عادل أبوشنب - القيد.. قصة قصيرة

جمعت أمل ثيابها في حقيبة صغيرة. كانت صامتة تخفي فرح عينيها بأهدابها السوداء الطويلة المسدلة، وكانت أمها تنظر إليها من مكانها على الكنبة، في غضب شديد، لكن إحداهما لم تعد تخاطب الأخرى بأية كلمة.

قبل ساعة أنهت أمل محادثة هاتفية طويلة مع الحبيب. كانت، كعادتها كل يوم، تتلقى عدة مكالمات منه، وكانت الأم تكتفي، بعد كل مكالمة، بنظرة مؤنبة. هذه المرة لم تجلس أمل لتحلم. بل راحت تجمع ثيابها في الحقيبة. وبدا الفزع في عيني الأم، وحاولت أن تثني ابنتها عن عزمها على الرحيل مع الحبيب:

- تعقلي يا أمل..

قالت أمل: اتفقنا يا أمي وانتهى الأمر..

وقالت الأم:

- وأنا؟

قالت أمل:

أنت في بيتك. أريد أن يكون لي، أنا، بيت.

ونظرت إلى أمها فرأت وجها مكفهرا وعينين حزينتين دامعتين، فعانقتها وقالت:

لن أنساك..

قالت الأم وهي تجهش:

- ليس لي سواك يا أمل..

وقالت أمل:

وأنا أيضا، لكننا اتفقنا. سأسافر معه.

وبعد صمت قصير أضافت:

لا يرضيك على أية حال أن أبقى عزباء إلى الأبد.

قالت الأم في حزم، كأنها لم تكترث:

- لن تسافري.

وردت أمل دون أن تعرف من أين جاءتها هذه الشجاعة:

بل سأسافر. يحبني وأحبه، وسأمضي معه إلى أي مكان يذهب إليه.

قالت الأم:

- وأنا، أمك، ألا تحبينني؟

ونطت أمل إلى أمها ثانية وقبلتها، وقالت:

بلى .. أحبك، أحبك، لكن أرجوك يا أمي. لا تكوني عقبة في طريق سعادتي.

قالت الأم:

- لن أكون عقبة، لكن لا تكوني أنت بعيدة.

وقالت أمل:

حاولت، حاولت ألا أسافر، لكن أحمد أصر. وجد عملا هناك، ويريد أن أكون إلى جانبه في غربته. رفضت أول الأمر فقال إن لم أذهب، فلن يتزوجني، وسيقطع صلته بي.

وأضافت كأنها كانت تكلم نفسها:

مل أحمد من الانتظار.

قالت الأم:

- هذا ليس حبا..

قالت أمل:

ما اسمه إذن يا أمي؟

قالت الأم:

- تسلط.

ولم تجب أمل. شعرت بغصة. كانت أمها قد حسمت الحوار بكلمتها، فحسمته هي من جانبها. كانت قد قررت السفر مع أحمد.

كانت أمل تنتظر قدوم الحبيب في هذه الظهيرة القائظة، وكانت الأم تعرف أن خروج أمل من باب البيت، اليوم، مع أحمد، يعني خروج كل منهما من حياة الأخرى. كانت تحب ابنتها حبا لا يستطيع أحد أن يحدد مداه، ومن أجلها امتنعت عن الزواج، يوم مات الأب. صارت أمل حياتها، وإليها انصرفت بكل ما فيها من عاطفة جياشة. أعرضت عن كل شيء، وكانت لها الأم والأب والأخ والصديق. كانت أمل نبتة غضة غرستها بيديها في هذا البيت، وشقت أيامها ولياليها معها بدموعها، ولم تظن قط أن يوما كهذا سيأتي، لكنه أتى أخيرا.

كانت الأم تحوك كنزة صوفية لأمل، كعادتها كل سنة لكنها سرعان ما نبذت الشغل جانبا وقامت إلى غرفة الزوج التي أغلقتها قبل أحد عشر عاما.. يوم مات. كانت الأم تحتاج إلى من يقف إلى جانبها، وها هي تستنجد بالذكريات، وكانت الغرفة مملوءة بأشياء الأب الأثيرة، ثيابه وصوره وخناجره وبنادقه وسبحاته وكتبه وسروج الخيول التي ركبها ولجاماتها وحدواتها التي تجلب الحظ، وكان مما احتفظ به بعد أن باع خيوله، قيد حديدي أسود، ذو مفتاح وقفلين، لشد ما استعمله مع خيول جامحة، كانت زوجه، يومئذ، تراه في المزرعة، وهو يقيد ساقي الحصان ليحد من جموحه وحركته، وكانت تعارضه، لكنه كان يبتسم ولا يتكلم.

وحملت الأم القيد وتأملته مليا، ثم وقفت أمام صورة كبيرة للزوج المتوفى، كان في الصورة يبتسم لفرس دهماء مزمجرة مقيدة الساقين بالقيد الحديدي نفسه.

وخرجت من الغرفة بدموع تنهال على خديها. لم تكن تنشج، لكنها كانت متأثرة، حزينة، ملتاعة، ونظرت إلى أمل فوجدتها مضطجعة على الكنبة، مغمضة العينين. كانت لاتزال تنتظر قدوم أحمد، وكانت حقيبة السفر الصغيرة السوداء تنتظر هي الأخرى.

ونزعت الأم المفتاح من القيد وألقته في المرحاض وسفحت وراءه كثيرا من الماء وعادت إلى حيث أمل كانت نائمة، كانت أمل جميلة بأهدابها الطويلة المتشابكة، وبخديها اللذين لهما لون الشموع وبجبينها الندي بعرق الحر، وبشعرها الأسود المنساب، وبالقرطين الذهبيين اللذين يزينان أذنيها. لشد ما كنت الأم تحب ابنتها الوحيدة، ولشد ما كان يشق عليها أن تفارقها. لقد أشقاها أن تتخذ أمل هذا القرار بمثل هذه البساطة والرعونة.

بسرعة عجيبة أدخلت الأم رجلها في إحدى حلقتي القيد، تماما كما كان الأب يفعل في خيله، وأدخلت رجل ابنتها النائمة في الحلقة الأخرى، وضغطت رتاجيهما فأغلقتهما على الرجلين، وتركت ابتسامة حزينة تقف على شفتيها.

عندما أفاقت أمل بسبب القبلة التي طبعتها الأم على جبينها اكتشفت كل ما حدث، وكانت حقيبة السفر السوداء الصغيرة لاتزال تنتظر.



عادل أبوشنب
مايو 1993

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى