ثائر العذاري - بين المتوالية القصصية وسلسلة تودوروف السردية

متوالية قصصيةنشرت (المدى) في عددها الصادر يوم 22/7/2018 مقالا بعنوان (روبرت شولز والمتوالية السردية) للناقدة د.نادية هناوي، وهو واحد من مجموعة مقالات نشرتها في الآونة الأخيرة كانت تؤكد فيها على خطأ من يعد المتوالية القصصية جنسا أدبيا ووهمه، وكانت في كل المقالات متحاملة بطريقة غريبة حتى وصلت في أحد مقالاتها إلى عد أولئك الدارسين (وأنا منهم) مجرمين وأنهم يرتكبون جناية، وكنت أستغرب هذا التحامل حتى وقعت على هذا المقال مصادفة لاكتشف السبب، فالمشكلة كلها هي الترجمة وفوضى المصطلحات، فالدكتورة هناوي تتحدث عن شيء سمته المتوالية السردية أحيانا والمتوالية القصصية أحيانا أخرى والاثنين معا في هذا المقال وغيره، بينما كتبت أنا عدة مرات عن شيء آخر هو المتوالية القصصية مختلف تماما عما تعنيه الناقدة، وأحاول هنا بيان هذا اللبس.

في البداية أود أن أعبر عن كل الاحترام والتقدير للدكتورة هناوي التي أحترم عقليتها وإخلاصها لكتابتها، وما سأقوله هنا ليس سوى خلاف علمي، أثق أنها ستتقبله مني.

كشف هذا المقال أن الناقدة تخلط بين مفهومين لا يربط بينهما رابط سوى مشكلة الترجمة الأول الذي تتحدث عنه هي هو تقنية سردية ولا يمكن أن يقول أحد أنه جنس أدبي ومعها الحق في كل ما قالته، والثاني هو شيء آخر، هو جنس أدبي مستقل والواضح أن الدكتورة انشغلت بالفهم الأول ولم تقرأ شيئا عن الثاني ولم يقع في يدها متوالية قصصية لتقرأها وتعرف عن أي شيء نتحدث ولماذا نختلف.

اعتمدت د.هناوي في مقالها على ترجمة الأستاذ سعيد الغانمي لكتاب (السيمياء والتأويل) لروبرت شولز (من غير أن تشير له) ونقلت نصوصا منه، والأستاذ الغانمي مترجم فذ يختلف عن غيره بكونه متخصص بالأدب، لكن مشكلة المصطلح المترجم تعترض حتى المتخصصين مهما توخوا الدقة لانعدام الاتفاق على صيغ موحدة للمصطلحات.

بنت الناقدة مقالها على فصل في كتاب شولز يحلل فيه قصة (إيفلين) لجيمس جويس مستفيدا من منهج سيميائي يجمع بين تودوروف وجينيت وبارت، وما يعنينا هنا هو منهج تودوروف في الديكاميرون الذي ينطلق من مقاربة العمل السردي نحويا، وهو ما وضحته باختصار جميل د.نادية هناوي في مقالها واقتبست من ترجمة الغانمي العبارات التي رأت أنها مهمة، وقد جاء في كتاب شولز المترجم ص 151 هذه العبارة:

"لكن ما القصة؟ يساعدنا تودوروف على الدقة في الإجابة عن هذا السؤال. القصة هي نوع من توالي القضايا. والقضايا القصصية على نوعين: الصفات والأفعال. وأهم متوالية قصصية هي الصفة...."

ويبدو أن هذه العبارة هي التي سببت المشكلة، وهي مشكلة ترجمة، ولو عدنا إلى النسخة الأصلية سنجد عبارة شولز هكذا في ص89 كما تبين الصورة المرفقة:

But what is a story?Todorou will help us be precise in answering

that question, A story is a certain kind of sequence of propositions

Fictional propositions are of two kinds: attributions and actions.

The most fundamental fictional sequence is attribution,

ووقع الإشكال في العبارة الأخيرة التي قصدنا كتابتها بخط غامق، فتودوروف الذي ينقل عنه شولز لم يكن يتحدث عن متوالية قصصية ولا متوالية سردية، بل يتحدث عن اللغة في قصة أو رواية أو حكاية واحدة، ليقول أن القصة نتاج توالي الصفات والأفعال، والتعبير fictional sequence هو الذي فيه إشكال الترجمة فالأستاذ الغانمي ترجمه متوالية قصصية، وأنا أتصور مكابدته وهو يترجم هذه الجملة، ولو أنه ترجمها السلسلة السردية لكنا تجنبنا الوقوع في هذا الفخ، ففي الإنكليزية كلمتان يترجمهما المترجمون (سردي أو قصصي) وهما (fictional, narrative)، لكنهما مصطلحان مختلفان تماما، فكلمة fictional تصف العمل السردي وقد أصبح جاهزا للتلقي، بينما تصف كلمة narrative عملية السرد داخل العمل، وكلاهما لا علاقة له بالمتوالية ولا بالقصة، وإنما كان الحديث عن توالي الصفات والأفعال.

بعد هذا الحديث تهاجم الناقدة أكاديميين يحملون طلابهم على الكتابة عن جنس أدبي اسمه المتوالية القصصية وتتهمهم بالوهم والجهل، وأنا أوافق على ما ذهبت إليه لو كان المقصود ما فهمته هي، لكن المشكلة أنها تتحدث عن شيء آخر غير الذي نعنيه وهو جنس أدبي دون شك.

تسمى المتوالية القصصية بالانكليزية أسماء عدة أشهرها ثلاثة، ففي أمريكا يسمونها حلقة القصة القصيرة Short story cycle بينما يسمونها في بريطانيا الكتاب القصصي Story book أو المتوالية القصصية Short story sequence، وسأسمح لنفسي أن أسأل سؤالا شبيها بسؤال شولز، فما هي المتوالية القصصية؟ وسيجيبنا على هذا السؤال فورست إنجرام وهو أول من ألف كتابا خاصا بالمتوالية القصصية حيث نشر كتابه (حلقة القصة القصيرة في القرن العشرين – دراسة في الجنس الأدبي) عام 1971، حيث عرفها في ص19 من كتابه بأنها:

"كتاب يضم مجموعة من القصص التي قصد المؤلف أن تكون مترابطة بمستويات متعددة ما يدفع القارئ إلى تعديل تجربته القرائية عند إتمام الكتاب."

فعلى الضد مما هو معتاد عند كتاب القصة من نشر كل قصة يكتبونها منفردة في صحيفة أو مجلة ثم يجمعونها في كتاب يطلقون عليه تسمية مجموعة قصصية، تكون المتوالية القصصية مشروعا واحدا، فيقرر القاص أن يكتب سلسلة من القصص المستقلة عن بعضها، بحيث يمكن قراءة أي قصة منفردة، لكنها تشترك بشيء واحد يربطها، فمثلا يمكن أن يكون بطل القصص جميعا واحد، أو أن القصص كلها تحدث في مكان واحد محدد، أو أن كل القصص تنتهي نهاية متشابهة، أو تتحدث عن ثيمة واحدة، وهكذا سيكون الانطباع النهائي بعد قراءة الكتاب بأكمله مختلفا عن الانطباع المتولد من كل قصة منفردة. فمتوالية القاص الكويتي طالب الرفاعي (الكرسي) مثلا فيها موضوع كل قصة كرسي مختلف، كرسي الحلاق، كرسي رئيس مجلس الإدارة، كرسي التعذيب، ...... .

ويقدم القاص المصري منير عتيبة نمطا مبدعا من المتوالية القصصية المبنية على المكان كتابه (حاوي عروس) فكل القصص تحدث في منطقة (خورشيد) وهي من أطراف الإسكندرية المهملة إلى حد كبير، كل قصة تقدم شخصية من خورشيد وبيتا من بيوتها، وحين نكمل المتوالية نكون قد رسمنا خارطة لهذه المنطقة.

بقي أن أقول أن لا أحد في الكتابات الإنكليزية يناقش فيما إذا كانت المتوالية جنسا أدبيا أم لا، وكل من يكتب عنها يصفها بأنها جنس أدبي كأن القضية مفروغ منها، إلى أن أصدرت جنيفر سميث كتابها (حلقة القصة القصيرة الأمريكية) أوائل العام 2018 مخصصا لبيان سمات هذا الجنس الأدبي وإطاره النظري. والطريف أن إحدى طالباتي أنجزت رسالتها للماجستير بعنوان (المتوالية القصصية جنسا أدبيا) قبل صدور كتاب جنيفر سميث بعامين.


د. ثائر العذاري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى