الأحلام. . .

قال الزبون فيما قال: كل شيء يقع في هذه الحياة بقضاء، فما من شر يصيب وما من خير يصاب إلا وهو مكتوب من قبل في لوح القدر.

قال الحلاق: صدقت والله يا أفندينا. . . فقد يكون الإنسان غافلاً فتنساق إليه الأسباب من تلقاء نفسها، وقد يكون خاملاً فينصب عليه الرزق من حيث لا يدري. والمثل فيّ أنا. . . أنا جالس يا أفندينا في غفلتي وخمول شأني ضعة مكاني - فإذا بك تشرفني بالدخول علي؛ فهل هذه إلا مفاجأة؟ (وفي السماء رزقكم وما توعدون).

قال الزبون: وفي حقيقة الأمر أنها لم تكن مني عن تدبير ولا نيّة، ولم تكن في حسباني ولا ألقيت لها بالاً، ولا كنت في حاجة ماسة للحلاقة اليوم. . . فما هي إلا خطرة مالت بي إليك ولا أدري سببها، وكأنما كان للإلهام فيها عمل.

فأحس الحلاق أن في حديث زبونه ما في حديث نفسه، فانتشى ظاهره بما في باطنه وقال: إي والله إنه لإلهام وإنه لحظ سعيد وإنه لشرف عظيم؛. . وأرجو ببركة تواضعك الميمون أن أصبح في القريب حلاق إخوانك العظماء من هامات الناس وكبرائهم. وبذلك أكون صنيعة فضلك وخادم إحسانك.

قال الزبون: لا ريب في أنك ستكون حلاقي الخاص وحلاق إخواني الدائم إذا ما أعجبتُ أنا بحلاقتك وصنعتك.

وانتهى الحلاق من جهاده في سبيل المجد، ووقف مضموم اليدين ينتظر الرضى والثناء! وأعجب العظيم بحلاقته أيما إعجاب ووقف يعرض نفسه على هذه المرآة وتلك المرآة وهو ينثر كلمات الإعجاب في كرم وسخاء. والحلاق لا يدري أهو كالناس على الأرض أم طائر مع ملائكة الحظ والسعادة. . .

وأخرج الزبون من جيبه دخينة ضخمة فخمة كأنها من نوع ممتاز لخلق ممتاز - وأشعلها ثم قال: ألا تدري أن هذه الدخينة من صنع بلادنا؟.

قال الحلاق: يا عجيباً!! وهل تقدمت بلادنا إلى هذا الحد؟

قال الزبون: أنت تعجب فكيف عجبك لو علمت أن ثمن العلبة من هذه عشرون قرشاً؟ وكيف بك لو علمت أن هناك نوعاً آخر ثمن العلبة منه مائة قرش؟. وكل الذين يتشرفون بزيارة السراي الملكية يقدم لهم من هذا النوع. . وأنا أكاد لا أصدق أن في (السجائر) ما هو رخيص، فكم هو ثمن أرخص (سيجارة) عند الناس؟

قال الحلاق: يا مولاي أن معظم السجائر من هذا النوع الرخيص الدون، وثمن الواحدة منه مليم واحد وهو ثمن نصف رغيف للفقير المسكين. .

قال الزبون: إذن فالمليم له معنى كبير!!؟ ياله بؤساً وشقاء للإنسانية. . أمعك واحدة من هذا النوع الرخيص؟. لا ريب انها ستكون لذة جديدة مشتهاة لغرابتها.

قال الحلاق: أنا يا أفندينا لا أدخن فمليم ومليم ثمن رغيف.

قال: آه. . . أضن أن معي مليماً فريداً حائراً في جيبي. خذه فاشتر لي به واحدة لأرى.

وذهب الحلاق يتكفأ ومعه المليم، وغاب دقائق ثم عاد يتوثب ومعه (السيجارة) الرخيصة. . . ونظر فلم ير أحداً في الدكان؛ ثم نظر فلم يجد آلاته لا في موضعها ولا في غير موضعها، وحينئذ. . . حينئذ فقط أدرك الحلاق أن الزبون العظيم ما هو ألا محتال عظيم، وأن الأحلام التي ألقاها في خياله إنما ألقاها غشاءً على بصيرته؛ فلطم وصرخ واستغاث؛ واجتمع الناس يتناولون الحادث كما حدث ويتبادلون الرأي فيه. . . ومال بعضهم إلى الأرض يقلب شعر اللص الجريء لعله يعثر فيه على سر.

وقال بعضهم: ما أغلى التضحية! لقد طمع الحلاق المسكين في العظيم والعظماء فضيع آلاته وأسباب رزقه ليعلم من كل ذلك أن العظمة قد لا تساوي في بعض أهلها غير مليم.

(طنطا)

السيد محمد زيادة


مجلة الرسالة - العدد 173
بتاريخ: 26 - 10 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى