عبد المجيد بن جلون - يحيى بن يوسف

وحينما تختفي قوة الإنسان الجثمانية، لا يجد بدا من أن يستعيض عنها بقوة أخرى، وخصوصا إذا كانت تلك القوة الجثمانية قد صرفت طاقتها في أسباب العراك والخصام التي كانت تذهب في كثير من الأحيان إلى حد العناد والتحدي والاعتداء أيضا، أما القوة التي استعاض بها هذا الشيخ الطاعن في السن قوته الماضية، فكانت تتمثل في سخريته اللاذعة التي بات يستخدم فيها لسانه وعينيه ووجهه وحركة كتفه وذراعيه وبدنه جميعا.
قال عم مكوار لنفسه بعد أن تأمل ما آلت إليه أمور الحياة في مرارة ساخرة:
تالله إنها لفاجعة، أحفادي وأبناء أحفادي وربما أبناء أبنائهم يجرون في الشوارع كالأبالسة، لا يرهبون رصاصا ولا مدفعا ولا طائرة، والعم مكوار قابع هنا في بيته كأن لم يرفع يده بالأمس ... ويقتحم عليه الجنود عقر داره ليفتشوا غرفها ويتلفوا أثاثها ويفزعوا سكانها، والعم مكوار لا يأتي حراكا، وإنما يقلب عينيه بين الجنود وأسلحتهم، ويتأمل ما هم فيه من جهد، فإذا علت وجهه بسمة ساخرة نظر إليه الجنود شزرا فعاد العبوس إلى وجهه سريعا، وهو أكثر سخرية من البسمة الزائلة.
إن تلك الزوابع التي كانت تسير أمامه وفي أثره أجيالا بعد أجيال قد تحولت إلى صوت خافت أبح، ونظرات منطفئة، وخطوات متهالكة، وعزم كسيح.
فما بقي في الحياة مما يستطاب؟ شيء واحد.. السخرية.. فلولا السخرية وحدها لانقطعت أسباب الحياة، فقد استعاض عم مكوار بقوتها عن كل سلطان ونفوذ وقوة...
فكيف يعمد الغلمان إلى قوة سواعدهم لمنازلة هؤلاء الغزاة الفاتحين، ولا ينازلهم هو بالقوة الباقية التي يعتز بها؟ ولما لم يسعفه الرد، أخذ يتساءل .. أليست هذه بلاده كما هي بلادهم؟ أليس هو أولى بالدفاع عنها منهم لأنه مدين لها بالحياة كل هذه الأدهار الطويلة؟ ثم أليس من الخجل أن يلزم عقر داره والمعركة دائرة على أشد ما تدور المعارك احتداما وقوة؟
هذه هي الخواطر التي كانت تعتمل في صدر الشيخ وهو يغادر المنزل إلى الشارع بخطواته البطيئة الواهنة، ووقف عند الشارع مدة متوكئا على عصاه الطويلة وهو يخشى أن يسقط من فرط الوهن.
في هذه الأثناء مر به غلام يحمل سلة كبيرة فلم يتمالك الشيخ أن دعاه إليه، حتى إذا ما اقترب منه خاطبه بصوته الخفيض:
إلى أين يا غلام؟ (فقد أصبح يهتم بكل حركات أفراد هذا الجيل الشيطاني الذين اعتاد أن يدعوهم بالأبالسة.
- إلى السجن يا جداه. ولما كان كل عمل يأتيه هؤلاء الأفراد غير مفهوم لأول وهلة، تساءل الشيخ في دهشة:
- تسعى إلى السجن على قدميك حاملا زادك ولا ريب؟
- بل إنه زاد أخي يا جداه، لقد سمحوا لنا اليوم لأول مرة منذ ستة أشهر بان نحمل إليه طعاما، وأنت تعرف أن تناول طعام السجن وحده لمدة ستة أشهر مما يوهن العظم وينخر الشباب.
ففغر الشيخ فاه في سخرية من هذا الغلام الذي يتحدث عما يوهن العظم وينخر الشباب وهو في ميعة الصبا.. فهل تراه يزعم لنفسه أنه بلا ذات الشيخوخة
ولم يتمهل الغلام، وإنما تابع سيره في جذل ليحمل الطعام إلى أخيه السجين، ويراه لأول مرة منذ اعتقل في مسجد المدينة.
ذلك أن السلطة الفرنسية في المدينة المراكشية الصغيرة، قررت أخيرا أن تكون رحيمة وأن تسمح لعائلات المسجونين بزيارتهم بعد هذه المدة الطويلة، ولعل مما دعاها إلى ذلك اطراد فترة التوتر، ورغبتها في عودة المياه إلى مجاريها، بعد أن تم ما رمت إليه من إبعاد السلطان (محمد بن يوسف) من البلاد، فلن يكون غيرها الكاسب من وراء عودة الأشياء إلى طبيعتها، فيسود الهدوء وتطمئن الأنفس، وينسى الرجل الكبير في منفاه.
قال الشيخ مخاطبا نفسه في إصرار وفضول: بماذا يفضلني هذا الولد؟ أنا أيضا سأذهب إلى السجن، فلعل أن يكون من بين نزلائه شيخ في مثل سني لا أخ له سواي...
ولم يكن من اليسير على عم مكوار أن يصل إلى مكان السجن خارج المدينة، بالرغم من أنه كان غير بعيد، ولكن عم مكوار إذا قرر شيئا فلا أحد يستطيع أن يصده عن قراره، فبالرغم من الدبيب الذي طال، والتوقف الذي تعدد، تمكن أخيرا من أن يقترب من السجن. رأى هناك جمهورا غفيرا قد تجمع حول البوابة الحديدية الضخمة ذات القضبان الهائلة، ولما اقترب من الجمهور استطاع أن يتبين ساحة كبيرة من ورائها بوابة ضخمة أخرى، وبين البوابتين ازدحم الحراس والجنود.
اعتمد الرجل على عصاه وأخذ ينتظر مع الوقوف، وقد سخر من معاملة الإنسان معاملة الحيوان، ولكنه تأثر بالرغم من سخريته، إن الحيوان يوضع في القفص لخطورة فتكه، أما هؤلاء المساكين فإنهم يوضعون في الأقفاص لشدة حبهم... إنهم يحبون بلادهم وملكهم، ولكن لا لزوم للتعجل وسنرى.
فتح باب صغير وخرج منه ضابط مدجج بالسلاح وهو يأمر الناس بأن يصطفوا في طابور ويحملوا ما معهم من طعام تمهيدا لتقديمه إلى المسجونين بالدور في الساحة التي تقع أمامهم، فاهتز العم مكوار اهتزازة خفيفة وهو يكتم ضحكة مريرة، وأخذ يسعى إلى مكانه من الطابور، ثم أخذ يتتبع ما يجري بعيون يقظة، فرأى بالرغم من كلال بصره إلى الجانب الآخر من الساحة عند البوابة الأخرى، جمهورا غفيرا آخر فقال لنفسه: إن وضعيتنا واحدة، فمن المعتقلون ياترى نحن أم هم؟.
وواصل تتبعه للحوادث.
كان الرجل من الزوار عندما يأتي دوره، يتقدم إلى الحارس الشرس، ويهمس إليه باسم الشخص السجين الذي يريد زيارته ليقدم إليه الطعام، فيردده هذا بصوت عال، ثم يردده بعده حارس آخر في منتصف الساحة، ثم من بعده حارس ثالث عند البوابة الأخرى، وهنا يخرج الشخص المطلوب إلى وسط الساحة، فيتقدم إليه زائره ثم يحييه ويقدم إليه ما حمله من طعام، ثم بعد ذلك يعود كل واحد منهما إلى معتقله...
وكان الحراس الثلاثة يرفعون أصواتهم بالاسم عاليا في عنف وقوة حتى يذكروا الجانبين ببأسهم وطغيانهم، وهنا خطرت لعم مكوار فكرة ارتج لها صدره بضحك مكتوم، حتى أن الناس التفتوا إليه في استغراب، فما عرفوا أن في مثل هذا المكان ما يدعو إلى الضحك، ولكن معظمهم عرفه فزال عنه الاستغراب، ودلف الشيخ في الطابور، وهو يكظم ضحكه في جذل بالغ، وكان جذله يزداد كلما ازدادت الأصوات المنادية بالأسماء ارتفاعا، وكان اطمئنانه يتضاعف كلما اقترب دوره.
عرف أنه مقدم على عمل خطير، ولكن طرافته والأثر الذي سوف يتركه، ودقة إحكام خطته هونت من كل خطوة وماذا عساهم فاعلون؟ إنهم لن يستطيعوا بقضهم وقضيضهم أن يحرموه من أكثر من أسابيع أو شهور، هي كل ما بقيت له في الحياة على وجه اليقين.
وتمكن في آخر الأمر من أن يسيطر على الضحك ويصطنع الجد والتأثر، ويبالغ في إظهار الضعف والوهن والانهيار، ولكنه لم يتمكن من ذلك إلا قبل أن يأتيه دوره مباشرة.
تقدم إلى الحارس مطأطئ الرأس، ذابل العينين واهن الأطراف، وهو يتوكأ على عصاه في جهد، ثم رفع رأسه إليه وأخذ يضيق ما بين عينيه الجرداوين ناظرا إلى وجه الحارس؛ كأنه يتأمله دون أن ينبس، فساد الناس الوجوم وأخذوا يترقبون تصرفات الشيخ.
قال الحارس: ما اسم السجين الذي تطلبه؟
فقال الشيخ بصوت شديد البطء وهو يفتعل ضعف الذاكرة.
اسم الشخص الذي أطلبه نعم، ما اسمه؟
- أسرع أيها الشيخ فإن الوقت يضيق.
وهنا امتعض الشيخ كأنه يستهجن نسيانه، ثم أشرق وجهه بغتة كأنه تذكره وأردف... تذكرت يا ولدي ..اسمه... يحيى ابن يوسف.
- لم أسمعك، ما اسمه؟
- يحيى ابن يوسف... يحي ابن يوسف... يا ولدي.
فرفع الحارس الأول صوته بأعلى ما يستطيع، كما لو كان ينتقم بذلك من ضعف صوت الشيخ: يحي ابن يوسف.
وردد الثاني: يحيى ابن يوسف.
وردد الثالث: يحيى ابن يوسف.
وهنا شده حراس السجن، إذ لم يخرج من الصفوف السيد يحيى ابن يوسف هذا، وإنما خرج منها شيء آخر أشبه بالرعد، وهو صوت المساجين وهم يرددون على أثر صوت الحارس الثالث، يحي ابن يوسف.
فردد الزوار برعد مماثل (يحيى ابن يوسف).
وتعالت الأصوات من كل مكان (يحي ابن يوسف) فبهت الحراس دون أن يعرفوا ما يجب عليهم أن يفعلوه
أما الشيخ، فقد استغل الفوضى التي سادت الجموع على إثر تردد هذا النداء العظيم، فتسلل وهو يعتمد على عصاه الطويلة، ودب دبيبا إلى المدينة، وكان يتوقف من آن لآخر ليرسل نفسه على سجيتها، فينفجر بضحك لم يتمتع بمثله صدره منذ زمن بعيد.




* دعوة الحق - ع4/5

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى