عبد الله فراجي - عكازتان

باقتراب المساء، يراودني إحساس بوحدة و حزن غريبين، يرتبطان عادة في ذهني بانصرام النهار، و بداية السدول الأولى للظلام. يسيطر علي هذا الشعور حيث لا أطيق مرحلة الانتقال من وضوح النهار المشع ، الذي ينير الأشياء و الكائنات ، و يمنحها الدفء و الحياة، إلى عتمة الليل المطبقة في صمتها و سكونها، في وحشتها و غرابتها.
لا أحب الرمادي، إما الأسود أو الأبيض..إما ليل أو نهار. إما أن أكون أو لا أكون ، حياة أو موت، سعادة أو شقاء، كمال أو نقص. و ليس كما نظَّر أرسطو الفيلسوف اليوناني للقيمة الوسطية بين قيمتين، فعرّف الشجاعة مثلا بكونها وسطا بين قيمتي التهور و الجبن...و الكرم من حيث هو اعتدال بين البخل والتبذير.. و كل القيم الأخلاقية المثلى هي وسط بين قيمتين متطرفتين، إذ لا إفراط و لا تفريط.
أما أنا فأعتقد أن الحكمة نقيض مباشر للجنون. و نفس الشئ بالنسبة للشجاعة، هي على طرفي نقيض من الجبن. هكذا، إما أن يكون كمال، أو يكون نقص.
ازداد تعبي الذهني و الجسدي، و أنا أقرأ شذرات متفرقة في الأنترنيت من كتاب"أخلاق نيقوماخوس" لأرسطو حول مفهوم القيمة الأخلاقية. فقررت أن أغادر البيت و أترك أفكار أرسطو على أثير الأنترنيت.
توجهت إلى الشاطئ كي أتفسح، و أطرد من ذهني رمادية الأشياء و الكائنات.
بعض المصطافين كانوا يغادرون الشاطئ وأمواج البحر و الرمال بعد يوم من المتعة و الحبور.
جلست على هضبة رملية صغيرة أشاهد آخر الفصول من مسرحية يلعب أدوارها، و يشاهدها كل الحاضرين على الشاطئ. كل الجدران مكسرة بين الجمهور و الممثلين. و الأدوار معروفة في هذه الملهاة التي تبدأ منذ الصباح في بشائره الأولى، و تستمر حتى الغروب في خيوطه الذهبية . و قد يحلو لبعض "الكومبارسات" أن يمددوا المشهد الأخير حتى يرخي الليل أسماله السوداء.
الديكور ..شمسيات و كراسي و منشفات .. و نعال في كل مكان رغم أن الأرجل حافية.. أما اللباس فيختلف حسب الأشخاص، فالتبان قد يلتصق بالجلد ليكشف ما يختفي تحته، و قد ينتفخ بالماء بعد كل غطسة أو ارتماءة في الماء. و من لم يكن في الماء، أخذ يلملم حوائجه و يستعد لمغادرة المنصة.
في وسط هذا الديكور المنتشر في اعتباطية و عشوائية، لاحظت في جانب الهضبة التي جلست فوقها وجود عكازتين مغروسين في الرمال، على شكل حرف V اللاتيني، بعيدا عن جلبة المصطافين و مرحهم.
جلت بنظري يمينا و شمالا عساني ألحظ صاحبهما أو صاحبتهما. و بالطبع أخذت أرقب الأرجل المستلقية و المتحركة هنا و هناك.
كان على يميني شخص طاعن في السن، يستلقي على منشفته، شعره شائب أكل منه البياض ما شاء، و جسمه ضعيف البنية. حدثتني نفسي أن هذا الشخص الوحيد، الممد على ظهره في إغفاءة عابرة ، قد يكون جنديا أصيب بجراح عميقة شوهت جسمه، و كسرت رجليه، فانتهى زاحفا بعكازتين.
جال خيالي في تمثلات و تصورات عديدة لسيناريوهات ممكنة لإعاقته.
قام الشيخ الأشيب من وضعية الاستلقاء ، نفض منشفته ، انتعل حذاءه.. و مر قربي في تؤدة، و حبات الرمل تتعالى بعد كل خطوة كان يخطوها.
تحول نظري نحو زمرة من الشباب المرحين أمامي. فقلت باحثا عن صاحب العكازتين:
و لماذا لا يكون واحدا من هؤلاء الشباب الذين يلعبون الورق، و يتندرون. يتنافسون في اللعبة و يقهقهون عاليا؟
كنت أنظر إليهم و ذاكرتي المتعبة تحن لأيام الشباب و نزقه ، و مغامراته التي لا تنتهي.قد يكون أحدهم تعرض لحادثة سير مميتة، أبقت له رمق الحياة، و عاهة مستديمة ، يجرها معه أينما حل و ارتحل.
نور النهار قل و اضمحل، و اللون الرمادي انتشر بقوة، يجر وراءه اسوداد اللحظات الأولى من ليلة منعشة.
جمع الشباب الورق و كل أشيائهم، و هرجوا و مرجوا بالتعليقات و المفاكهات.. ثم انطلقوا في سباق محموم على رمال الشاطئ المبللة.
لاحظت على يساري، بعض النسوة الجالسات تحت شمسية ما زالت مغروسة في الرمال. كن يتبادلن الحديث و هن متحلقات إلى بعضهن البعض. فقلت مخاطبا نفسي: - لا شك أنها واحدة منهن ، بحكم أن الكثير من النساء يعشقن الجمال، و الكمال، و القوام الممشوق. و قد تتبرم المعاقة بينهن من عكازتيها، فترمي بهما بعيدا عنها.
انتظرت حتى قمن من جلستهن ، و صرن يكملن أطراف الحديث سيرا على أقدامهن .
خلا الشاطئ من المصطافين، و غادر الجميع بعد يوم من اللعب و المرح و الاسترخاء. و لم يبق قريبا من الموج الأبيض في سدول السواد، سوى شاب و شابة، في جلسة خاصة. كان يحيط خصرها بيده اليمنى، و يقبل جيدها. و يهمس باسما في أذنها، فتضحك بصوت مسموع، و يستمر الشاب في معانقتها و ضمها.
لم أتصور منذ الوهلة الأولى أن يكون أحدهما معاقا، يمشي بعكازتين.
و لكن.. لنفرض أنه معاق، فهل كانت ستقبل بالارتباط به.. و مجالسته؟
و لو كان العكس.. فهل هو الآن يستغلها و يستغل ظروف إعاقتها..؟
إذن علي أن أنتظر لأعرف الحقيقة، و لو أن مثل هذه المواقف لا تعجبني، فقد تكون نوعا من التجسس و النظر المريب. و لكن لن نستطيع التخلص من النظر و النظرات، كما يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، لأن حضارتنا هي حضارة النظر و المشاهدة.
قام العشيقان و اتجها إلى الأنوار المضيئة على الشارع العام، و هو يضمها و هي تضمه، و يسرحان معا في عالم من الحنان و العشق الدافق.
انصرف الجميع، و انتشر الظلام بسواده الحالك، و لم يبق في جنح الظلام و رطوبة المساء، سوى هدير الموج المتلاطم في رتابة قاتلة على الشاطئ.
صرت وحدي على ربوتي الرملية .. و العكازتان أمامي ، في مكانهما، و في وضعيتهما السابقة.
قمت من مكاني، أجرجر رجلي.. وضعت العكازين تحت إبطي، و سرت عائدا إلى أرسطو .. و خلفي يرتسم خطان متوازيان.



مكناس 10 / 07 / 2012

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى