فليحة حسن - إجهاض.. قصة قصيرة

بمجرد شعوري بغثيان وعدم قدرة على تحمل الروائح المألوفة إلى أنفي أيقنت أنه قد تكوّنَ في داخلي، أقلقني هذا الأمر كثيرًا ولم أفكر إلا في كيفية التخلص منه فكيف لي وأنا المعيلة لهم أن أضيف فمًا سادسًا للأفواه التي أكدُّ في سبيل حصولها على ما تأكله؟ استجمعت شجاعة لم آلفها بي ورحت وبمجرد سماحها لي بالدخول والجلوس على كرسي قريب من مكتبها أحكي لها وبلغة مبتلّة بالدموع كيف أنه قد حدث على سهوة منّا وإني لا أقدر إلا أن أضحي به كيما يستمر إخوته في العيش، لم ترضَ في بادئ الأمر ولكن معرفتها بحالي وسوئه جعلها تتلفتُ يمينًا ويسارًا وهي تسحب درج مكتبها وتهمس لي:

- اسمعي صديقتي ابتلعي من هذه الحبوب حبتين أربع مرات يوميا ولا تخبري أحدا بذلك مطلقًا، والآن أكملي تنظيف المكتب قبل أن يحضر المرضى. بسرعة كبيرة اختطفت الحبوب، واستكملت التنظيف ودموعي لا تتوقف.

مرت ثلاثة أيام وأنا أتجرع الحبوب ولم يحدث شيء سوى ألم بسيط احتل ظهري، في اليوم الرابع أضفتُ الى وجبات الدواء اليومية كوبين أحدهما من القهوة المرّة وآخر من الحناء السائلة، ولأنني أعلم أن للحركة دورًا كبيرًا فيما عزمت عليه صرت أصعد السلم عشرات المرات يوميًا وطلبتُ من أثقل بناتي وزنًا أن تعتلي ظهري، وحين كان يغيب الجميع كنتُ اهرع الى قنينة الغاز في المطبخ وارفعها مرارًا.

في الساعة التاسعة ليلًا بالتحديد، من اليوم الخامس، شعرت بازدياد الألم وتوزعه في جميع أجزاء جسدي وبازدياد الألم صرت أعض على أصابعي وأكتم آهات عدة.

لم تتجاوز الساعة التاسعة والنصف ليلًا حتى أيقنتُ تمامًا أن ما سعيتُ له تحقق، لم ألتفت الى من كان يشاطرني الجلوس في الغرفة حين رميتُ بالغطاء وركضت يحملني الألم إلى الحمام وقبل أن تمتد يدي لإغلاق الباب شعرتُ بانسيابه سائلًا مني وقد غطى الأرض.

بعد برهة فتحتْ الباب وشعرتُ بوجود جسد طويل يحمل بيده رمحًا استلها ليغرسها في كتفي الأيسر، سقطتُ، اجتمع كل من كان في البيت وأعني عائلتي وحملوني إلى هناك.

بوضوح تام كنتُ اسمعهم غير أنني فقدتُ حينها قدرتي على الكلام أدخلوني الى قاعة كبيرة لا يشوب جدرانها وسقفها الأبيض لون آخر. دخلتْ فتاة ذات ملامح فائقة الجمال عشرينية تتسربل بثوب أبيض طويل تحمل بيدها سيفًا اقتربتْ من جمعنا وصارت تقطع الرأس تلو الآخر دون أن تسيل منه نقطة دم، صرتُ ارتجف هلعًا وأنزوي بين الجموع.

اقتربتْ مني ونظرتْ إليّ باستغراب لتقول:

- ما اسمك؟

- أجبتها: صديقة بنت خديجة.

- لست أنتِ ورفعتْ السيف الى الأعلى وهوتْ به على كفي الأيمن، تلوّيتُ ألمًا.

صَرَختْ فيهم: أخرجوها، فسحبتني قوة الى الخارج، استدرتُ الى الوراء فرأيتُ اثنين لم أتبين ملامحهما، عدوت بسرعة فوجدت نفسي في مقبرة، كان الجميع منشغلًا بموتاه بين الحمل والحفر والدفن.

من صمت المقبرة الذي لا تشوبه سوى معاول الحفر تسلل الى أذني صوت أحدهم وهو يحث زميله على إكمال حفر القبرين بسرعة .

بعين كادتْ أن تخرج حدقتها هلعًا نظرتُ إلى اسمي مدونًا على شاهدة الى جانب الحفرتين....

لحظة من فضلكم.

أرجو أن تنسوا كل ما قصّته عليكم أمي واسمحوا لي أن أقص عليكم ما حدث فعلًا لأنني ببساطة الراوي العليم الوحيد في هذه القصة.

نعم أمي حاولتْ أن تنزلني قسرًا من هناك، لكن كل محاولاتها باءت بالفشل الذريع، صحيح إنني وأنا المعلق رأسًا على عقب بحبلي السري كنتُ أتعرض ولمدة أيام لهزات عنيفة، إلا أنني كثيرًا ما كنت ألوذ بركن ذلك المكان الدافئ ممنيًا نفسي بالحصول على هدوء قادم بعدها.

وحين شعرتُ بوصول مذاق سيئ ممزوج بالمرارة من حبلي السري مددتُ كفايّ وضغطت بهما على الحبل فحال الضغط دون دخول ذلك المذاق مرة أخرى.

نعم، أؤكد لكم أنني خرجتُ من هناك مكتملًا بعد مرور تسعة أشهر وتسعة أيام وتسع دقائق وتسع ثوانٍٍ، ولديّ دليل على مصداقية كلامي يكمن في شخص القابلة التي أخرجتني بسحبي من رأسي أولًا بكلتا يديها، ورفعي الى الأعلى بيد واحدة من قدميّ، فلا أنسى يومها كيف أخذت تتفحص ملامح وجهي بنظرات غريبة متكهنة بما سأصير إليه.

- ستغدو قاصًا، وأنا أدعوكم الى الدخول إلى بؤرة الحكي لتتعرفوا عليها فهي طبعًا موجودة ضمن شخصيات القصة.

نعم لقد جئتُ مكتملًا وعشتُ حياة طويلة، وهأنذا أروي لكم ما حدث فعلًا وإلا كيف لامرأة بسيطة مثل أمي أن تكتب قصة كهذه تتداخل فيها الأزمنة ويصعب على متلقٍ واعٍ أن يعرف بها أيّنا كان البطل؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى