سمية سليمان – الأنثى السنـدباد

هل كانتِ الأُنثى السُّندباد غيرَ أنثى تَجوبُ البلاد؟
أمْ أنَّها تحملُ الكرةَ الأرضيةَ في جوفٍ ملثمٍ بالخوفِ والكِتمان، وتَتَدثرُ بِشالٍ هنديٍّ وتقتحمُ الهواء، والكرةُ الأرضيةُ في أحشائِها تَنمو يومًا بعدَ يومٍ وتطلبُ التَّحرُّرَ؟ وها أنا أنتظرُ يومَ الوضعِ، لأشارِكَها في خَلعِ الكرةِ الأرضيَّةِ عنها، خَلْعِها من باطنِ الاحتمالِ، لعلَّ الكرةَ الأرضيةَ تحكي لي ما حدثَ في الرِّحلةِ وهي في رَحِمِ الأُنْثى السندباد.
في قاربٍ صغيرٍ، كانَ يُبْحِرُ في النيلِ المصريِّ القديمِ، التقيتُ بِها. كانتْ تجلسُ عن يساري وتُبْحِرُ عنْ يَميني، التَقَطتْني بِنظراتِها، لم أكنْ أَدري أنَّي سوفَ أُبْحِرُ بِها وأنَّها تحملُ كثيرًا من أسراري دَاخِلَها، رسمتْ لي قاراتٍ مجهولةً داخلَ عينيها، حَكَتْ لي عن رحلاتٍ بحريةٍ وأسفارٍ استوائيةٍ خَاضَتْها، وأنا أتعجبُ منْ دَوراني حولَ الكرةِ الأرضيةِ مع كَلماتِها، وهي تَدورُ وتَدور بِي بينَ الطُّرقاتِ وعبرَ المحيطات، لمْ يُسمَحْ لي بِتَعَلُّمِ العومِ في الصِّغَر، كمْ اكتفيتُ بالوقوفِ على حافةِالشاطئ. والأُنْثى السندبادُ في أعماقِ البَحْر الغَدَّارِ، أراها من بعيدٍ تَتَعاركُ مع موجةِ القرارِ وهي تُحِبُّ الاختيار.
زارتْني يومًا قبلَ انتقالي منْ قارةِ إفريقيا إلى قارةِ آسيا في صُندوقي المُغلقِ، جلستْ على مكتبي لِتملأَ استمارةَ ارتحالٍ داخلَ بحرٍ يهوى الأحوالَ، كانتْ عيناها تضحكان فرحًا لأنَّها سوفَ تبدأُ رحلةً أخرى داخلَ الفراغِ لتعرفَ لماذا لا يَسَعُها هذا الفراغُ!
كنتُ أجلسُ على الأرضِ أُراقبها وأبتسمُ لصندوقيَ المُحكمِ الإغلاق، فكمْ من السَّنوات وأنا مسجونةٌ فيه، أنتظرُ الدُولفين وهو يلعبُ في الماءِ ليعْثُرَ عليه بين المَوجات، لأُناديَه: اكسر الصُّندوق، اتركني أَذوقُ، أُريدُ الخَروج!
تركتْني الأُنْثى السندبادُ وارتحلتْ في البَحْر وأنا أَنظُرُ من فَتَحاتِ الصُّندوقِ وأُنادي، فتحادِثُني، تَنْصَحُني بالخروجِ منهُ، تبعثُ لي بِتعاويذَ لكَسْرِهِ وحكاياتٍ عن طَرائقِ ورحلاتِ كُلِّ من كسرَ صُندوقًا. يرتفعُ الموجُ بها وهي هناكَ في وسطِ البَحْر، لمْ أعدْ أراها من فَتَحاتِهِ، أسمعُ صوتَها وأرى صوُرَها فقط، وأحلُمُ بِالرحْلَةِ البَحريَّةِ لتنقلني خارجَ الآنيةِ، ومن يخرج هذه الفتاةَ المَنْسيَّةَ داخلَ صُندوق؟
في يومٍ عاصفٍ، الرياحُ شديدةٌ والعُمُرُ قصيرٌ، الأدغالُ كادتْ تَطير، تَتَزوجُ الأُنْثى السندباد وهي تعتقدُ أنَّ الحلَّ في قلبِ المُحال منْ رجلٍ يهدي إليها كُرَةً أرضيةً مخفيةً ويتركُ السندبادَ يُواجِهُ مصيرَ الرّحلات، والرَّحالةُ دومًا دونَ ثبات، ظهورٌ وغيابٌ، ترتحلُ الأُنْثى السندباد دونَ زَوج، دونَ قُبطانٍ للسفينةِ التي رَسَتْ لبرهةٍ في ميناءِ التَّجارِبِ والأَخطار.
كنتُ انتقلتُ داخلَ صُندوقيَ الأسودِ إلى خارجِ البلادِ لأسْكُنَ بيتَ القُبطانِ البريِّ في قارةِ آسيا، قُبطانٌ ماهرٌ في الإبحارِ وسلسلة الأفكار، سَلْسَلني سنواتٍ طويلة، فلمْ أجدْ مفرًّا منْ أنْ أسافرَ إليهِ داخلَ صندوقي لِيُحررني منْ طواغيتِ الإعصار، وهي تُحادِثُني عبرَ القَلْبِ، أحتاجُ إلى حُبِّ الأخيار، وأنا أَحتاجُها للازدهارِ وكَشْفِ الأسرار.
في ليلٍ ساكنٍ تُلملمُ الأُنْثى السندباد حقيبةَ الأسفارِ وتضعُ فيها حِكايات العُمر الدَّوار، أنتظرها في المطارِ بشوقٍ جارفٍ إلى الإبحارِ، وقدْ تَكَوَّرَتِ الكُرَةُ الأرضيةُ في بِاطِنها وبدأتْ علاماتُ الظُّهور، تَنْظُرُ إليَّ كغريقٍ في عُرْضِ البَحر، فهلْ أنا البَّحار؟؟ تَتَلَمَّسُ النجاةَ عبرَ قلبي وأتَلَمَّسُ الخُروج منْ صندوقي الأسودِ عبرَ هاتِفِها وصوتِ الرحَّال. ألبستُها ملابِسي الهندية التي قدْ اشتريتُها ولمْ ألبَسْها لاتِّساعِ السَّراويلِ السندبادِيَّة. وحينما استقرتْ داخلَ هذهِ الملابِسِ، أدركتْ أنَّي اشتَريتُها من أَجلها ومنْ أجلِ الرِّحلةِ التي تَنْتِظرني معَ السِّندباد.
تجوبُ الأُنْثى السندبادُ الشَّوارِعَ منْ حولي في نَفْسِ المدينةِ التي أسكُنها، أَلمحُها وأنا أعبرُ الطريقَ وهي تَرْحَلُ بين الشَّوارعِ والطُّرقات، على كَتِفَيها حقيبةٌ صغيرةٌ تَحوي خريطةَ الأسفارِ والأفكارِ، قدَاختارتْ أنْ تضعَ حقائبَ الأسفارِ في قَلبي هذه المرة، وقلبي يَتَمَنى وثَغْرُها يبتسمُ لتحقيقِ ما يَتَمَنَّاه القَلْبُ.
أمسكتُ يديَّ بيديها وعَبَرْنا طريقًا، أدخَلْتُها مكتبةً للورقِ والألوانِ، اشتريتُ لوحةً للرسمِ وألوانٍ للحكي، رسمتُ مركبًا صغيرًا ملونًا بألوانِ النِيل، والماءُ يجري من حوْلِهِ والموجُ يطيرُ، قلتُ: سأركبُ هذا المركبَ معك استعدادًا للرحلةِ القادمةِ والمغيب والخروج من الصُّندوقِ المريب، نظرتْ إليَّ بعينيها الغَارقتين في أحلامِ القريبِ، قالت: انتظري حتى أضعَ الكرةَ الأرضيةَ على بِدايةِ الأبجديةِ، سننتقلُ إلى حيثُ الأبدية. كان الحبُّ في عُيوني وعلى شِفاهي يحتاجُ مُتَرجِمًا منزوعَ الهوية!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى