إميلي نصرالله - الأرض المستحيلة.. قصة قصيرة

كنت أقدر أن نادر سيكون هناك, بين أفراد العائلة, يتقبل التعازي بوفاة أخيه الأكبر منه. كنت أعلم علم اليقين أنه سيأتي. لن تمنعه عن الحضور تهديدات سابقة, من شتى الجهات, ولن يمنعه (الحزام الأمني) الجديد, الملتف مثل حبل المشنقة حول عنق (الجنوب), والذي يشكل, بالنسبة إلى جورة السنديان, طوق الاختناق الأخير. استقبلني, مثلما كان يستقبل عشرات الأصدقاء والصديقات, وقد توافدوا في ذلك النهار, كي يقدموا واجب التعزية. (لم يعد يجمعنا بهم سوى الموت), عبارة تركها شاعر حزين في مسمعي. تلفت حولي, أتأملهم: لقد جاءوا, من شتى المجالات والأزمنة, يحملون وجوها كواها الحزن, وترك يها اليأس بصماته. وها هم يلتقون, بعد غياب.

لم يسمح لي الوقت, ولا المناسبة, بالتملي من طلعته. ولكني, باللمحة الخاطفة, تمكنت أن ألاحظ بأنه لايزال يحتفظ بوسامته وأناقته الأرستقراطية. نظرة شاملة, ارتدت إلي سريعا, تؤكد لي أن الصفات المقترنة بشخصية نادر لا تزال على حالها: وقفته الواثقة, انتصاب قامته الربعة, ووسامة وجهه, لقد وهبته الطبيعة نصيباً سخياً من الأوصاف الجذابة, والتي لم يقو على دحرها مرور الزمن وتقلب الأحوال. وحين التقت نظراتنا, حدث ذلك على عجل, وبين النظرة والنظرة, كانت ترتفع أزمنة, وتقف شعوب وقبائل. لكن لمعة البرق كانت هناك, مختبئة, كامنة, لم يطفئها مرور الأيام.

سحبت يدي من يده بسرعة, وأنا اتمتم الكلام الذي يقال في تلك المناسبات, ثم تابعت طريقي, ودلفت إلى قاعة النساء, حيث جلست زوجته, وشقيقته وأرملة أخيه, وكان لقائي بهن حافلاً بالعواطف, والدموع, وبكل ما لم نتوصل إلى قوله في خلال ثلاثين سنة من الشتات.

ثم دخلت تلك الصبية, ابنته فسلمت علي بحرارة, ودعتني كي ارافقها إلى غرفة جانبية, حيث ينام طفلها المولود حديثا.

كانت تريدني أن أراه, وأسرت إلي, بأنها تتابع نشاطي العلمي ويعجبها خروجي على مألوف الحياة في (الجورة...).

قالت إنها قبل الزواج, كانت ستختار طريقي. ابتسمت كي أطمئنها إلى حسن اختيارها, وقلت لها: إن هذا الطفل, يساوي طموح الكون, وإنه لا شيء يعادل, في قيمته, ولادة طفل.

قالت موافقة: معك حق. ثم حملت الطفل, ووضعته بين ذراعي:

ـ كي تتأمليه من قرب. قالت.

لست أدري ما الذي جرى بعد ذلك: فقد كنت جالسة في مقعدي, والطفل بين ذراعي, وجهه يتأملني, ويزوي ما بين عينيه ليحسن التحديق, وفجأة تبدل كل شيء, وشعرت, أن تلك الغرفة الصغيرة تتحول إلى مركبة زمنية, تتحرك.. ترتج قوائمها, مثل ارتجاج أي مركبة تزمع الإقلاع. ثم... ها هي تقلع, وتحلق بعيداً, بعيداً خارج المكان و..الزمان!


* * *

عدت أبصره قادما من آخر (الزاروب) يمتطي حصانه المصنوع من قصب, ويطلق زموره بمرح: توت, توت. كان نادر لايزال طفلا, وكانت تلك لعبته المفضلة: الفروسية, وقد عينوه باكرا, زعيم (عصابة) الصغار, وكان مرجعها في أوقات الضيق, وأسمع صوت أمه, يناديه من فوق شرفة دارهم المتفردة بأناقتها, وفخامة عمارتها: سطحها قرميد, وواجهاتها قناطر مزخرفة, ومعرشة بخمائل الياسمين والورد الجوري:

ـ اطلع عالبيت, يا نادر, كفاك شيطنة, يا ماما.

ـ طالع بعد شوي يا ماما.

كانت تناديه: ماما. ويرد عليها بمثل ندائها. وهي سيدة من خارج الجورة, ولهجتها تختلف عن لهجة سواها من الأمهات.

حين قدمت, لتشغل منصب معلمة في المدرسة الرسمية, لم تكن هناك مثيلة لها بين الصبايا, وسرعان ما شدت إليها الأنظار, وحام حولها شباب (الجورة) مثلما يحوم النحل حول قالب حلوى, لكنها اختارت فراج سامر, هكذا تشهد أم هاني.

وتزوجته, ورزقا البنين, والبنات, وكان نادر, وهو الرقم الثاني في العائلة, في مثل عمرنا, وقد اعتاد الخروج من الدار العامرة فوق التلة, كي يلحق بالشلة, ويسلك سلوكها. وعين أمه دائما تراقبه, ولا ترضى عنه في غالب الأوقات, لكن الولد ولد, ولا يعرف التفريق بين الطبقات.

لماذا تلتصق بالذاكرة, صورته تلك, وهو مقبل من آخر (الزاروب) ممتطيا حصانه القصب, والذي تحول في مطلع الشباب, إلى حصان حقيقي وأصيل, اشتراه له والده, ليجعله أشهر, فرسان المنطقة?

في مرة تالية, اقترب مني, متابعاً تزميره: توت, توت, وحين بات بمحاذاتي, شدني من يدي, وأردفني خلفه, على متن (حصانه) ثم راح يعدو. وبقدر ما كنت فخورة بذلك الاختيار, فقد خالجني شعور آخر مزدوج, اختلط فيه الخوف من تأنيب الوالدين, والخجل من نظرات الرفيقات, وكنت أشعر, في قرارة نفسي, بأني أثرت غيرتهن, وكل واحدة, واقفة هناك, تنتظر أن تكون هي من يختارها (الفارس) الجريء. وراح نادر ينهر (الحصان), ويجري, وقلبي ينتفخ فرحا وفخرا, حتى كاد ينفجر, ولا يتوقف عند حد. في يوم آخر, أطل نادر راجلا. كان يرتدي سروالاً قصيرا وفوقه قميص أبيض مهفهف, مميز عن لباس سائر الرفاق, اقترب مني وهمس في أذني قائلاً:

ـ هربت من البيت. تريدني الماما أن أقص شعري, وأنا أحبه طويلا.

قلت له:

ـ أما أنا, فأحب شعري قصيرا. لا أطيق الضفائر مثل غيري من البنات.

قال:

ـ تخشين أن يشدك بها الصبيان. هذا هو السبب أم...

ـ لم يخطر ذلك في بالي, لكن أنت, ماذا تريد من الشعر الطويل?

ـ أن اكون مختلفا.

قال وهو يشدني من يدي كي نلحق بالرفاق.


* * *

وها هو يطل علي من جديد, ويترك قاعة الاستقبال, أبصرني, والطفل في حضني, وابتسم, أشرقت الابتسامة من عينيه, ثم راحت تنتشر بين ثنايا وجهه. سحبت نظراتي من عينيه, وعدت إلى الطفل وأمه, وكنت من خلالهما, أقرأ بعض مسار حياته, بعض ما جرى في خلال غيابي, والجانب الذي لم يكن لي نصيب المشاركة فيه. واقرأ, في عيني الطفل وأمه ما كتب خلال السنوات الثلاثين الماضية على افتراقنا.

وأبصرته, بعد وقفة قصيرة عند العتبة, أبصرته يتقدم, بخطوات ثابتة, واثقة, ويغرس قامته أمامي: عالياً, صلباً, ممتلئا حبا وإخلاصا. لبثت جالسة في مقعدي, وكان هو في المواجهة, وهذا ما أعطاني فرصة تأمله, بسرعة, وشمول, في الحاضر, والتحولات. وحين ارتفعت نظراتي إلى وجهه من جديد, كانت ابتسامة عذبة, وساخرة قليلا, ترتسم, ثم تنتشر, مثل شعاعات شمس ضئيلة وخجول, فوق خلايا وجهه, كما في أعماق عينيه.

لم يكن المجال يسمح بطرح تلك الأسئلة, المختلجة في الأعماق. وكان صوته هامسا, يلح علي لمعرفة أخباري:

ـ اخبارك الخاصة, والحاضرة, الصحة, النجاح, والسعادة.

كان يلح ليعرف تلك الواجهة الخفية عنه: وهل أنا سعيدة باختياري أن أبقى وحيدة? وهل, بعدما انتزعت نفسي من أحضان (الجورة) نجحت في تحقيق سعادتي الذاتية? وإلى أي حد?

ـ نعم, إلى أي حد?

ابتسمت ابتسامة غامضة, تحمل شتى المعاني, وبوسعه أن يفسرها مثلما يريد. وأتبعتها بالشكر لله.

ـ وراضية? وهل حققت طموحك مثلما كنت تحلمين?, وصرت العالمة الشهيرة?

ـ الآن, يا نادر? وفي هذه اللحظات الحرجة, وابنتك تراقب, وتنصت للحوار, والطفل (يكاغي), وزوجتك تنتظر, والضيوف والمعزون?

ـ الآن, نعم الزمن ينزلق مثل الزئبق, ويهرب من بين أصابعي, والزمن يطير. وأنت, بعد قليل, تعودين إلى الهرب من جديد.

كررت عبارة الشكر, ثم نهضت, فأعدت الطفل إلى أمه, وتوجهت إلى القاعة, هربت.

ولماذا هربت منه, في ذلك الزمان البعيد, حين جاءني, ممتطيا حصانه الحقيقي, وطلب مني أن أرافقه, مثلما كنا نفعل في أيام الطفولة, وحين كان يأتيني من آخر (الزاروب) فوق حصانه القصب, ويطلق زموره باعتداد:

ـ توت.. توت.

شاهدته, في تلك الأمسية, جارتنا أم هاني, العين الساهرة لرصد الأحداث في (جورة السنديان) وشهدت فيما بعد, وهي تروي لوالدتي, بأنه كان يطوف حول البيت, وعينه على النوافذ المغلقة, وكان يمتطي ظهر حصانه الأصيل.

وبعدها, دأب على الحضور, كل مساء, وكان يعلم علم اليقين, أني غادرت (الجورة) محمولة على جناحي طموح لا يعرف حدا.

وجاءني يوماً إلى المعهد الداخلي, حيث كنت أقيم:

ـ سأتبعك إلى أقاصي المعمور.. أحبك. كان منظره مؤثرا, لكنه فشل في الوصول إلي. ولا أفاده التوسل حتى حدود الدمع. كانت غضبة عارمة تلهب حنايا الروح.

قلت له, والشفقة عليه تملأ حنايا نفسي:

ـ ولى زمان, وخطواتي بعدت كثيرا عن دروبك, قم, وعد إلى أمك, لتبحث لك عن فتاة ملائمة, وتليق بالمقام.

وانتفض محتجا:

ـ أنا, لا علاقة لي بأقوال أمي, لا تحمليني وزر كلامها.

قلت بحزم كي أضع حدا للحوار:

ـ لكنها أمك, أتذكر حين كانت تناديك من فوق الشرفة? لا تزال واقفة هناك, وأنت فوق حصان القصب, وتناديك.

ـ أتوسل إليك, باسم حبنا, قالت دموعه, فازددت غضبا:

ـ أحببتك فارساً, انهض ولا تتوسل لأحد, وابق هناك, شامخا, حيث رفعك حبي.

ودعتك عند الباب, ووقفت أتأملك, يا نادر, تخرج, منكس الرأس محني الكتفين, ولم نعد نلتقي. كانت اخبارك تبلغني أحيانا, دون أن أطلبها, تذروها ألسن العابرين, كلما التقيت أبناء (الجورة), ثم علمت أنك تزوجت, وأمك اختارت عروسك, على المقاس: بنت عائلة, وبينرفع بها الرأس.

هكذا بثت الأخبار.

ومن جهة ثانية, كانت تتسرب أخبار معاكسة تحكي عن خلاف بينك وبين الزوجة (بنت العائلة) كاد يدفع بزواجكما إلى الطلاق.

لكن (الجورة) تبقى قادرة على احتواء أحداثها, وهكذا لم تبلغا الحافة الأخيرة للنزاع.

وتجيء الآن, يا نادر وتسأل إن كنت راضية? وإذا ما حققت أحلامي مثلما كنت أشتهي? وابنتك تراقب, وتنصت للحوار. والطفل (يكاغي) وزوجتك في غرفة الاستقبال, بكامل أناقتها وتنتظرك. وأنا?, بعد قليل أعود, إلى حيث بنيت لنفسي صومعة الوحدة والعمل البعيد جدا عن دنياك.

وكانت المركبة في انتظاري, وأنا اغادر العتبة, مركبة مجنحة, بوسعها رفع جبال. حملتني, ويده تودع. وأتأملها لحظة, وهي تضغط يدي, ولا تود أن تنفصل, وكأنما تستجدي فرصة لم تعد متاحة.



إميلي نصرالله
يونيو 2000

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى