عبدالمولى دليل - قوارب الألم

جربت طرقا عديدة من أجل أن أهاجر الى أوربا. كان أولها الاختباء بإحدى الشاحنات التي كانت تنقل البضائع من طنجة إلى إسبانيا، و قبل أن تغادر الشاحنة ميناء طنجة تعرضت لتفتيش دقيق و صارم ،مما أدى إلى اكتشاف مكان اختبائي فاقتادوني إلى السجن بتهمة الهجرة السرية . خرجت من السجن أبحث عن وسيلة أخرى للهجرة، فلم أجد أحسن من الحريك عن طريق قوارب الموت . التقيت بأحد الأشخاص الذي يدعى الروبيو الطنجاوي . قالوا عنه بأنه يتوفر على خبرة و تجربة في تهريب البشر إلى إسبانيا ، و أن العديد من الشباب الذين هاجروا سرا الى الضفة الأخرى هاجروا على يده ،و على متن قاربه. وجدته ينتظرني بمقهى الحافة بطنجة. كان يتحدث بتلك اللكنة الشمالية الجميلة . تتفرق في جسمه اوشام مختلفة يحمل سلسلة في عنقه و اخرى في يده تحيط بأصابعه خواتم بأحجام مختلفة . يدخن سجارة المالبورو التي تتردد على فمه بشكل سريع و مسترسل . كان بين الفينة و الاخرى يقطع حديثه ليرد في هاتفه النقال. تارة يرد باللغة بالاسبانية ، و تارة بالريفية . يتكلم بثقة كبيرة و اعتداد بنفسه . يحاول إقناع الاخر بالسيطرة الكاملة على الحوار حتى لا يترك المجال لطرح أسئلة كثيرة تؤدي الى اضطرابه أو تلعثمه في الكلام قد تتسبب في ظهور أعراض الشك لدى الزبون فيتخلى عن فكرة الحريك ، فتضيع بالتالي الهمزة على الروبيو. قال : (بأن نصف الحراكة الذين وصلوا إلى إسبانيا كانت بفضل خبرته و الآن يلتقيهم صدفة بشوارع طنجة بسيارتهم الثمينة و لا يسمع منهم حتى كلمة شكر و لا يتوصل منهم حتى بعلبة شكلاطة). قال أيضا بأنه كاد أن ينافس لاكوماناف في نقل المسافرين لو كان يتوفر على رخصة النقل البحري.
كان الروبيو يرجع نجاحه المستمر في الهجرة السرية إلى قراءته الجيدة لوجه البحر، قراءة يعرف من خلالها متى سيكون هادئا ، و متى سيكون هائجا و كذلك ضبطه لأماكن الانطلاق ، و أماكن الوصول، بالاضافة الى تقديم رشاوي لرجال السلطة حتى يغمضوا أعينهم عن تلك المرافئ العشوائية التي منها تنطلق قواربه .كان كلام الروبيو فيه شيء من الصدق و كثير من الافتراء . كلام يقترب من الخيال و يبتعد عن الواقع ، لكن من عادة الإنسان انه إذا أحب شيئا و حلم بالوصول اليه صدق الكذب الذي يقربه من حلمه ، و كذب الصدق الذي يبعده عن حلمه .طلب مني مبلغ عشرة آلاف درهم مقابل عملية الحريك بعد اخذ و رد اتفقنا على مبلغ سبعة آلاف درهم ، و اتفقنا على أن أسلم له المبلغ عندما أمتطي القارب الذي سنجتاز به البحر نحو إسبانيا. كانت والدتي تملك دملجا من الذهب الخالص تحتفظ به كما تقول لدواير الزمان، و عندما قلت لها أن الروبيو طلب سبعة آلاف درهم من أجل عملية الحريك نحو إسبانيا . لم تفكر والدتي و لم تترد و سلته من يدها بابتسامة في فمها و حزن في عينيها و هي تقول:
- ( ماشي خسارة فيك اولدي العياشي).
أعطتني دملجها الذي كان يمثل ثروة العائلة التي راكمتها منذ تأسيسها إلى الان. دملج له مكانة خاصة في قلبها قلت لها و أنا أقبل يدها و راسها :
- ( بمجرد أن أصل إلى إسبانيا و أستقر في عمل معين سابعث لك الاورو من أجل أن تشتري ما تشائين من الذهب سواء سرتلة أو مضمة ).
كان العدد الكبير من المهاجرين السريين من افريقيا بالإضافة إلى بعض المغاربيين. حضر الكل في الموعد و المكان اللذين حددهما الروبيو . كان المكان الذي انطلق منه القارب يقع بأحد شواطئ طنجة البعيد عن أعين السلطة ، و البعيد عن أعين الناس، و البعيد عن قوارب الصيادين. تحرك القارب تحت جنح الظلام الدامس الذي أخفى بحجابه كل شيء. كانت الصورة الماثلة أمامي فيها ليل و بحر و هموم ، فتذكرت ذلك البيت الذي لا أملك غيره في رصيدي الثقافي الشعري:
و ليل كموج البحر أرخى سدوله /علي بأنواع الهموم ليبتلي .
لم يكن أحد من الحراكة يرى شيئا أمامه سوى الروبيو قائد المركب، ربما كان يملك عيونا كعيون زرقاء اليمامة .ظل القارب في البحر زهاء نصف ساعة ثم سمعنا صوت الروبيو يقول لنا اننا وصلنا إلى ماربيا ، و أوصانا و نحن ننزل من القارب أن نبقى مختبئين بضفاف الشاطئ حتى تطلع الشمس ،ثم بعد ذلك ننتشر في أرض الإسبان الواسعة .
بقي جميع المهاجرين مختبئين على طول الشاطئ ينتظرون طلوع الشمس، لكي يشاهدوا المدينة الإسبانية التي سماها الروبيو ماربيا ،مدينة ستكون حتما جميلة بكل ما فيها من شوارع و سيارات و حدائق و نساء مدينة سنختار بين الاقامة فيها، او الرحيل عنها . بدأ النهار يطلع شيئا فشيئا ،و بدأت تظهر معالم المدينة التي كانت تشبه إحدى مدن شمال المغرب، و بدأت الحركة و الحياة تدب أمام الشاطئ ،فكانت سحنة الناس على شكل سحنة المغاربة ،و لم يظهر لنا أي شخص بشعر أصفر و عيون زرق، أما الشوارع، فكانت متسخة كالشوارع المغربية زد على الدكاكين و المقاهي التي كانت تشبه تلك الموجودة عندنا، فقلت هل يمكن أن تكون مدينة في اسبانيا تشبه بهذا الشكل الكبير مدينة مغربية رجعت و قلت ربما يخلق الله من الشبه أربعين و هذا الخلق لا يقتصر فقط على الانسان بل ربما يشمل كذلك المدن، فكثيرا ما كنا نسمع في نشرة الأخبار عملية التوأمة بين مدينة مغربية و مدينة أوروبية ، لكن اللغة الشمالية التي سمعتها و اللباس المغربي التقليدي الذي رأيته خلق في نفسي الشك و الريب ،مما جعلني أسأل أحد المارة عن اسم هذه المدينة فقال لي أن اسمها الحسيمة انذاك قلت في نفسي :(إن الروبيو لعب لعبته القذرة فأخذ مالي و مال غيري بالغش و الخداع).
بعد مرور أربع سنوات ظهرت سيدة في برنامج مختفون بوجه متغضن و حزين تقول بصوت متهدج و مكلوم :
- ( اولدي العياشي باك راه مات بالفقصة و انا تعميت بالبكا عليك، و غير رجع لدار و خا مشا لك الدمليج و خا ما ممشتيش الخارج رجع الله يرضي عليك، رجع الله يرضي عليك).
عبد المولى دليل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى