عماد حنا - سأسير معك في هذا الطري.. قصة قصيرة

أجل، أنه هو. لقد ظننت أن أخباره انتهت منذ مدة، منذ تلك الحادثة المشئومة. لقد ظننت أنني لن أسمع عنه مرة أخرى بعد أن انتقل من قمة شهرته إلى قاع النسيان. لكن ها هي صورته تعود مرة أخرى للظهور على صفحات الجرائد يعلوها ذلك العنوان الغريب: " طريق الانتصار"

شرعت أقرأ السطور: { إلى كل شخص يدعي أنه أقل من الآخرين، إلى كل شخص يقول أن الله ميز الآخرين عنه وأحبهم دونه بسبب إصابة أو عاهة أو فقد أحد أطرافه: سارع بالاشتراك إلى هذا السباق، سباق الكراسي المتحركة. هذا السباق ليس هدفه معرفة من هو الفائز, أو من هو الذي سيصل أولا إلى خط النهاية . ولكنه لإثبات ذاتك وقدرتك على أن تعيش مثل الآخرين. هذا السباق ينظمه بطل سباق السيارات السابق "جون الكسندر" ، ومكان السباق هو حديقة بيت الكسندر}

جون الكسندر، انه دائما هكذا يريد أن تستحوذ أخباره على اهتمام الآخرين، دائما يحب الشهرة والأضواء.

عدت بذهني إلى الوراء، منذ ثلاث سنوات. في ذلك اليوم المشئوم، كان جون ينطلق بسيارته في السباق.. كان المتقدم دوما, ولا يعرف الخوف طريقه إلى قلبه. مضى في السباق إلى المنحنى الأخير. جون يحتل المقدمة تليه سيارة تتحين أن تتخطاه، ولو على أشلائه.. لا زال جون في المقدمة.. دقائق قليلة وتعلن النتيجة ويفوز جون ويثبت أنه البطل، الأفضل دائما.

توقفت عن التفكير، كما لو كنت أحاول أن أعفي نفسي من اجترار ذكرى المشهد الأخير الذي أودى ببطولة جون كبطل عالمي في سباق السيارات . كانت الذكرى تؤلمني .. لقد صمم المتسابق الذي يليه أن يتخطاه في زاوية المنحنى ولم ينجح في ذلك إلا بصدمة قوية أطاحت بسيارة جون بعيدا عن الحلبة لتهوي في المنحدر ثم تنفجر انفجارا مدويا.

أتذكر زيارتي الأولى له بالمستشفى ، كان غائبا عن الوعي وقد بترت إحدى ساقيه وتشوهت معالم وسامته.

ولكني لم أعاود زيارته ربما بسبب انتقاله من المسكن المجاور لمنزلي إلى مدينة بعيدة، وربما لأنني تعودت أن أقابل شخصا نشيطا مبتسما وسيما، واليوم أخشى مقابلته، ولكني حرصت على متابعة أخباره دون علمه، فعرفت أنه انتقل إلى مدينة ساحلية هو وخادمه العجوز الذي كنت أتصل به كثيرا دون أن أخبره عن اسمي لأعرف منه أخبار مخدومه.. ولكن ما أن توفى الخادم حتى انقطعت عن الأخبار والسؤال.

حاولت أن أنساه وظننت أنني نجحت في ذلك، إلى أن رأيت صورته بالصحف مرة أخرى .. ترى ما سر عودته إلى الحياة العملية.. كانت خادمه يبلغني بأن جون يعمل في مشروع صغير ليشغل به وقته ولكنه لم يفصح لي عن نوعية ذلك المشروع.

ترددت أن أراه في محاولتي نسيانه، ولكن هل سأقوى على رؤيته؟ هل سأتمكن من مواجهته؟ ترى ماذا سيفعل عندما يراني؟ أعتقد أنه لا يزال يكرهني. ترى متى سيغفر لي ؟ وهل خطيئتي تغتفر، هل يسامح من عمد إلى تدمير حياته؟ هل يصفح عمن جعله أسيرا لذلك الكرسي المتحرك البغيض؟

أجل ، أنا الذي أزحته عن الطريق أمامي لكي أحظى بتلك الشهرة الواسعة التي كان يتمتع بها وحده.. ولكني انتزعت الفوز منه تلك المرة وأصبحت البطل.

أغمضت عيني فراودني نفس الحلم الذي كان يؤرقني طيلة الثلاث السنوات الماضية .. سيارة مسرعة في طريقها للفوز وسيارة أخرى تتحين اللحاق بها، تضربها من الخلف.. وتفوز السيارة الثانية ويدوي انفجار الأولى عاليا.. لا .. لا أريد الاسترسال في هذه الذكرى الأليمة.

ماذا دهاني .. ينتابني شوق جارف لرؤيته، وجدت نفسي أتجه إلى سيارتي وأتحرك بها إلى خارج المدينة.. كانت رغبتي في رؤية جون كبيرة، لست أدري لماذا ولا أدري ماذا سأقول.. لقد ظللت طوال الثلاث سنوات الفائتة أخشى هذا اللقاء، فماذا دهاني وأنا أسعى اليوم أليه، ترى ماذا سيفعل عندما يراني ؟ هل سيطردني ؟ ولم لا؟ أم أنه سيأسرني بلطف محبته كما كان يفعل دائما؟ يكفيني من عذاب الضمير ما لقيته. هل سأستعذب برؤيته؟ تذكرت اللقاء الأول بيننا كان قد أصبح نجما لامعا وبطلا شهيرا وكنت أنا في أول الطريق، أظهر لي حبا ورعاية وتبناني في فريقه.. كنت أهادنه ولكنني لا أميل أليه, أسالمه ولكني لا أحبه.. كنت أحقد عليه وأحلم بتفوقي عليه فلماذا يصفق له الجميع وأظل أنا في دائرة الظل؟

عدت بذاكرتي – ثانية- إلى يوم السباق المشهود، وفي ذلك اليوم طمأنني جون بقوله: " سيكون الانتصار حليفنا في هذا السباق، سننتصر معا" .

أجبته في نفسي: " بل سأنتصر وحدي، لن أكون تابعا لك ووجودي مرهون بظلك، سأطيح بك وأحقق الانتصار الذي يرفعني إلى الشهرة والمجد" .

ولكنني لم أحقق أي مجد، كنت كلما حاولت التقدم في طريق السباق ونظرت إلى المرآة أجد سيارة من خلفي تحاول أن تتخطاني وتزيحني من الطريق، ولا أعلم ماذا اعتراني بعد إصابة جون – كنت أسمح لكل السيارات أن تتخطاني وأصبح في المؤخرة.. لم أستطع الصمود مرة واحدة وكانت النتيجة أنني اعتزلت هذه الرياضة دون أن أحقق أي نجاح ، لقد كان شبح ما فعلته بجون يطاردني في كل مكان.

* * *

ثقلت قدماي عندما اقتربتا من بيت جون. حديقة المنزل جميلة وواسعة يخترقها طريق صغير يدور حول البيت مقسم كما لو كان حلبة سباق صغيرة.. تقدمت فوجدت أن الطريق معد بالإشارات لسباق ما.. عادت الذكرى المشئومة إلى ذاكرتي مرة أخرى : سيارة سباق مسرعة وسيارة أخرى تضربها من الخلف، سيارة تفوز وأخرى تنفجر.

تراجعت متباطئا.. كلا لا يمكنني أن أواجه جون. أردت أن أهرب ، فتحت الباب لأخرج ولكني سمعت صوتا رقيقا يناديني باسمي ، نظرت إلى مصدره .. كان هو.. لم يتغير كثيرا، ابتسم وجهه حالما رآني ولكنه لم يركض للقائي كعادته.. لم تنطفئ شعلة المحبة في قلبه ولكنه كان أسير مقعده الذي حكمت أنا عليه به طيلة حياته.. تقدم بإصرار ويداه تعصران العجلات. دمعت عيناي، تقدم ببطء وسط الأزهار .. انه يحبني .. واليوم لمس حبه شغاف قلبي .. لقد كنت فائزا به، وأصبحت منكسرا بدونه.

احتضنتني كلماته: " كنت أنتظرك، لقد طالت غيبتك كثيرا" انحنيت على مقعده، تعانقنا كأحب الأصدقاء، أخفيت رأسي في صدره وبكيت. لقد غفر لي وانتصر على مرة أخرى .. ولكني لن أعطي لنفسي فرصة لكي أنهزم . سأمشي معه في طريق الانتصار. سألني جون: " لماذا لم أعد أسمع أخبارك في حلبة السباق مرة أخرى؟".

نظرت إلى الطريق الصغير الذي يتوسط الحديقة وأجبت جون وأنا أربت على كتفه : " لم أعد محتاجا إلى ذلك، سأمشى معك في هذا الطريق، سننتصر سويا في طريق الحب" .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى