محمد عطية مرتضي - لحظات لا تتكرر كثيرا.. قصة قصيرة

في طريقه لكتابة قصة..ذلك ما يتأكد منه ..شيْ ما يعتمل بداخله يخرجه من واقعه الضيق بتفاصيله السخيفة التي يتوه

فيها إلى عالم رحب وأفق لا حد له ..شئ ما يريد أن يعلن عن وجوده ..أن يري النور .. نفس الإحساس الذي يراوده

كلما هم بالكتابة .. لكم انتظر هذا الإحساس ولم يأتِ ..عام كامل لم يكتب فيه شئ .. لا يدري لمَ ؟ هل أحبطه توقف المجلة التي تقدم بقصصه إلى مسابقتها قبل أن تعلن النتيجة ؟هل شغلته علاقته مع مرضاه التي يمارسها كطبيب

امتياز لأول مرة ؟.. لا يدري ..الشيء الوحيد الذي يعرفه أنه علي وشك أن يكتب وأنه سيكتب عن تلك المجنونة التي

أحبته فوضعته في موقف عسير..صورتها متلازمة مع ذلك الشعور العجيب الذي يراوده .. مشكلته أنه الآن في فترة

عمل ..حقاً اليوم هو الأحد ولا يستقبل فيه المستشفي الجامعي حالات جديدة لكن هناك حالتين بقيتا من أمس في انتظار الولادة وقد تركهما النواب له هو وزميله بعد أن وثقوا بهما بما فيه الكفاية وصعدوا جميعاً ليستريحوا من عناء يوم كامل بدون راحة .. شغوف هو بحالات الولادة لكن المهم لديه الآن أن يخرج ما بصدره قبل أن يتلاشي في الزحام كما حدث من قبل عدة مرات وعلي أية حال فالحالتين أمامها علي الأقل ساعة وربما ساعتين قبل الولادة .. يطلب من زميله أن يتابع الحالتين وأن يناديه عندما يحتاجه في أي وقت .. يغلق باب مكتب الأطباء عليه .. يخرج الأوراق والقلم " هكذا بدأ كل شئ فجأة .." يكتب ذلك علي الورق .. أتته هذه العبارة كالطيف ..في العادة حين يشرع في الكتابة تأتيه عبارات معدودة كالطيف تكون كالمفاصل التي تنقل الأحداث .. "هكذا بدأ كل شئ فجأة.. " بداية معقولة تثير القارئ ليكتشف معه غمار تلك الحكاية ثم هي بداية صادقة ألم يفاجأ بعد ثلاث سنوات كاملة أنها أحبته .. منذ البداية كان يشعر أن هناك شئ ما لكنه تجاهله .. كان حينها خارجاً لتوه محطماً من موقعة خاسرة ولم يكن علي استعداد لأن يعيد الكرّه ليخسر لنفس الأسباب .. حقاً السابقة كانت زميلته أما هذه فجارته لكنهما في نفس العمر وفي ذات الظروف.. هكذا حسم موقفه منها منذ البداية وقام بإسكات قلبه تماماً لكنها دوماً كانت تتسلل إليه ليجدها مستقرة في داخله ليعود ويسكت قلبه وهكذا .. يعاوده الطيف مرة أخري " لم يكن ينوي أن يحبها .. وربما لم يرد .. لكن الحب لا يعترف بالنوايا ولا يحترم الإرادة .. لكن هل للزواج نفس الأخلاق ؟ سؤال يدور في أعماقه .. " يسارع بكتابة العبارة الجديدة.. ضمير الغائب يتيح له الحديث بحرية أكبر .. ستنقله هذه العبارة إلى أصل المشكلة .. فليعترف إذن أنه يحبها .. ولكن ماذا بعد ؟ كيف يقدم علي الزواج بمرتبه المخجل ؟ .. هل ستتحمل هي معاناة البداية ؟ بل هل سيتحملها هو ؟ قالت له : نعم سأتحمل لكن هل تدرك حقاً معنى ذلك ؟ أم ستجيء له في منتصف الطريق تطلب الرجوع حيث لا يمكن الرجوع .. لا يثق في قدرته على التحمل فكيف يثق في قدرتها هي ؟ .. تتوارد عليه الأفكار تباعاً .. قلبه يتمزق حزناً .. تطفر الدموع من عينيه حين يتذكرها وهى تعلن تحديها لكل الظروف .. ويصيبه الحنق حين يتذكر ترددها قيما بعد .. مشاعر

متضاربة وحيرة ما بعدها حيرة .. لكنها علامات مبشرة بقصة جيدة .. الآن وصل إلي قرار .. فليبدأ "هكذا بدأ كل شئ

فجأة .. " ثم يحكى عن المفاجأة التي أذهلته ثم يتحدث عن حيرته فيعود ليحكي عن البداية لتنتهي القصة بشكل دائري

.. لكن بعض الوقائع ستحتاج حتماً لتحوير ما .. أتته أخته تتخابث وتتغامز وتقول له أن معها رسالة هامة إليه ولكنها تريد الأتعاب أولاً .. لم يهتم فى بادئ الأمر لكن حين أخبرته أنها من جارتهم إياها ذهل وأعطاها ما تريد ليسمع

منها .. كانت تقول له بوضوح عجيب أنه إن كان يحبها حقاً فعليه أن يتقدم إليها حالاً فهي لن تستطيع أن ترفض من

يتقدمون إليها إلي الأبد.. تعجب كيف تأكدت أنه يحبها هكذا ؟ كيف وصلت إلى ذلك اليقين الذي لم يصل إليه هو بعد

؟ هل نظراته الخجلة هي السبب أم السؤال العادي عن الأهل والأخوة والدراسة ؟ متعة غريبة يشعر بها حين يتأملها

تتصاعد حين يحادثها لم يستطع أن يحرم نفسه منها ..طالبته أخته بالرد فأسقط فى يده .. يعاوده الطيف مره أخرى فيكتب "... هو نفسه لا يدري ان كان يحبها أم لا .. هل تلك الأحايين التى يضبط قلبه فيها متلبساً بحبها تكفى ليقرر ذلك ؟.. حتى فى تلك الأوقات لم يشعر بذلك الوهج الذى يجتاح قلبه كلما وقع فى الحب .. أهو حب من نوع جديد أم أن ذلك من تأثير ضغطه على قلبه ؟.. لا يدرى.." أعجبته الفقرة لكنه حين تفكر فيها ازداد حيرة وعاد الحزن ليغمره من جديد وطرأت في باله فكرة .. فليبدأ القصة برده على أخته وستظل عبارة البداية مناسبة فقد كان رده هو الأخر مفاَجأة لا يعرف إلى الآن كيف أقدم عليها .. حينها لم يفكر فى شئ سوى أنها ستضيع منه إلى الأبد إن لم يقدم على خطوة ما فبعث مع أخته يطلب منها أن تنتظره إلى أن ينهى فترة امتيازه ليعرف أين سيجد وظيفته وحينها يمكنه أن يتزوجها .. وما أن ذهبت أخته إليها حتى تمنى لو لحق بها .. لكنه لم يحاول.."حينها لم يسأل نفسه ان كان يحبها أم لا وكأن الإجابة معروفة مسبقاً .. فقط تسائل كيف يمكنه أن يتزوجها فى ظروفه الحالية والى الآن لم يعثر على إجابة !!" كتب العبارة الجديدة ثم عاد إلى فكرته .. يمكنه إذن أن يبدأ برده على أخته ثم يحكى عن المشكلة وفى

أثناء ذلك يأخذ القارئ إلى بداية الحكاية ثم يعود إلى الرد فيحافظ على الشكل الدائري الذى يريده .. تخمرت الفكرة فى رأسه .. الآن استقر علي الشكل العام للقصة لكنه لم يصل بعد لنهايتها .. ليست مشكلة فأثناء الكتابة يعثر القلم عادة على النهاية المناسبة.. الآن عليه فقط أن يبدأ لكن صوت زميله يأتيه " أسرع الحالتين أصبحتا على وشك الولادة " فترك القلم وهم مسرعاً ولبس الملابس الخاصة والقفاز وذهب إلي حجرة الولادة .. كانت الحالة التى معه فعلا في بداية الولادة .. ظل يتابع الطفل وهو يبحث عن طريقه في إصرار عجيب .. لاحظ للمرة الأولى ذلك التناسق البديع بين دوران الرأس وانقباضات الرحم وانقباضات عضلات الأم اللاإرادية .. جال بخاطره أن الأم وجنينها يشتركان فى عمل بالغ التعقيد دون أن يدريان من الأمر شيئاً!! ساعد السيدة بشكل جيد ربما الأفضل منذ بدأ .. " في مشاكل ؟ " تسائل زميله . فرد ضاحكاً :

" الحمد لله لا توجد جروح هذه المرة ! "

وبينما كان بكاء الطفل يتصاعد ربما خوفاً من حياة مفتوحة علي كل الاحتمالات كان هو يخلع قفازه ويفكر في نهاية

لقصته !

الأربعاء 26 /12/2001

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى