محمود الورداني - أمام البحر.. قصة قصيرة

ثمة نسمات باردة أحس بها وهو يصعد درجات السلم المكسو بسجاد نبيذي داكن، بينما تناهت إلى سمعه ضحكات العاملات في الدور السفلي، بعد أن تناول الشاي معهن وترك نفسه لدوار السيجارة الأولى، وأمكن له الآن أن ينصت لأصوات عمال النظافة الذين انطلقوا يفتحون النوافذ.

وتهيأ لضجيج الصباح الباكر، والدمدمات الخفيفة التي تتصاعد بين الحين والآخر، وهو ينصرف ناحية نافذة العرض الواسعة التي انسدل على زجاجها من الداخل ستائر ألوانها فاتحة. كان ضوء الصباح يملأ الدنيا قدامه، وكان ينهج بعد أن انتهى من السلم، شأنه كل صباح.

فتح فرجة ضيقة بين الستائر، وتراجع قليلا إلى الخلف، رآهم عرايا وقد تكوموا أمامه على الأرض، الرجل والمرأة والطفل والطفلة، كان قد خلع عنهم ملابس الشتاء في المساء الماضي، وأعد لهم ملابس الصيف. أمامه عمل طويل في مختلف نوافذ العرض: في الدور الأول والثاني، وتجاه الشمال والجنوب، عبر ثماني نوافذ، لكنه اختار أن يبدأ من العائلة.

كان قلبه يدق بسرعة، وشعر بألم غائر مثل أثر تمزق في مكان ما من صدره. التفت إلى العرايا وقال لهم إنه ضاق بصمته وعودته وحيدا واستيقاظه وحيدا كذلك، حتى إنه بات يكره الصالة حين يجلس فيها وحيدا يشاهد التلفزيون. كما كره الحجرة الوحيدة التي يلقي على فراشها بدنه آخر الليل.

تقدم نحو الرجل وعدل جسمه البارد، ثم التقط ال "تي شيرت" البنفسجي الفاتح وأدخله من الرأس، وتركه ينسدل ليغطي نصفه العلوي. وحتى يغطي نصفه السفلي، اضطر لحمله على كتفيه واقعي بجواره ليدخل ساقيه على التوالي في الشورت الأبيض المحلى بشريطين أزرقين على كل جانب.

كانت قدمه اليمنى تسبق قدمه اليسرى بسنتيمترات قليلة، حيث كان يزهو حتى الليلة الماضية بسرواله الصوفي الرمادي الذي كان ملائما لتلك الوقفة المتهيئة بشيء ما، وكانت يداه الاثنتان متباعدتين وهو يضحك بشاربه الخفيف.

وقف عند شعره الملون بالأحمر الغامق والمفروق على الجبهة العريضة التي جعلت وجهه معتدا بوسامته، وألقى على رأسه غطاء أبيض له مقدمة زرقاء. ولما رآه يحدق فيه بثبات، ألقمه نظارة شمسية سوداء سرعان ما أخفت وجهه.

كان العرق يتفصد من جبينه الآن، وفكر في أن يريح جسمه ويجلس قليلا ليشعل سيجارة، لكنه أدرك أن أمامه عملا طويلا، والمدير لا يكاد يستقر في مكتبه هذه الأيام. قام متثاقلا، ورفع المرآة، ورأى ساعديها اللامعين مرفوعين إلى أعلى أكثر من الرجل، ويبدو كفاها ملتويين بأصابعهما الرهيفة. ربت عليها قبل أن يلتقط الفستان البرتقالي بلا أكمام. كان من طراز هذه الأيام المفتوح الصدر، فاكتفى بكشكشة صنعها بدبابيس متجاورة تبدأ من كتفها اليسرى وتمتد إلى كتفها اليمنى..

الدبابيس كانت في فمه، وجعل يخرج الواحد تلو الآخر، وقد انحنى على المرأة بينما شعرها الأسود نامت إحدى خصلاته على جبينها فمنحتها دلالا آسرا.

عاد إلى الداخل يلهث، وانحنى على كومة الملابس والأدوات داخل الكاونتر، كان الضوء شحيحا هنا، فاضطر لاهثا، وقد اشتد الألم في صدره، للانحناء والعبث بأصابعه حتى وجدهما معا في مكانهما: النظارة وغطاء الرأس المستدير. عاد إليها، لكنه جعل غطاء رأسها البرتقالي ينزلق إلى أسفل، بينما رفع النظارة الشمسية الغامقة عن عينيها لتستقر في مقدمة شعرها تحت غطاء الرأس.

لا عمل كثير الآن، فقد تمدد الولد والبنت على الأرض، فجلس بجوارهما، أشعل سيجارة وقال لنفسه: ماذا لو جلست مع العائلة الآن وحتى نهاية اليوم. يمكنني أن أبدو شقيقا للرجل مثلا. نعم شقيقه الأكبر، فشعري أغلبه أبيض، وسأرتدي شورت وتي شيرت مثله، ونظارة سوداء أحدق برها إلى البحر، ثم أريح جسمي على هذا المقعد ملتفتا إليهما بين الحين والآخر.

قال لشقيقه: أنت اسمك فتحي، وأنا أداعب امرأتك درية طالبا منها أن تبحث لي عن عروس حتى تستريح مني. وابنك الأكبر طارق، ها أنا أحمله على كتفي وأدخل ساقيه في الشورت الأسود. ثم البنت شيماء أيضا ها أنا أساعدها لترتدي ثوب استحمامها الأزرق الداكن.

سحب مقعدا وقد بلله تماما، واستدار وظهره للستارة، وفكر في أنه لم يبق سوى الشمسية الملونة الزاهية يرفعها في الخلفية. خلع حذاءه مسرعا وسرواله أيضا، ثم ارتدى شورت ملونا بالأخضر والبرتقالي، وأحس بالألم يشتد في صدره، فألقى بجسمه سريعا على المقعد، ورفع عينيه يحدق نحو البحر.


محمود الورداني
مايو 1993

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى