كليلة و دمنة محمد خير - ابن المقفّع... «كليلة ودمنة» عربيّة!

هل يمكن أن تكون حكايات «كليلة ودمنة» التي تروي الحكمة على ألسنة الحيوانات، عربية لا هندية؟ هل استطاع عبد الله بن المقفع أن يخدعنا على مدار ثلاثة عشر قرناً من الزمان، تماماً كما خدع الحاكم أبا جعفر المنصور، فأقنعه وأقنعنا بأنّه مجرّد مترجِم للقصص الشهيرة، بينما هو (ابن المقفع) مؤلفها في الحقيقة؟
المفاجأة هنا، ليست في هذا الاحتمال بحدّ ذاته، بل في شيوعه وانتشاره ـــ شبه السرّي ـــ بين علماء التراث والفولكلور العرب. فهم وإن لم يقتنعوا جميعاً بتأليف الحكايات على يد ابن المقفع، فإن معظمهم يملك على الأقل أدلّة تنفي نسبة العديد من حكايات «كليلة ودمنة» إلى الأصول الهندية/ الفارسية. وقلّة ـــ مهمّة ـــ منهم تجزم يقيناً بأنّ معظم حكايات الكتاب وأسلوبه وصياغته هي إبداع أدبي خالص لابن المقفع. على رأس هؤلاء يأتي الدكتور محمد رجب النجار، أحد أهم روّاد دراسات الفولكلور العربي الذي رحل قبل حوالى ثلاث سنوات. لكن كتابه الهامّ «كليلة ودمنة... تأليفاً لا ترجمة» انتظر حتى 2008 كي يبصر النور من خلال سلسلة الدراسات الشعبية الصادرة عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة» في القاهرة.
في مقدمة الناشر، يحكي رئيس تحرير السلسلة الروائي خيري شلبي تحت عنوان «رد غربة كليلة ودمنة»: «أودعني الدكتور النجار مخطوطة كتابه قبل رحيله بأيام معدودة، تقع في مئتين وخمسين صفحة من القطع الكبير (...) وقد رأينا أن يصدر في ذكرى رحيله، ولأنه يعتبر بحثاً استثنائياً، فقد وجب الاحتفاء به والدعوة إلى قراءته وتنشيطه على نطاق واسع».
القطع الكبير تحوّل إلى 400 صفحة من القطع المتوسط، والدراسة استثنائية حقاً لكنّها لم تناقش على النطاق الذي ارتجاه شلبي أو النجار، ربما لأنّ الأفكار المستقرة الثابتة تبقى مستقرة ثابتة في العالم العربي، حتى لو عاكستها الحقائق والنتائج البحثية.
ثلاث قضايا استهدف الكتاب/ البحث إثباتها بشأن «كليلة ودمنة». يقول المؤلف: «الأولى تأكيد نسبة الكتاب إلى ابن المقفع، باعتباره مؤلفاً لا مترجماً. الثانية إثبات عروبة الكتاب وأصالته تأليفاً لا ترجمة. الثالثة منح الكتاب صكّ الانتماء إلى الثقافة القومية والأدب العربي، باعتباره نصّاً إبداعياً أصيلاً من إنتاج الثقافة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي».
إنّ علماء الفولكلور والباحثين العرب الذين يؤمنون بصدق القضايا الثلاث المذكورة آنفاً، لم يقدّموا من الأدلّة سوى ما يُسمّى في علم المنهجية «الأدلة السلبية التي تقدّم نصف الحقيقة». يقول المؤلف «أدلّة تنفي فعل الترجمة، لكنّها لا تثبت فعل التأليف». الفعل الأخير هو ما يثبته البحث من خلال الأدلّة التي يقدّمها، متكّئاً على ثلاثة محاور أساسية «المحور التاريخي، المحور الفلكلوري والمحور الأدبي المقارن. والأخير يؤكد خلاله أنّ النسخة العربية لابن المقفع «مفارقة تماماً» للكتاب الهندي («البنجاتنترا» وتعني «أسفار الحكمة الخمسة») الذي قيل إنّ «كليلة ودمنة» مأخوذ عنه من حيث البنية السردية، المورفولوجية والدلالية والوظيفية. ويؤكّد المؤلّف بما لا يدع مجالاً للشك بأنّ الكتاب العربي كان تأليفاً لا ترجمة.
يسوق المؤلف عدداً من الملاحظات بخصوص «معضلة الانتماء والتأليف»، من بينها انتشار بعض حكايات «كليلة ودمنة» في صيغتها الفارسية» خلال العهد النبوي، قبل أكثر من مئة عام على ولادة ابن المقفّع (724م ــ 106 هجرية). ومع ذلك، فإن الورّاق العربي الأشهر ابن النديم لم يستخدم مصطلح «ترجمة» لدى حديثه عن كتاب «كليلة ودمنة»، بل استخدم لفظة «تفسير»: فسّره ابن المقفع ( ... ) ذلك أن ابن النديم وجد نفسه أمام نسخ متعددة للكتاب: هندية وفارسية وعربية، وأنّ النسخ العربية نفسها متباينة في عدد فصول الكتاب، ثم يعود ابن النديم لاستخدام كلمة «يعمل» بمعنى يؤلف ويصنّف. وهي الحال مع كلّ كتب ابن المقفّع الذي قُتل قتلة مرعبة في سنّ الخامسة والثلاثين على يد سفيان بن معاوية.
لكن الكتاب الذي قتل صاحبه في عهد أبي جعفر المنصور، عاد ليزدهر وينتشر في عهد الخليفة المأمون، حتى كان ينفد باستمرار من أسواق الورّاقين، وأعيدت ترجمته إلى الفارسية مراراً. وعندما طلب الوزير يحيى البرمكي من كاتبه عبد الله الأهوازي، ترجمة النصّ الفارسي (كان لم يفقد بعد) إلى العربية مرة أخرى إبان خلافة المهدي، اكتشف مدى خلوّ النص الفارسي من «روح التمرد والثورة التي أضفاها ابن المقفع على حكاياته، «صياغة وفكراً، رأياً ورؤية». من هنا، استغلّ الكتاب في الصراع الثقافي والسياسي بين الفرس والعرب أثناء الدولة العباسية، واهتم الفرس بالكتاب في نسخته العربية حتى نسي الأصل «البهلوي/ الفارسي» تماماً وفقد. ذلك أنّ الرؤية السياسية التي أضفاها ابن المقفع على الحكايات، اتفقت كثيراً والأيديولوجية التي انطلق منها الفرس في الصراع الشعوبي بينهم وبين العرب.
إن «نظرية الاستعارة» التي دعا إليها العالم الألماني تيودور بنفي (1809ــ 1881)، ترى أنّ الهند هي المستودع الأساسي الذي أمدّ الشعوب بمادة الإبداع الأدبي «على لسان الحيوان»، ثم رحلت تلك القصص إلى أوروبا عبر فارس والجزيرة العربية وفلسطين. ومع أنّ بنفي طبّق نظريته في 1859 على «كليلة ودمنة»، مؤكداً أنّ أصول الكتاب هندية وهو ما لم ينكره ابن المقفع نفسه، فإنه يقرّ بأنّ الكتاب العربي «كليلة ودمنة» «قد نجح دون الكتاب الهندي (البنجاتنترا) في الارتقاء بفن القصة على لسان الحيوان من مستوى الأدب الشفاهي إلى مستوى الأدب الرسمي لأول مرة في الآداب القديمة».
عبر منهج علمي صارم وأربعة فصول، يناقش المؤلف ويحلّل علاقة النص العربي بالهندي، ويفرّق بينهما، واضعاً يده على الإضافات والتعديلات والتغييرات التي أضافها ابن المقفع، وتلك الفصول التي ابتكرها وليس لها أثر في النص الهندي إطلاقاً. ويحلّل اللغة السردية في النصّين والحكاية الإطارية التي تجمع بين القصص في النصّين. وقد جاءت على شكل حديث بين ملك وفيلسوف في الكتاب العربي، وعلى شكل حديث موجّه إلى أمراء صغار في النصّ الهندي، ثم اختلاف الرسالة بين الكتابين، والجمهور المخاطَب، ثم يعرض لفصل «الفحص عن أمر دمنة» وهو غير موجود إطلاقاً في أيّ أصل غير عربي.
إلا أنّ أكبر فصول الكتاب، هو ذلك الذي يعرض عدداً كبيراً من الحكايات المقارنة بين النصّين، موضحاً الفروق بينهما، ومدوّناً ملاحظات الباحث المؤلف عن الكتابين.
قد لا يكون كتاب «كليلة ودمنة... تأليفاً لا ترجمة» سهل القراءة، بصفته بحثاً علمياً، لكنّه بلا شك فائق الأهمية، مع أن مؤلفه يدرك «كم هو صعب أن تغيّر رأياً علمياً راسخاً منذ ألف وثلاثمئة سنة في بطون الكتب وأذهان الباحثين وعقول العلماء». ولا شك في أنّ الأمر يزداد صعوبةً في عالم عربي يعشق الجمود.
Capture.PNG

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى