علاء مشذوب - الصور العمياء.. أو حينما يُصاب الصليب بالعمى

للوهلة الأولى يقع القارئ في مطب السؤال الذي يمسك بخناقه من الصفحات الأولى لقرائته رواية العمى لـ(جوزيه ساراماغو)، هو كيف أصيب الرجل الأعمى بابتلاء مرض العمى، من دون أية مقدمات، إذا ما علمنا أن مفهوم الصدفة قد يكون منبوذاً عند كثير من النقاد والروائيين على حد سواء بالرغم من أن (جليبرت سينويه) في روايته (صمت الآلهة) يقول: "المصادفات من ألدّ أعداء الحقيقة". ولكن من دون جواب حتى يصل الى نهاية الرواية لنكتشف أن النص يقوم على أساس أسطورة مفادها: أن المسمّر على الصليب تغطي عيناه لصاقة بيضاء، وبقربه امرأة يخترق قلبها سبعة سيوف، وغطّيت عيناها بلصاقة بيضاء، ولم يكن الرجل والمرأة وحدهما في هذه الحالة ص307. وليس على أساس المصادفة.

يبحر الراوي العليم بكل شيء في سرد أحداث روايته وسط عباب هائج وسيل من المفاجآت المستمر، حتى يصاب أهل المدينة بمرض العمى كلهم، باستثناء الشخصية الرئيسة وهي زوجة الطبيب الأعمى، إذ أن الرواية تخلو من أسماء لشخصياتها، كما تفتقد الى اسم المكان، ولكنها تتحلى ببعض الأزمنة التي تكاد تكون ميتة أو غير ذي فائدة. شخصياتها ست هم (الأعمى الأول وزوجته، الطبيب وزوجته التي ترى، الرجل ذو العين المعصوبة، الطفل الأحول، الفتاة ذات النظارة السوداء، الكلب الدموع) والأدوار الثانوية لشخصيات العميان، لا سيما الجارة العجوز (الحيزبون).
تناقش الرواية عدة أفكار وانطباعات على لسان الشخصية الرئيسة لا سيما مفهوم العدم. قائلة: هذا هو الانطباع الذي خرجت به من خلال مراقبتي لسلوك الناس، فلا يوجد ماء ولا كهرباء ولا طعام من أي نوع، لا بد أن هذا هو العماء، هذا هو المعنى الحقيقي لكلمة العمى. لا بد أن هناك حكومة، قال الأعمى الأول، لا اعتقد ذلك وأن وجدت فسوف تكون حكومة من العميان تحاول أن تحكم العميان، أي بكلمة أخرى، ان عَدَمّ يحاول تنظيم العدم ص247.
لكنها من جانب آخر تسعى الى تدعيم فكرة السيد المسيح، ومن كونه الراعي للحياة، ومن دونه فإن الناس تتحول الى ذئاب يأكل فيها القوي الضعيف من دون رحمة، حينما يصاب أهل مدينة لا نعرف اسمها بالعمى، باستثناء زوجة الطبيب الأعمى هي الوحيدة المبصرة، وبالحقيقة هي عينا الراوي أو السيد المسيح الذي يأخذ على عاتقه إنقاذ البشرية، حينما يبدأ الغذاء بالنفاد من المدينة، وأخذت الجثث تعلو في الطرقات والحوانيت والسوبرماركتات والشقق والبنوك والمعامل، وفي حين غرة، تكتشف المرأة التي ترى كنيسة على مبعدة، فتقرر الذهاب إليها بمعية زوجها وكلبها ذي الدموع، لتنفرج أسرار الرواية ونصل الى الحل حينما تدخل إليها لتجدها مكتظة بالناس.
تتفاجأ بما تراه داخل الكنيسة، لتخبر زوجها: إن ما تراه عيناها لا يمكن أن يكون صحيحاً، فذلك المسمّر على الصليب تغطي عيناه لصاقة بيضاء، وبقربه امرأة يخترق قلبها سبعة سيوف، وغطيت عيناها بلصاقة بيضاء، ولم يكن الرجل والمرأة وحدهما في هذه الحالة، الصور في الكنيسة قد غُطيت عيناها أيضاً بلصاقات بيض، وعصبت أعين التماثيل بقماشة بيضاء ربطت حول رؤوسها. أما الرسومات فقد طليت أعين من فيها بطلاء أبيض، وكانت هناك صورة لامرأة تعلّم طفلتها القراءة وكلتاهما غُطيت عيناها أيضاً، ورجل في يده كتاب مفتوح يجلس عليه طفل صغير، كلاهما غُطيت عيناه، وصورة رجل بجروح ظاهرة على يديه وقدميه وصدره وقد غُطيت عيناه أيضاً، ورجل آخر برفقة أسد وكلاهما غُطيت عيناه ورجل آخر مع نسر وكلاهما غُطيت عيناه، ورجل آخر يحمل رمحاً وهو يقف فوق آخر ملقى أرضاً له قرنان وأظلاف وكلاهما، غُطيت عيناه، ورجل آخر يحمل مجموعة موازين وقد غُطيت عيناه، ورجل أصلع يحمل في يده زئبقاً أبيض، وقد غُطيت عيناه، وعجوز آخر يتكئ على سيف مسلول وقد غُطيت عيناه، وامرأة معها حمامة وكلتاهما غُطيت عيناها، ورجل ومعه غرابان وقد غُطيت أعين الثلاثة، كان هناك امرأة واحدة فقط لم يوضع على عينيها لصاقة بيضاء لأنها كانت تحمل عينيها المقلوعتين على طبق من فضة.
لن تصدقني إن أخبرتك بما أراه. قالت زوجة الطبيب لزوجها، فكل الصور في هذه الكنيسة قد غُطيت أعينها. هذا غريب جداً، وأعجب لماذا. كيف لي أن أعرف، ربما كان ذلك من فعل شخص ما تزعزع إيمانه على نحو شيء وعندما أدرك أنه سيعمى كالآخرين، وربما كان أيضاً قس الكنيسة هو من فعل ذلك، ربما أعتقد أنه ما دام العميان لا يستطيعون رؤية الصورة فيجب ألا تكون الصور قادرة على رؤية العميان بالمقابل. إن الصور لا ترى. أنت مخطئ إن الصور ترى بأعين من ينظرون إليها، المشكلة الآن أن العمى قد طال الجميع. انت لا تزالين مبصرة، إن بصري يتناقص مع مرور الزمن على رغم أني قد لا أفقد بصري بيد أني سأزداد عمى لأنه ليس هناك من ينظر إليّ ويراني. ص308.
وهنا تحدث انعطافة قوية في النص، من كون الشخصية المبصرة الوحيدة بالنص، تعلل هذا الفعل المشين وتعقله برأس كاهن، وإنه سبب البلاء الذي حطّ بأهالي المدينة، نعم إنهم الكهنة السيئون هم من تسبّبوا بالمأساة حينما تبدأ بتأويل هذا الفعل بالقول: إن كان القس هو من غطى أعين الصور. هذا رأيي وهو الافتراض الوحيد المعقول، إنها الفكرة الوحيدة التي قد تضفي بعض النبل على معاناتنا. إني أتخيّل ذلك الشخص يدخل الى هنا من عالم العميان، ذلك العالم الذي إذا ما عاد إليه فسوف يعمى. أتخيّل الأبواب المغلقة، الكنيسة المقفرة، الصمت أتخيل التماثيل، الرسومات إني أراه يتنقل من واحدة الى الأخرى، يصعد المذابح، يربط العصابة البيضاء ويعقدها عقدتين كي لا تنفك أو تنزلق، يضع فوق أعين الرسومات طبقتين من الطلاء الأبيض كي يجعل الليل الأبيض الذي يغرقون فيه كثيفاً، لا بد أن ذلك القس قد أقترف أسوأ تدنيس للمقدسات في كل العصور والأديان، إنه الانسان الأكثر عدلاً وتطرفاً، يدخل إلى هنا ليعلن أن الله الكلّي القدرة ليس جديراً بأن يرى. ص309.
لم يدر في خلد زوجة الطبيب إنها حينما كانت تحدث زوجها بالذي تراه، كانت في الحقيقة تحدث الناس كلهم داخل الكنيسة، فانبرى أحدهم يسألها: ما هذا الكلام الذي اسمع، من انتِ ؟ عمياء مثلك، قالت. لكني سمعتك تقولين إنك تستطيعين أن تري. هذه مجرد طريقة في الكلام من الصعب التخلي عنها، كم مرة سأردد هذا القول. وما هذا الكلام عن عصابات فوق أعين الصور. هذه هي الحقيقة. وكيف عرفِت ذلك ما دمت عمياء. ستعرفه أنت أيضاً إذا ما فعلت كما فعلت أنا. فأذهب إليها وألمسها بيديك. فاليدان هما عينا الأعمى. ولماذا فعلتِ ذلك. لأني اعتقدت أنه كي نصل الى ما وصلنا إليه فلا بد من وجود شخص ما آخر أعمى. وتلك القصة عن قس الأبرشية الذي عَصَبَ أعين الصور إني أعرفه جيداً. فهو لن يقوى على فعل شيء كهذا. أقول لك مقدماً أنت لا تعرف ما يستطيعه الناس، عليك بالانتظار، أن تمنحهم الوقت، فالزمن هو الذي يحكم الزمن هو المقامر الآخر قبالتنا على الجانب الآخر من الطاولة، وفي يده كل أوراق اللعب، وعلينا نحن أن نحزر الأوراق الرابحة في الحياة.
ما إن يسمع الناس هذه المحاورة بين زوجة الطبيب الأعمى، والأعمى الذي بقربها حتى يهرعوا الى خارج الكنيسة: لسوء الحط كان في الكنيسة كثير من ذوي التفكير الخرافي التخيلي، من بين رعايا الكنيسة. وفجأة بدت فكرة عمى الصور المقدسة. وأن أعينها الحانية أو المتأسية إنما تنظر الى عماها هي، بدت غير محتملة ومساوية لإخبارهم بأنهم محاطون بالأحياء الموتى. صرخة واحدة تكفي، ثم صرخة أخرى وأخرى، ثم دفع الخوف كل رعايا الكنيسة الى النهوض، وقادهم الهلع الى الأبواب. ص310.
لتختم الرواية بمأساة مؤلمة حينما يذهب مرض العمى عن أهل المدينة، وبدأت الفرحة تعلو بأصواتها عنان السماء، وصيحات (أنا أرى) (أنا ابصر) تملأ الشوارع والعمارات والشقق لتدفع بالخوف الى خارج جدران أجسادهم، أخذت الشخصية الرئيسة تحدث نفسها: نظرت الى الشارع في الأسفل المملوء بالقاذورات، الى الناس الذين يصرخون، يغنون. بعدئذ رفعت بصرها الى السماء فرأت كل شيء أبيض. إنه دوري، فكرت لنفسها. جعلها الخوف تخفض بصرها بسرعة، فرأت المدينة لا تزال في مكانها. ص318.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى