إدغار آلان بو - الحفرة والبندول.. قصة.. ت: د. طارق علي عيدروس السقاف

الان بو.jpeg

كنت قد وقفت لساعاتٍ طوال ويداي مقيدتان على جانبيّ. وقد وصلت محاكمتي للنهاية وبدا أن القضاة كانوا مستعدين لإصدار العقوبة علي، وبعدها ُفك عني وثاقي وُسمح لي بالجلوس. كانت هناك أضواءً ساطعة أمام عيناي، ورأيت ملابس القضاة السوداء وسمعتهم يقولون بأنني يجب أن ُأعدم وبعدها تلاشت الأصوات، فلم أسمع أو أحس شيئاً بعد ذلك.
كان القضاة ما زالوا يتحدثون عني ويتناقشون بشأن كيفية إعدامي. لم أعد أستطع سماع أي شيء وبدأ جسدي يرتعد. أتت فكرة عجيبة إلى رأسي- وكانت مثل صوت الموسيقى- وهي فكرة الراحة الأبدية التي سوف أجدها في القبر. حملني رجال أشداء على ظهورهم ودخلوا بي دهاليز مظلمة ونزلوا بي إلى الأسفل عبر سلالم شديدة الإنحدار وكانت الدهاليز عميقة جدا . بعدها وضعوني على أرضية مسطحة وباردة وندية، فشعرت بالتعب و الخوف، بعد ذلك و بوقتٍ ليس بقصير شعرت بشيء يتحرك و أصوات ترن في أذناي، وكانت هذه الحركات و الأصوات نابعة من نبضات قلبي المتسارعة.
بعدها تذكرت القضية والقضاة الذين حكموا عليّ بالإعدام، واستطعت أن أحرك يداي وقدماي فلم يكن هناك حبل يربطهم ولم أفتح عيناي. كنت مستلقياً على ظهري وأردت أن أفتح عيناي ولكني كنت خائفاً من الرؤية، فقط كان هناك ظلاماً دامساً وناظلت مع شيئاً من الخوف وبعدها فتحت عيناي بسرعة، فلم أرى شيئاً سوى الظلام و الظلام وحده هو السائد في كل زوايا المكان. وجاهدت للتنفس، وكان الظلام كثقل يخنق أنفاسي، فسألت نفسي "أين أنا؟"، وفجأةً إعتراني رعباً هائلاً جعلني أهتز "هل أنا في قبري؟" "هل ُدفنت حياً؟" وقفت ومددت يداي فوق رأسي وانحرفت ببطء ويداي ممدودتان ولم ألمس شيئاً، ومشيت إلى الأمام قليل ولم يكن هناك شيئاً يعترض طريقي، فشعرت بتحسن نوعاً ما وقلت مطمئناً نفسي "لوكان قبراً لما كان بحجم هذه الغرفة الكبير" واصلت المسير ببطء في الغرفة حتى لامست يداي الحائط وكان مثل الأرضية مسطحاً وبارداً وندياً.
بعدها قررت أن أحاول قياس الغرفة، كنت البس قميصاً طويلاً خاصاً بنزلاء السجن فقطعت قطعة طويلة ظيّقة منه، ووضعت أحد طرفيها على الحائط ومددت الطرف الأخر على الأرضية وكانت فكرتي هي أن أدور حول الحيطان واعد خطواتي حتى لأعود لقطعة القماش، ولكنني بعدها انزلقت وسقطت بسبب الأرضية الندية ولم أكن قد سرت سوى ثمانى خطوات، فكنت مرهقاً جداً بحيث لم أتمكن من النهوض ثانية. ربما أنني قد نمت لبعض الوقت، وعندما صحوت ومددت يداي شعرت بقطعةٍ من ا لخبز وجرة بها ماء بالقرب مني, أكلت وشربت بنهم وبعدها ذهبت باتجاه الحيطان. كنت قد عددت خمسة خطوات عندما لامست قدمي قطعة القماش ثانية، لهذا كان طول الغرفة حوالي ثلاثين مترا.
أردت بعدها معرفة شكل الغرفة (السجن) ، فبدأت بالمشي ببطء حول الأرضية وبعد عشر خطوات انزلقت وسقطت للمرة الثانية، لكن هذه المرة كنت ُمغمى عليه مع مزيج من الخوف. وكان جسدي ملقى أسفل الأرض ولم يكن أسفل رأسي شيئاً . برزت حولي رائحة غريبة كرائحة الأوراق الدابلة. مددت ذراعي، فعرفت بعدها بأنني كنت قد وقعت على شفا حفرة, فأخدت حجراً ورميته أسفل الحفرة لأعرف مدى عمقها، وبعد عدة دقائق سمعت إرتطام الحجر بالماء فعرفت على الفور بأنها حفرة عميقة جداً. كان هناك ضجيج على السطح وضوء سريع فجائي مسلطاً علي بعدها لم أرى سوى الظلام ثانية.
الأن قد عرفت جزءً من النهاية التي أعدها القضاة لي لإعدامي. إن لم إنزلق وأسقط، لكنت قد واصلت المسير بإتجاه الحفرة وسقطت فيها ولكنت قد مت هناك ببطء شديد، ومن ذا الذي سيعلم مصيري بعدها. إن أولئك القضاة القساة ُيحبون ذلك النوع من الإعدام السري الفجائي. حسناً لقد إستطعت النجاة من موت محقق ببطء داخل تلك الحفرة، ولكن ماذا هناك قد تم التخطيط له لأجل قتلي. تراجعت خائفاً باتجاه الحائط وسألت نفسي "أيوجد هناك حفر أخرى في هذه الغرفة؟" ، بقيت متيقظاً لفترةٍ طويلهً، مفكراً بالخطر الذي يداهمني، اخيراً أستلقيت نائماً على أرضية الغرفة، وعندما أستيقضت وجدت هناك المزيد من الخبز وجرة أخرى من الماء بجانبي. وكان طعم الماء غريباً،ولكني كنت عطشاً جداً فشربته في الحال.
من المرجح أن هناك شيئاً في الماء ليجعلني أنام، ولأنني لم أستطع مقاومة النوم، فمن المرجح أيظاً أنني نمت لساعات طوال. عندما فتحت عيناي للمرة الثانية وجدت أن الغرفة لم تكن مظلمة، كان هناك ضوء ساطع مسلط عليها ولكنني لم أتبين مصدره، فوجدت بأن الغرفة كانت مربعة الشكل ولم تكن حيطانها من الحجر وإنما من المعدن وكانت هذه الحيطان كبيرة و مسطحة وبها رسومات شيطانية بشعة ُبهتت ألوانها وبالرغم من ذلك كانت هذه الرسومات لاتزال واضحة. وكانت أرضية الغرفة من الحجر واما الحفرة فكانت في منتصف الحجرة، ولم يكن هناك ُحفر أخرى. وبالرغم من صعوبة حركتي فقد رأيت كل ذلك في لحظات قليلة.
كنت مستلقياً على ظهري في سرير منخفض واستطعت تحريك رأسي و يداً واحدة فقط ، أما باقي جسدي فقد كان مربوطاً بإحكام بحبل طويل على السرير، وأستطعت للتو من الوصول لطبق من اللحم كان بالقرب مني ,وكنت عطشاً أكثر من ذي قبل ولكني لم أجد جرة الماء. كان إرتفاع الغرفة حوالي 10- 12 متر ، وكذلك السطح فقد بدأ هو الأخر مصنوع من المعدن وبه صور بشعة ، وكانت هناك صور بشعة على السطح فوق رأسي تماماً وكانت هذه الصور - كما بدا لي- تحمل أداة معينة تشبه بندول الساعة.
بعدها بلحظة لمحت بأن البندول كان يتحرك ببطء إلى الخلف وإلى الأمام. ورأيت القضيب القصير بانه لم يكن جزءً مثبتاً في الصورة، وراقبته لبضعة دقائق حتى أتى صوت من الحفرة جعلني أنظر تجاهه، فقد رأيت الكثير و الكثير من الفئران الكبيرة تخرج من جوف تلك الحفرة وعبرت أرضية السجن تجاهي وكانوا جميعهم يركضون بسرعة كبيرة بإتجاه طبق اللحم وكانوا جياع على مايبدو , فبدأت بضربهم بيدي حتى يبتعدوا عني.
مرت ساعة أو ربما أكثر قبل أن أنظر مرة ثانية الى سقف الغرفة. وأصبحت حركة البندول أقوى من ذي قبل وأسرع، وكان البندول يتأرجح بمسافة متر تقريباً في الإتجاهين الأمامي و الخلفي. ولكنني كنت خائفاً بشيئان اخران قد لاحظتهم ، كان البندول أقرب الي من ذي قبل وطرفه الأسفل كان عباره عن سكيناً طويلاً حاداً وكان طرفه المعدني اللامع مقوساً الى أعلى وبدأ يصدر أصوات خافتة نتيجة تأرجحه في الهواء. كيف أستطيع أن أصف شعوري الآن؟ استلقيت لساعات طوال لأراقب وأعد التأرجحات لتلك السكين البشعة.
وكانت الحركة السفلية للسكين تجاهي بطيئة جداً ، ولكن بدأت بالإقتراب مني شيئاً فشيئاً ، ولكن مع نهاية حلول اليوم الأول ، كانت السكين تبعد حوالي المتر عن سقف الغرفة ، وطوال الليل وأنا أسمع الصوت الخافت لهذه السكين في الهواء . وخلال الليل كان عليّ أيضا أن أبعد عني تلك الفئران اللعينة. وفي الصباح كانت السكين قد إقتربت متراً اخر نحوي ، ومرت الايام والليالي ، كنت تعب جدا وأكاد أجن من شدة الخوف ، فلم تتركني الفئران لأنام . والأن قد أصبحت السكين تتأرجح بالقرب مني بحيث أني بدأت أشعر برياحها . وكانت رائحة معدنها شديدة على أنفي ، واستلقيت هناك يائساً و......... وأبتسم الموت.
نمت أو بالأحرى ُأغمى علي لا أعلم في الواقع ، وعندما فتحت عيناي وجدت أن الفئران كانت قد أكلت معظم طعامي من اللحم ، فأبعدتهم عني وأخدت أخر القطع لي ، وبمجرد أن وضعت بعض قطع اللحم في فمي، جائتني فكرة ملهمة (بارقة أمل) وقد جاهدت لتحقيقها، وكان البندول يتحرك حول جسدي وفوق قلبي مباشرةً ، وكادت السكين تلمس قماش قميصي وفي الحركة التالية سوف تقطع جزء منه وبعدها جزءً اخر أعمق وهكذا الى أن تقطعني إرباً إرباً ، وبالرغم من الحركة القوية والسريعة للسكين ، فإنها لن تقطع جسدي لبضعة دقائق على الأقل ، وراقبتها وهي تسقط نحوي ، وكانت تتأرجح بإتجاهي وتقترب مني أكثر و أكثر الى أن سمعت همسات الموت .
وقد قاومت الحبال التي تعيقني وحركت رأسي من جانب لأخر ، وفتحت وأغلقت عيناي حتى لاأرى هذا المشهد الرهيب حتى أنني تمنيت أن أموت بسرعة . فجأة شعرت بهدوء وكانت أفكاري واضحة . الحبل الذي كان يقيدني كان في قطعة واحدة ولم يعبر صدري ولذلك فإن السكين لن تقطع الحبل، ولكن ان ُقطع الحبل باي شيء فإنني أستطيع أن أحرر نفسي بسرعة.
وبعد ذلك أصبحت السكين قريبة جداً مني . إنبلج الأمل فجأة داخل صدري وبشكل قوي، وصرخت قائلاً "الفئران.....الفئران تستطيع مساعدتي" حاصرتني الفئران حول سريري لعدة أيام بإنتضار موتي. لقد تسلقت حولي وقرضت يدي وقد حاولت إبعادهم عني ، لقد كانت الفئران مجنونة وجائعة ، فإذا لم أستطع الحراك من على السرير لكانت الفئران قد وصلت لوجهي. نظرت إلى الطبق ، وكانت به ثلاث قطع من اللحم لا تزال طرية ولكن لها رائحة كريهة. التقطت قطع اللحم هذه وقمت بفركها بشدة في ثلاث أو أربع جهات من على الحبل الذي يقيدني، بعدها أرحت ذراعي اليسرى على السرير بدون حراك. قفز فجأة قائد الفئران نحو سريري وبدأ بشم الحبل فتبعه الآخرون كما خرج الكثير من الفئران من جحورهم وصعدوا حولي وفي لحظات قليلة كان هناك حوالي خمسون إلى ستون فأراً فوقي فأغلقت عيناي.
لم يرعبهم تأرجح البندول مطلقاً، فيبدوا أن الفئران قد اعتادوا عليه وقد مزقوا الحبل في جهة المكان المفروك بالحم، وكان وزن الفئران ثقيل فوق جسمي وكنت أتنفس بصعوبة وشعرت بهم حول عنقي كما أن شفاههم الباردة قد لامست شفتاي ولكنني بقيت ثابتاً، فقلت لنفسي "لا يمكنني الصمود لأكثر من دقيقة أخرى؟" بدأ الحبل بالتزحزح وقد ُمزق إلى نصفين ثم ثلاثة وسمعته يتمزق ومرة أخرى تمزق أكثر ولم أتحرك من مكاني كي لاتهرب الفئران ، وقطعت السكين قميصي ولكنني هذه المرة لم أنتظر لحظة أخرى، فرفعت ذراعي ، فجرت الفئران ، فسحبت بقوة ما تبقى من الحبل. اندفع السكين بقوة نحوي فشعرت بألم حاد حول صدري فقفزت مسرعاً من على جانب السرير إلى الأرض. لقد تحررت. لقد نجوت من البندول القاتل.

كنت حراً نعم ،و لكنني مازالت في السجن ، وبمجرد أن غادرت السرير، فإن البندول الرهيب قد توقف عن التأرجح ، فقد ارتفع بسرعة عالية إلى السطح مرة أخرى. كان هناك أحد ما على السطح يراقبني وقد شاهدني عندما قفزت من على السرير قبل أن يمزقني ذلك البندول الرهيب ولم يكن لدي أدنى شك بأن هناك بعض الألاعيب الشيطانية القاتلة بانتظاري. كان هناك شيئاً مختلفاً في الحيطان المعدنية للغرفة ولكني لم أستطع إدراكه، وكان الضوء في الغرفة أسطع من ذي قبل.
عندما نظرت حولي متلهفاً استطعت معرفة وتحديد مصدر الضوء الساطع. لقد كان يأتي من فراغاً ضيقاً بين الحائط والأرضية، وهذا الفراغ بدأ بالتحرك حول الغرفة وبدأ أن الحيطان بدأت بالانفصال عن الأرضية، وكانت الصور البشعة حولي ساطعة تشتعل بالنار ، وعندما رأيتهم للوهلة الأولى بدا لونهم باهتاً ولكن الآن بدأ وكأنهم أكثر حيوية وبريقاً من ذي قبل ، وأضاءت العيون بنار مشتعلة حولي وبدأ أن الغرفة (السجن) قد أصبحت ساخنة جداً ومفعمة برائحة الحديد الساخن وتنفست بصعوبة، ففكرت بالحفرة واتجهت إلى طرفها فلربما يكون قاعها أبرد ، ولكنني وبمجرد أن نظرت إليها انتقل الضوء الملتهب من أعلى الرسوم البشعة باتجاه قاع الحفرة ليسخن هو الآخر ، ولقد رأيت كل ذلك بأم عيني ، "آووه هؤلاء القضاة القساة، أستطيع أن أتحمل أي عقوبة إعدام ، ولكن ليس أن أموت في الحفرة مشوياً ، فهربت وصرخت وغطيت وجهي بيداي، وكانت الغرفة أكثر حرارةً من ذي قبل .
فتحت عيناي وكانت الحيطان كجمرة ساخنة ، وكان هناك حائطان متقابلان يتحركان باتجاه الحفرة وكان الحائطان الآخران يتحركان بشكل عكسي ، فكنت داخل فرن والذي بدا يتحول إلي شكل مسطح. ركضت باتجاه أحد الجوانب وأحرقت نفسي، فصرحت بأعلى صوتي "أي موت؟ ولكن ليس الموت مشوياً على الحفرة، فوجدت أن الحيطان الملتهبة كانت تتحرك باتجاهي حتى تدفعني إلى الحفرة ، وقد جاهدت لابقى بعيداً عنها ولكني هل أستطيع مقاومة هذه الحيطان الملتهبة لفترةٍ طويلة؟ أخيرا أدركت بأنني لا أستطيع ، فإما أن تشويني الحيطان الملتهبة أو تلتهمني الحفرة المشتعلة.
وبدأت الحيطان تدفعني نحو أطراف الحفرة، وكان الأمل قد نفذ مني ، فتوقفت مقاومتي ، فنظرت إلى أعلى ، وصرخت صرخة عالية مدوية ، فسقطت قدم من قدماي باتجاه الحفرة الفرن. أغلقت عيناي ، وفجأة سمعت أصواتاً. كانت هناك صرخات صاخبة واطلاق نار، فتراجعت الحوائط الملتهبة إلى الوراء ، وسحبتني يداً قوية لرجل إلى أعلى مباشرة أثناء سقوطي إلى الحفرة. لقد دخل الجيش الفرنسي المدينة. يا إلهي!! الحمد لله . لقد تم إنقاذي.



.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى