عبد الكريم بن تابت - بائع الذكريات

كان مساء .. وكان برد وهواء وكان صوت العاصفة يدوي في الفضاء. وكان صديقي يسير مخيفا كالشبح. فإنما كأفكار المتشائمين والظلمة حوله كثيفة كئيبة توحي الحزن، وتبعث الهلع، فقابلته صدفة فقال لي والدموع تنهمر من عينيه:
تشتري مني ذكرياتي؟ قلت: بكم يا صديقي؟ فقال:
بنجمة لامـعة و ـ كوكـب مضــــيء
ينير لي السبيل علي أعثر على نهر النسيان
فلويت وجهي عنه وأنا أقول:
بطيئا بطيئا سيظهر لـك السـناء
وتبدو الكواكب ضاحكة في السماء
فتعثر على نهـــر النسيــان
فلوى الشيخ وجهه وهو يقول:
بطيئا بطيئا سيظهر لك السنـــاء
وتبدو الكواكب ضاحكة في السمـاء
فتعثـر على نهــر النسيـــان
كان الجو متلبدا بالغيوم
والريح تهذي هذيان المحموم
والكآبة شاملة قاتلة
والسامة من حياته المظلمة مائلة
فزلت به قدمه فشكا
ووجد نفسه طريح أرض جدباء فبكى
ولما التفت حوله
وجد شيخا يرني لحاله
ويبكي لمآله فالتفت إليه قائلا
اشتر مني ذكرياتي ؟
فقال الشيخ بكم يا بني؟ فقال
بنجمة لامعة وكوكب مضيء
ينير لي السبيل علي أعثر على نهر النسيان
فلوى الشيخ وجهه وهو يقول:
بطيئا بطيئا سيظهر لك السناء
وتبدو الكواكب ضاحكة في السماء
فتعثر على نهر النسيان
سرى المسكين في الليل وحده
وقد بلغ منه الألم أشده
سرى والمطر ينهمر انهمارا
وينتشر على جسده انتشارا
وهو في أسمال باليــة
وضلوعه ذاوية
وهو في قشعريرة قاسية
وعيون باكية
وإذا برجل كالح الوجه أمامه
قد ركب فرس التعاسة والجهامة
فقال له
أتشتري مني ذكرياتي؟
فصاح فيه الرجل بكم، فقال
بنــجمة لامــعة وكوكــب مضــيء
ينير لي السبيل علي أعثر على نهر النسيان
فلوى التعس وجهه وهو يقول:
بطيــئا بطــيئا سيظــهر لـك السناء
وتبدو الكواكـب ضاحكــة في السمــاء
فتعـــثر على نهــــر النســـيان
آوي إلى ركن ناعم لينقي الخطر
خطر العاصفة وعنف المطر
فوجد حسنا ذاويا امتصه السنون
وأكلته الأحزان والشجون
والتفت إليه قائلا أيها الجمال:
أتشتري مني ذكرياتي؟
فقال الجمال الذاوي بكم؟ فقال
بنجمة لامـــعة وكوكـــب مضــيء
ينير لي السبيل علي أعثر على نهر النسيان
فلوي وجهه وهو يقول:
بطيئا بطـيئا سيظــــهر لك السنــاء
وتبـدو الكوكب ضاحــــكة في السماء
فتعــــثر عـلى نهــر النســـيان
والتفت فوجـدت صــديقه القديــم
ورفيق صبــاه الكريم
وقد غارت نظرتاه
وذيلــت وجـــنتاه
وأكل الزمن شبابه
وهدت الأحزان أعصابه
فقال له:
أتشتري مني ذكرياتي؟
فأجابه بكم يا صديقي؟ فقال
بنـجمة لامــعة وكــوكب مضـــيء
ينير لي السبيل علي أعثر على نهر النسيان
فلوي الصديق وجهه عنه وهو يقول:
بطيــئا بطيــئا سيظــهر لك الســـناء
وتبدو الكواكـب ضاحــكة في السمــاء
فتعثر على نهر النسـيان
وصاح
آه يا رب حياتي ومماتي
لم أجد من يشتري مني ذكرياتي
بنجمة لامعة من نجومك
وكوكب مضيء من كواكبك
علي أعثر على نهر النسيان
فأعني يا إله التعساء المحرومين
وإله السعداء المجدودين
يا إله النـــور والظلمــة
وباعث الفرحة وكاشف الغمة
وفجأة بدأ نور متلألئ مهيب
له أريح عبق ولون غريب
وصاح يا بائع الذكريات
أيها المثقل بالآلام والحسرات
أية قيمة لذكريات بين الذكريات
حتى تطلب ثمنا تعجز عنه الخيالات
أتظن نفسك في هذه الدنيا الوحيد
الذي يحمل ذكرياته بقلب عميد؟
وتقدم صديقي في رقة المحب وخضوع الذليل وصاح، وحق رب القوة والضعف والكثير والقليل
ذكرياتي ثمينة غاليـة
لأنها نتيجة تجارب قاسية
فيها دموعي وآلامي
وفيها ضحكاتي وابتسامي
فيها أفكاري وأحلامي
وفيها شعوري وأوهامي
ولكنها أيها الثور الحبيب تهد كياني هذا
وتذيب أعصابي وتفـنني قوتـي جـدا
فصاح النور اتبعـني أيها المسكين
فسأدلك على نهر النسيان
ومضى النور وصاحبي يسيران
وحدهما في ليلة حافلة بالأحزان
يسيران وغايتهما نهر النسيان
ووسيلتهما ركوب متن الزمان
آه من الزمان
الزمان

ــــــــــــــــــــــ

المصدر: دعوة الحق ، العدد 15

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى