إبراهيم محمود - هذه اللغة... هذه القلعة المرهوبة الجانب

يفتتَح بول فاين كتابه " هل اعتقد الإغريق بأساطيرهم: بحث في الخيال المكوّن " بإشارة في غاية الطرافة، إنما مع عمق الدلالة ورحابة المتخيل، وهي تخص إيمان الدورْزيين Dorzé لا يقل قوة وصدقاً عن اعتقادهم بوجود بابانويل، ففي نظرهم أن ( الفهد حيوان مسيحي، يتقيَّد بأصوام الكنيسة القبطيَّة، وهي وصية من الإلزام، في إثيوبيا، بحيث تُعتبَر رائز الديانة الأساس. على أن المؤمن الدورْزي لا يقلّ حرصاً على حماية ماشيته يومَي الأربعاء والجمعة، المكرَّسين للصوم، عنه في سائر أيام الأسبوع، ما يشير إلى اعتقاد مزدوج لديه بأن الفهود تصوم، وفي الوقت ذاته، تأكل كلَّ يوم. أما أن تكون الفهود خطرة كل الأيام فهذا ما يعرفه بالاختيار، وأما أن تكون مسيحية فذلك ما يضْمنُه له التقليد . ص11 ).
هذا التقابل يتطلب مزيداً من ضبط النفس، وإعمال العقل، إلى جانب المتخيَّل التاريخي، وكيف يكون التناغم/ الانسجام بين طريقتين في التعامل مع الواقع، أو الكائن الحي نفسه، وما في ذلك، من درجات أخرى لهذا المتخيل ونظيره واقعاً.
تُرى، هل عاش العرب على مر تاريخهم " المحض "، أي حين كان يعرَّف بهم عرباً، قبل الإسلام، وفي الإسلام الباكر، وحتى نهاية العصر الأموي، وتاريخهم المتداخل مع تواريخ الآخرين رغم وحدة اللغة لأسباب وفَّرتها القوة ذات الصلة بكل ما كتبناه سابقاً، مع ظهور العصر العباسي، والعصور التالية عليه، وتاريخهم الذي أفلِت زمامه كثيراً من أيديهم، بأكثر من معنى في العصر الحديث، لتصبح اللغة ذاتها: اللغة العربية التي خرجت سيدة لغاتها المحلية والإقليمية، ومن ثم جملة اللغات في امبراطورية نطقت باسمها مشرقاً ومغرباً، منكفئة على نفسها، كما هو انكفاؤها وانزواؤها الآن أكثر؟
ورغم ذلك، رغم ذلك، ثمة الغالبية الكبرى منهم، تردّد على أن الذي كان هو نفسه، رغم النزيف الهائل في جسد اللغة هذه، ورغم البون الشاسع الواسع بين كون اللغة صيرورة حيوات وكونها في وضعية احتضار ؟
أعني ما يبقي بلاغة الشعر وفي سيماء " الجاهلية " بالمعنى التاريخي، معممة بمنطقها على جل الكتابات، ومدى استثمار السلطة لها. ومفارقة العلاقة: التغنّي بما كان، وعدم الخروج من شرنقة الواقع، جهة اللغة التي يحتفى بها مدينياً، بينما المسلك المديني الحيوي، التاريخي الفعلي، يتطلب التحرر من منطلق اللغة تلك، أي إنتاج آلية تصريف لغوية، ليس من خلال اللغة بالذات، وإنما من خلال الواقع الذي يضيق " بهم " ذرعاً، ليكونوا أكثر قابلية للتكيف معه وبناء له، حيث يكونون هم أنفسهم شركاء في السلطة، فاعلين في بنيتها، ليصادقوا لغة حياة وعمران حياة.
تُرى، أهو سفور الاعتقاد، كما هو وضع الدورْزيين بأن اللغة: اللغة العربية مهيوبة الجانب، جامعة بين الأرض والسماء، وينتشون بسماع كلماتها، بوصفها لغة الوحي، لغة القرآن ، وهم على بيّنة أن الواقع يشهِر مأتمها المستدام ؟!
ماالذي يبقيهم طوع اعتقاد كان له تاريخه في الزمان والمكان، ولم يعد هذا التاريخ المتحوَّل بالزمان والمكان؟ أهو الاستغراق " الجذْبي " في حمّى الاعتقاد المتجدد، تعبيراً عن حياة مفقودة لا تعوَّض، وما في ذلك من انجراح تملَّك الجسد من الداخل، أنساه صحوة التاريخ، جسدهم الجمعي، وهو متقلب على بوابة كهف التاريخ المعتم بجلاء ؟
لقد أعدِم في العرب إجمالاً ذلك المضاء في جذوة المتخيل الفعلي، ذاك الذي يضيء الجسد من الداخل، حيث الماضي مسجَّل بأسماء من بنوه وسمّوه وعهدوه إليهم، وليس لهم شأن أو صلة به، لهذا لا بد من مقارعة هذا الاعتقاد، ليكونوا أهلاً بالتاريخ !
هل يكون في مقدور العرب أن يتبصروا حقيقة ما هم عليه من خلال اللغة ذاتها: اللغة التي تنفسوا من خلالها، برغم خلافاتها ونزاعاتهم التي لم تتوقف، اللغة التي يمكنهم أن يتنفسوا بها، إنما بمعايير مغايرة كلياً لتلك التي اعتمدوها سابقاً.
ذلك هو المحك الكبير والمفصلي لهم، لكي يختاروا بين أن يكونوا تابعين للاعتقاد بأحادية مسلكه ورصيده الجانبي، وما ينتظرهم من مزيد من التشظي، أو أن يحصروا اعتقادهم ذا الصلة بما هو عصبوي، ديني، في نطاقه التأريخي، مأخوذين بمتغيرات الواقع، وإن اشتملت على الكثير من التحديات وتطلبت الكثير من التضحيات، لكنها الضريبة الطبيعية للعبور إلى القرن الحادي والعشرين .
ذلك يتم، حين تنطق لغتهم باسمه، بأوجاعهم، بانفتاحهم على الآخرين، وهم ممتلئون حباً بالتنوع، وبالحرية، وليس بمن يمارس المزيد من التنويم المغناطيسي عليهم، وهم في عشرات ملايينهم المؤلفة، باعتقاد يبقيهم طوع حاكميته ليس إلا !
إنما كيف يمكن لكل ذلك أن يحصل؟ كيف لهذه الطفرة المعاكسة أن تتم؟ أين هذه العربية " اللغة " التي في مقدورها أن تحمل على ظهرها " السفينة " كل هذا التضعضع الروحي، العقلي، الإيماني، والنفسي العربي إلى برّ أمان ما ؟
أي وضع يعيشه العالم العربي، ومن خلال اللغة العربية التي يُحتفى بها ؟
أسمّي هنا ما يجري عبر اللغة بالصوت والصورة " في نصوص مكتوبة: مطبوعة ومقروءة، ومنشورة في منابر مختلفة، ومتلفزة "، وأمضي باللغة إلى ما وراء الممثّل باسمها، حيث الممثَّل فيها، من هدر المعنى: تقليصَ مهام، وتعتيم أثر!
مستل من خاتمة كتاب لي معنون بـ: العرب لا يحبّون البصل" دراسة في متخيّلات اللغة العربية " قيد الصدور.




إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى