محمد حيدار - معجم الجدف عبر براكين التناهي .. الرحلــة الأولـى:

هو ذا بالحرف الواحد ما أكده الملحـق المدنـي المنتدب، الأمسية أمسية سبت والموقع خارج ملهاة المدينة، وشلال إصطناعي يرسم في إعتياديات مشوقة علامات ضوئية تتلون بلون إيقاعات موسيقية تنبعث من أعماق الماء.

نسيمات مسائية مرخص لها بالعبور ليلا تسابق حظر التجول المعلن طبيعيا في هذه المدينة، صدرعار تلامسه، توقّع عليه ملاطفات غزلية شيقـة.

قوافل الضباب تصحر تباعا، وتباعا صغار الموج تسترق إغفاءة القمر في وجوم، مراكب خشبية تتحفز للإقلاع، بعنف يتطاير الرذاذ غاضبا، في توثب يعانق عجائز الصخر المجبولة على تذوق البلل، والعابر يمتص بقايا أمل، قشعريرة حادة تعتريه، يستلقي في غيرإجفال، وعلى طباخ المطعم الشعبي يقص تفاصيل رؤيـاه.

أنصت الطباخ في مبالاة، تسمّع، تمكن منه طعـم الحديث، ناوله خبزا مسمّنا وكوب ماء، تمعن (العابر)، ألقى بكوب الماء بعيدا في غير ما غضب، أرجأ الطباخ أشغاله بل تمدد بجانب (العابر)، تفحصه، انتظر تفاصيل الرؤيا، في اشفاق أبوي في رفق ربّت على كتفيه رجل ذو لحية ثلجية الخصلات، كان يحمل مظهر الزائر المحترف، وفي صوت الرعد هامسه:

ــ لا وجود إلا للموجود.

ورددها العابر في تأكيد وهو يستمر في ألعابه، يعاود قضم الخبز، يطلب ماء يتكيء، وعصابة من بائعي السمك المتجمد تضرب عن الانتماء إلى الأنهار الثلاثة، تتقي الاتهام بممارسة السباحة ليـلا.

بالصدر العاري الذي تلامسه نسيمات مسائية، يمور دبيب حلزوني التيار، وإرهاص انتعاشة يختلس مقدمات للتأقلم، البخار يرسم أغلالا غير متناهية من علامات الإستفهام، في ضجر يتثـاءب الفرات مثقلا لا يزال بغبار الوافدين الجدد، يتعثـر خرير النيـل ثانية على وقع خيول ما، وفي طبرية يصيرالسمك هجينا:

ــ الفـرات، النيـل، طبريـة، هل زرتها في منامك؟

ــ بل هـي التـي تزورنـي في منامـي.


الرحلــة الثـانيــة:


" لوسي " لأمر أكّده السفير تحت العادة بكل إصرار، تقلع عن بسمتها المعتادة منذ الصبيحـة، تمارس الكأبة في جنون، تذمرا وافدا تتصيده لسبب حاول السفير أن ينفذ إليه لكن في حلقها ـ كما أضاف ـ تتحلّب أعراض العادة، وزرقة عينيها متأوهة سابحة في اللامتناهي قبيل لحظة الإضراب الأبدي.

" لوسي " انتمت بما فيه الكفاية إلى إحدى مدارس الجنس العالمية، وحين يشتد وجيبها لغرض ما فقط تزم شفتيها، تبتلع العباب،

قيل ــ وهذا أمرأغفله المنتدب المؤقت لتعلة ما ــ إنها ترقص على الشاطئ مساء في حفل تحجز فيه الكاميرات حصرا، لأنها من بيوتات المدينة.

كعذارى الأنهار في الأساطير، كجدول يعبث به شاطئ منفرد، كأفكار معلبة في جمجمة مهربة، بارزة عناوينها، صورها كاريكاتورية و أشياؤها قابلة للوداع، في إحدى أماسي عام الجدب أقلعت " لوسي " في إتجاه ما، ولاحظ شهود عيان أنها لا تزال تزم شفتيها.

ــ وبعد أيها (العارف) وبعد؟!

صاح العابر في توتر وازدرد رغيفا ملقى بعيدا منه، وألحّ في إحضار كوب من ماء طبرية.

مفرقعات سلمية تخللت الحفل غير المعلن عنه، العتمة تتقولب، و(العابر) يتشرّب نغما موسيقيا ملقّحا بذبذبات شبه جنائزية، تقارب الأزيز، في خلوته نشب الصدام.

ــ بيـن مـن و مـن؟!

تساءل العابر صادقا.

ــ بيـن " لوسـي" و" جيـن ".

ــ جيــن؟!

ــ عذراء أحد النهرين.

ــ أحـد النهريـن؟!

تمطط العابر تفل، تناول الكوب، خاطب العارف والخبز يملأ فاه،

فكر العابر في مغادرة المقهى قبل ساعات الاستقبال الأولى، تراجع غضبه، أنصت في صمت، راهب مفوض وفد مؤخرا لاستئناف التبشير، يبيـح مواصلة الرقـص، يضع قبلة محمومة على عنق ما تبركا بشقرته، فتقرع تقرع الأجراس بعنف إيذانا بنزول السكينة.

" لوسي " تتأبط جوازا مستعارا وعلبة فاخرة لبوليس المطار و وسائل للزينة محظورا بيعها و منديلا للرقص مطرز الحواشي، دورتها ناصفت العالم ومن بعيد كانت تعلن المجئ، تقررالرقص منفردة، والبحّار لا يزال يخطب في جمع مهمّش، والتهميش تقعيد بدائي ابتدعه لغوي مسن مات بالفالج قبل إختراع البحر السادس عشر، حين ترامى النبأ إلى أسماعه ترجّل عن زورقه لينزلق إلى فوهة الغواصة في ميناء مأجور مذ نكبة الفينيقيين الثالثة.

كبير المنظّرين قاطع الحفل، وصف التاريخ على أنه حرب غير دائريـة لكنها ذات مقبض، التاريخ مدونة أنساق لمترادفات البطولة، موسم القنص المحظور عادة يستمر، وتواشيح السلام تجوب الشوارع، ورواد المحبة يضفون ما أمكن على بطون مكعبة أقصى آيات الطهر أمام الأضـواء.

في أثواب متنكرة في زي رجل، قيل إن فتاة ممن شربن من مياه النهر الثالث دخلت المدينة ليلا، وليلا رفضت مغادرتها، امتنعت عن أي تصريح.

الرحلــة الثـالثــة:

الأجراس ترن، الخيوط تمتهن توصيل اللغـط المؤشرعليه، و العابر يحاول تأويل رؤياه بواسطة (الكمبيوتر) هذه المرة.

ــ الأرض كروية كالبطن تماما، الأرض بطن إذن.

تضاحك العارف وهو يسبل جفونه فأجفل العابر، الزفرات المحمومة تتبطن تلافيفه دون أن تذعن لأمر التلاشي المعلن على أمواج الأثير من محطة ما، لمته يتسارع إهتزازها ويركب الصوت سكون. الممارسة الباطنية تحظر الحنين، والعشق الحازمي يأخذ شكل المجون المركّب.

ــ لم تعد هناك علامات!

أفرغ العابـر بقايا نزعه، الراهب المفوض يحضر المحاكمة، يقبع العابر قرب باب موصد، ولوسي تعاود رفض البسمة، والبحّار يقاطع الموج أحاديثه، وقاضي القضاة في محكمة أممية يحاكم غلاما في الثانية عشرة بدعوى خوفه من أزيز طائرة حربية.

رغم صخب الأجراس، فرقة الجاز المأجورة تقلع عن مواصلة العزف لأسباب أمنية، الراهب يقرر رفع دعوى، ويدمن قاض/ درجة ثالثة / على توقيع أحكام احتياطية، العابر تلعثم في وجه لوسـي.

ــ مـن أنــت؟!

ــ مرشحة للإبحـار.

وعرّفت لوسـي بنفسهـا:

أوقفت رجة الرقص بإماءة ما، تجنّح السمع، انتظر الكل،

ومارست (لوسي) بسمتها في حياد هذه المرة، العابر لاحظ في دهشة، وقد كان خارج المشهد:

ــ كل الأشياء الجميلة أتلفها النهـر.

ــ انجراف كلـي هـو النهـر.

قال، ويقـول:

ــ أحواز النخيل والخضرة طمرهـا.

قال، ويقـول:

ــ مواسـم الانجراف تتأبـّـد.

كان قد غادر المقهى مذ لا يدري (العابر)، وفي كل آونة يرتاد المقهى أحد الزبائن ليتلقف كلمات أو أنصاف كلمات من أحاديثه التي يهمه فيها أنها لا تنشد سامعا على الإطلاق.

ــ لوسي نهر لا يجتازه راجل ولا راكـب.

وأكدت (لوسي) للعابر أن الإبحار الفنيقي لا يزال قائما رغم موجات الانحسار الثلاث، وتنهدت (جيـن) منصرفــة:

ــ لا يـــــزال.

وتحرك (العابر) في أثر (لوسي) مرددا في نصف ابتسام:

ــ ربمـا ربمـا.

من تحت حاجبيه الكثين ابتسم وأوصى بإستئناف الحديث بعد يقظته من مغص نوم ألم بأطرافه، اعتزل الحديث، تخندق في جلبابـه المهتريء، ثم أومـأ بسبابته في اتجاه القمر، في منامـه استرجع وقائع رؤيـاه.

الرحلــة الرابعــة:

حدّثه العارف عن تقاطع النهرين في زمن الغفوة، و خصائص ريح الشمال، والثلوج الملونة في أعقاب الخريف، وضفاف النهرالثالث الكاتم للسيلان، وجدائل الفتاة الصامتة في جوف التيار الدافئ، العارف في رحلته اصطحبه سارا حافيين، قطعا وهادا و تلالا، احتملا سريرين لامعين وأغطية من حرير وجرة ماء بارد وطيبا ودواة ، تسلقا تلالا حجرية متراصة، اخترقا أدغالا متعانقة، و سلخا لياليّ مقمرة، و استلذا نشوة الخبب في غبش الفجر المطل، ودفء الشمس بعيد الإشراق.

وتقدم العابر ليسأل العارف عن النهرين وزمن وثبة النهر الثالث، إلا أنه رمق لونه وقد امتقع، وحين هم العابر بالعودة انزعج العارف، وبحث في صرّة الزاد عن تبّان للسباحة وقد حمأ ماء الجرّة، و تقوّس السريران واعتلى الصداء سبائكهما الفضيــة اللامعة.

واستحال الطيب صديدا عفنا، وأقال الليل القمر وأدلهمّ الإشراق، افترش الرجلان السعف الذاوي والرمل الحارق ودقيق الحجارة، وعاود العابر تنهده المكتوم.

ــ والنهــــران؟!

بزوايا محياه عسكر العياء وفارقت الدندنة شفتيه، وامتص الحصى خشخشة نعليه ونزفت قدماه، وأنهت (لوسي) وشوشتها و شاكسته في حنق، وتمتم العابـر.

ــ والواديــان؟!

وأشار العارف بيده:

ــ في منتهى المغيب يترأى أولهما!

وعدا عدوا خفيفا، التفت إلى (العابر).

ــ خلفهما تقع البداية.

ــ وتنتهي الرحلـة؟!

ــ بل تبدأ يا صغيري.

تخلّص العابر من بقايا زاده، وتلثّم بذؤابة عمامته المندثرة رسومها، وقذف بإحدى نعليه في إتجاه مجهول، وأنكرعلى العارف سراه، وتحت نهايات الظلال استلقى، إلى أن اعتلى شخيره طنين الذباب الصاخب، وجففت (لوسي) عرق جبينها في رفق، فندت عن العابر صيحة كالخور، وغطّ فامتعضت بين يديه، وقدّمت له طيبا ليتقبله نائما فاعتذر.

أقلع العابر خلف العارف غير أنه أفتقد أثره، وهاجمه إعصار دائري وأنواء متفرقة، واختطفت زوبعة مركّزة بقايا عمامته، وابتلعت آخر نعليه أمعاء الوحل، سقط، حاول، تداعى، تحلّق به صفير رياح مجنونة، تكوّم انتصب مرتجفا، شدّه حنين إلى سابق خطاه، تطلّع، تماسك، على سمعه انهال هدير طوفانـي مخيف، أيقن أنه الوادي وقد اقترب غاضبا، تدافعت أمواج في ضخامة أطواد عائمة، وتناغت شلالات خرساء في تموّج، وكتمت اللجة أنفاس الشجر المخضّر.

الضفة الأخرى تتراءى بصعوبة، والسيل يرطم نهايات الانجراف الممتد، والغدير العكر يراود أكاما في ارتفاع // الهمالايـا //

ــ أيهـا العــارف!

صاح العابر بقبضة صوته تحرّك، ربضت (لوسي) على صدره، كانت سيارتها الفارهة قد استحالت زورقا زجاجيا عاتما في يسر توارت، اجتذبته المشاهدة، اعتزم اجتياز النهر، تمتم ثانية.

ــ انتحار!

أحجم انتفض، اقتلع عكازا من شجرة ذاوية، اقترب، عكست صفحة الماء مشهده عاريا؛ تماما عاريا، تبللت رجلاه أحس ببرودة جليدية، تقدّم ماسكا بالعكاز، ركبتْه رعشة مباغتة، أقلع عن النظر إلى أدنى الشلالات الهائجة، خطاه متقاربة، عيناه زائغتان، ظهره مقوس إلى الأمام، دنا من غرغرة اللجة تأبّطه السيل، شهـق، أعزل كان بدون عكـاز، تلقّفه التيار صاح، تكوّر اختفـى.

أيقن أن للماء ظلوماته الخاصة ولونه وألعابه وزواحفه السامة و رغاءه الصامت، (لوسي) ببذلة السباحة، من داخل السيارة تبدو له بين الحين والحين تتأنى، تزم شفتيها.

بجواره ترسل بسمات طفولية كلما أحدث جسده صداما موجعا بصخرة أو بجذع شجرة، أو ملامس حية مائية راكدة، أو تلّة حصى مؤتلف حين تجترّه منعطفات الوادي في عنف، كانت تصدر عنه نصف غمغمة مختـنقة، وصيحة إرتدادية مكتومـة.

"" تلفعن "" الوادي، وانغرزت سوق السيل في كبد الجزر المنهوكة؛ وفي إحدى الأماسي الحالكة لفظ التناهي جثة العابر معفّرة بالطمي وركام الطحلب، فارتمت ساكنة على سفوح دغل سفلي، حيث تنتظر صبية الحيتان، وصغار الأفاعـي، وبذور ضفدعية، وماء موحل ونزيف وغثيان ودموع مترددة، عندها تشرّب الوادي أصداء قهقهات ( لوسي).

الرحلـة الخامســة:

بيده مسح العارف على جبين الجثّة الهامدة، فأبادت نظراته دبيب الحشرات، واستردّ العابر بعض وعيه، وتشبثت يداه المرتجفتان بلحية العارف منساقتين تلقاء الدفء.

ــ أيـن نحـن الأن؟!

وبقوة زفر العارف وبصره يمشط بقية الطريق:

ــ بين النهرين، في أسفل أحدهما.

ــ و(لـوســي)؟!

ــ ربما تجاوزنا مضاربها الآن.

ــ هو العـدم إذن؟!

وقهقـه العارف دون أن ينصت.

عاريـا ظل العابر معفّرا بالطين، يذكر عصاه وعمامتـه، متخلّف زاده، قلنسوتـه والطيب المبستر والسرير الأحدب، وبين أنامل العارف تراءت له الدواة، فتوامضت بسمته في تعب، واندفع نحوها متسائــلا:

ــ ألـم يتلفهـا الـوادي يا سيدي؟!

تأبط العارف عصاه، وأخفى الدواة بثنايا مئزره، وقام واقفا وهو يقول:

ــ لنرحـل يا صغيـري.

ــ إلـى أيــن أيضا؟!

ــ نحـو الـوادي.

وأجهـش العابر ضارعا إليه:

ــ بل علينا أن نمكث بين النهرين يا أبتـاه؟!

ــ وإذن سيذيـبنا التياران؛ نتبخر يا صغيري.

خلف العارف انطلق العابر في عدو مثقل، متوجسا ضياع أثر دليله كسابق مرة، كان فاصل النهرين متجمدا، تتزحلق على أديمه الأرجل، وهواؤه جافا شبه موبوء برائحة التخثّر، عديم الجاذبية، تغشاه رطوبة، قاحلا مخيفا؛ ومن بين أطواد ضبابية دكناء برز جدار جبلي مرصوص هرمي الواجهة، يحمل يافطة نحاسية كتب عليها (جيـن).


انتصب العابر منبهرا، يحملق في معمار الجدار الذي تسوره العارف في يسر، شامخا كان مهشم الحجارة، وفي جحوره رؤوس حيات مدّببة تصطك ألسنتها بالتناوب.

اقشعّر بدنه التفت، أشار عليه العارف بالتقدم، تأوّه، بمحاذاة الجدار أوغل في السير، إلى أن لفّته أخيلة الغـروب، وخلف محدودبـات القمم العليا توارى العارف مسرعا، تحفّظ خطو العابر، ومن وراء التلال الوافدة عاود الهديرغضبته الموسمية، لأحاديث الغدران الغاضبة إرتاع العابر، تراجع، أصاخ، رواسي الجلاميد تتزحزح وأعتق المرتفعـات تتفقّع تذوب بدورها؛ وثعبان مائي بزاوية دغل يتلمظ، وشجرة عجوز تنهار طواعية، عدا العابر بعيدا عن دغل الثعبان، تحسّس نبض التيار الدافق ، إقتلع عصا ذات لحاء كثيف، تدلّى بإتجاه بركة مهمشة، تقدّم، شيعته الضفة الأولى في إنشاده، ساد ظلام، توحّش المكان، تكوّم الزبد خلفه، أمامه، علا صخب الماء، أقال السيل شجرة فارعة خضراء الأفانين، وانهدّ كهف ترابي بالضاحية فانبعثت منه صرخات مدوية.

ــ أيها العــارف؟!

ــ جيـن، يا أميرة النهر؟!

لا أحد هناك سقط العابر، تناوشته المياه، بعيدا حملته، تبطّن متنها، أخفاه المغيب، لازمته صورة (جين) بشفتيها المزمومتين، بشعرها العائم، بأطرافها التي تعاكس اصفرار الغدير، تلونت دائرة الوهج، استحال ثغر (جين) المزموم فكي ثعبان مفتوحين يرشحان بمادة رمادية لزجة، في هروبية فطريـة أغمض العابـر عينيه، فاجأته النهشـة، ترنّح، أناة موجعة صدرت عنه، خاطب بها السيل الهائج، إفتقده الزمن، ابتسمت (جين).

في رحلته اختزل العابر ملايين الأميال المهملة، وارتطم بصهوة سلحفاة نائمة، وطارده جندل ضخم نخر السيل مجلسه، إلى حلقة استعراضية قذف الوادي بالعابـر، في نهم فطري كانت ثعابيـن المسارب الخلفية تمتصّ أذيال بعضها، تراءت له ظهورها موشمّة بأرقام شبه تسلسلية متناسقة اللون كفرق كرة القدم.

حاول أن يكبح اندفاعه، كان التيار الخلفي أقوى، وأبواق الشلال تعزف أناشيد الموسم، وأذناه تستقبلان ألحانا موفدة من وراء المنعرج، الثعابين لا تحدث خشخشات مخيفة كدأبها فقط تتلمظ الغدير في استرخاء، وأقربها إلى العابر يكشّر عن أنياب في منتهى الدقة؛ تفرز سائلا متخثرا.

واعتقد العابر أنها حين تتلوّى في عنف إنما لتبارك مجيئه كضيف

استعراض، وما أن تدنّى به الغور إلى محاذاة بعضها، حتى نهشه أكبرها على عجل وكان لا يقوى على الزحف، فما كان من بقية الثعابين إلا أن قرقعت أنيابها ربما شوقا لجسده، زاحمه السيل وسهوا أفسح له الطريق ضفدع هرم لسبب يجهله.


براقع سود تلوّن جسم العابر وقد انكبّ على ظهره تدفعه المياه الملوّثة نحوغابة شوك مورقة.

ــ أشجار الشوك أيضا باسقات بهذا الحجـم؟!

تساءل العابر في نفسه، كان منظرها مفزعا، وتذكر أسماله التي قذف بها خلف الوادي الأول، لسوف يصادم جسده سفافيد الشوك المشهرّة في قوة، إنها كالحراب تصارع السيل في صلابة، فجأة تصدرت أشجار الشوك شجرة فارعة بيضاء الأوراق، وكلما اقترب منها العابر محمولا على التيار المائي المتواني، أخذت تتشكل في صور ومظاهر أخرى، يا للعجب إنه العارف وقد انغرزت قدماه في اللجة والماء ينصرف من بين يديه! و قريبا من العارف قال العابر:

ــ زل براقع جسمي يـا أبتـاه!

ــ لا حيلة في إزالتها يا صغيري!

ــ سأمـوت إذن؟!

ــ قد تحيا أيها العابر.

استرد العابر أنفاسه وهو يتعثر، وسار متأرجحا يتقدمه العارف، وخلف غابة الشوك رأى العابر (لوسـي) تستحم بإحدى برك النهر المتناهـي وتعربد بألفاظ مبهمة، لا تفقه، وبعد مسيرة يوم قائض أومأ إليه العارف:

ــ هنا يلتقي النهران يا صغيري؟!

ــ يلتقيــان؟ !

ــ أجل يلتقيـان.

ــ على تباينهمـا؟!

ــ على تباينهمـا يا صديقي.

العابر يشلّ خطاه إعياء، يدقّق النظر في الآتي، والآتي لا يستقر على صورة ما، ومن خلف تل صخري أخذت تطالعه قمة حلزونية محاذية شبيهة بصومعة يمر بأسفلها نهر هاديء السيلان، فقال له العارف بشأنــه:

ــ ماؤه غير موسمي؛ ويبيد الحشرات

تلقائيا أيها العابر

نصح العارف الذي تناول بضع جرعـات من جانب النهـرالثالث، وأخـذ يهرول أمـام العابر في جــذل لسبب مـا.

ومن نافذة القمة الحلزونيـة الشبيهة بالصومعة تدلـّى شعر فتـاة ذات ملامح آسيوية، أخذت ترسل بسماتها تباعـا، وتلوّح بيديهـا فـي اتجـاه النهـر المتوثب.

ــ مـن تكـون يا أبتـاه؟!

ــ لعلها عذراء النهر الثالث يا صغيري.

وعوض أن يبتسم كما توقع العارف، عكست ملامح العابر ثقل إرتباك، استيقظ العابر من نومه على قهقهة الطباخ، فانقطع شريط الرؤيا ودنا منه ليقصّ عليه تفــاصيلهـــــــــــــــا.


مدينة خركوف ــ أوكرانيا ــ في صيف 1981

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى