محمد البساطي - محاولة.. قصة قصيرة

عادة أراهما في حوش البيت، الولد يكسوه الشعر الأسود يحبو مهللا، وامرأتي تصفق بيدها ضاحكة وصدرها العاري الممتلئ يبدو من فتحة الجلباب. الولد يطلق صيحة من حلقه، ويقذف بنفسه على كومة قش، يتمرغ مرة وأخرى، ثم ينهض مندفعا إليها.

الحوش مسقوف حتى منتصفه بالجريد والخيش، النصف الآخر - من ناحية البيت - ترك مكشوفا تغمره شمس الصباح الدافئة حيث تتربع امرأتي - في مثل هذا الوقت - أمام الفرن، وأحيانا أمام طست الغسيل تنفض يديها من الدقيق أو رغوة الصابون، الولد مقبل نحوها وقد علقت أعواد القش بشعر جسده، عيناه الصغيرتان الحادتان على صدرها، تهزه خفيفا بيدها، أسنانه ناصعة البياض وسط الشعر الأسود الكثيف الذي يغطي وجهه، يسترخي في حجرها، يداه تمسكان ثديها وقدماه تحكان الأرض، كان يلفظ حلمة الثدي فجأة مستديرا بوجهه نحوي كأنما أحس بي واقفا على عتبة الحوش، يشب قليلا بصدره مرتكزا بكوعيه على فخذها، ثم يعود مرة أخرى إلى ثديها.

يوم ولادته اندفعت الداية من الحجرة تزغرد، أقبلت نحوي:

- بركة. من أولياء الله.

الرجال والنساء في الحوش سبحوا بحمد الله وقالوا: الشيخ أحمد، نسميه الشيخ أحمد، وهو الآن في الخامسة من عمره، لا يزال يمتص ثدي أمه الذي جف من سنوات، يحلو له في لحظات مرحه أن يحبو متجولا في الحوش ممسكا بالأشياء المستديرة يقضمها بأسنانه ثم يرمي بها حين لا يستسيغها، يتوقف عن الحركة حين أمر به، يظل محدقا بعينيه اللامعتين مترقبا، لا يقترب مني للعب كأنها يحس بنفورى، وحين تتدحرج كرته الصغيرة نحوي، يظل واقفا مكانه حتى ابتعد.

الأولاد في الحارة لا يتوقفون طويلا أمام غرائب الأمور، كانوا ينادون عليه للعب، لم يحدث أبدا حتى في عراكهم أن أشاروا إلى خلقته، كانوا فقط يعايرونه بأنه لا يزال يرضع ثدي أمه، وحين يرونه يتوقف عن اللعب ليحك جسده في شدة يجلسونه على المصطبة ويرفعون جلبابه ويتجمعون حول جسده باحثين عن الحشرات التي تسللت داخل شعره الكثيف.

كانت أمه أيضا تمدده بعد الرضاعة في حجرها، وتمشط شعر جسده بالفلاية، وأحيانا تغطسه في مياه الطست حتى تطفو الحشرات، ويخرج من الطست والماء يقطر منه، ويبدو شعر جسده الأسود أملس ناعما يتألق في ضوء الشمس حيث وقف ليجف.

يأتي الحلاق كل يوم جمعة قبل الصلاة، يجلسه على حجر مسطح في الحوش يغطي جسده برغوة الصابون، ويجرى بالموسي من رأسه إلى قدميه، حفيف الموسي ثقيل، الولد ساكن، والحلاق متقرفص يدور حوله، عندما يأتي إلى وجهه تبطئ حركة الموسي، يمر به خفيفا حول عينيه وشفتيه.

يقف الولد بعد ذهاب الحلاق متأملا جسده كأنما يراه غريبا عليه، يتحسسه مرة وأخرى، ويميل محاولا أن ينظر إلى ظهره، يجري إلى أمه، تقبل بطنه وتضحك.

عندما ينبت الشعر لا يتحمل الجلباب على جسده، وتكتفي أمه بسروال قصير يتجول به طوال الوقت ويده تحك كل مكان في جسده، ويندفع إلى أمه من حين لآخر لتحك ظهره.

أصحو في الليل على صوت غناء خافت، أمه تهدهده، هو مكور يرتعش في حضنها، تلك الليالي المقمرة، يسطع القمر مضيئا الحوش، ينعكس الضوء الفضي على زجاج النافذة، تتماوج ظلال خفيفة على حائط المندرة، تظهر وتختفي، انتبه للسكون العميق في الخارج ونقيق ضفادع بعيدة، عينا الولد تلمعان في العتمة الخفيفة، يحدق نحوي، أنا راقد على الكنبة المواجهة للسرير حيث ينام مع أمه، أدير وجهي للحائط.

يأتي المطر ويذهب، يستمر أياما، يغرق الحوش، تصفو السماء أحيانا، لمعة ضوء القمر على الوحل، الفجوات الممتلئة بالمياه، يقف الولد على عتبة الحوش، ترقبه امرأتي من خلال باب المندرة المفتوح، تتقلب في دفء الفراش تهمس: أرأيت؟ الشعر يدفئه.

عافت نفسي المرأة، كانت تذهب وتأتي وتهرول خلفه بالطعام وصدر جلبابها مفتوح دائما، ترقده على فخذيها وتهدهده حتى ينام ويده مدسوسة في صدرها، وفي الفراش تأخذه إليها وتظل وقتا تقبل رأسه وتلمس ظهره، أنظر إلى بطنها العارية وأقول، كيف امتلأت بمثله؟، ترقبني بجانب عينيها وهي تمشط شعرها المبتل، وتستدير محدقة في وجهي، أكون راقدا على الكنبة والولد يغط في النوم، تقف أمامي وقد شدت الجلباب الخفيف حول جسدها فبدت استدارة بطنها كأنما لتثيرني، تلك البطن التي كرهتها أجدني أنظر إليها متعجبا كأني ألومها لأنها حاولت.

هي أو غيرها، أراهن في زحمة السوق، وجوها جميلة مبللة بالعرق، كنت أقول إنه لا شيء يجذبني مثل وجه جميل مبلل بالعرق وإجهاد خفيف بعينيها وكأنها تشتاق لظل وماء يترقرق، أمر بهن وأرى العرق على الوجوه خطوطا وسط التراب اللزج، وماذا يحملن في بطونهن؟ كانت تمسك بوجهي بين يديها وتلصقه ببطنها المنتفخة، وأصغي لحركة الولد داخلها تضرب في كل جهة، شهور طويلة وأنا أصغي، أرقد وأصغي وصوتها يهمس ناعما: أتسمعه؟

وأجدني مشدودا للصوت المكتوم في الداخل، لا شيء يثير غضبي، لا أحتد أبدا، قد يعلو صوتي وسرعان ما أتمالك نفسي، أرى الأمور تسير دون ضجة، يوما بعد يوم، يكتمل العام ويبدأ آخر، أعود من المدرسة أجد طعامي على المنضدة داخل المندرة مغطى بالفوطة، وأسمع ضحكتها في الحوش، فراشي مرتب، جلبابي معلق، كل أشيائي في مكانها، أقول لنفسي: وماذا ينقصني؟.

طبعي هادئ كتوم، لا أحد يستطيع أن يخمن ما يدور بداخلي، اعتدت أن أتحدث مع الناس وأفكر في نفس الوقت بشيء آخر، أقف أمام التلاميذ في الفصل أشرح الدرس وأرد على أسئلتهم، وأتخيلهما هناك في الحوش يلعبان، تجري وراءه لتمسك به، لمعة الفرح تتألق على وجهها، هو في سرواله القصير توقفه وتزيل ما علق بشعره من قش وقاذورات، تلمح عيناه السلم مسندا إلى الحائط، ينزلق من بين يديها مهرولا إليه، يتسلقه إلى السطح، يدلي جسده ممسكا بعرق خشب بارز من السقف، يتأرجح وهي تصيح وتولول باسطة ذراعيها.

تسألني: لم لا تلحقه بالمدرسة؟

المدرسون أيضا يسألونني، أقول لنفسي ألا يبدو لهم الأمر غريبا؟ أيجاملونني؟ منذ سنوات بعد ولادته بشهور، كانت تصلني النكات التي يتداولونها، وقد ظلوا وقتا حائرين في تحديد نوع الحيوان الذي ضاجعته امرأتي، فلا توجد قرود بالناحية، والآن يلحون لألحقه بالمدرسة، وربما بدا لهم موقفي غريبا، أنا الذي اشتهيت الولد، ولشهور ثلاثة منذ سمعت حركته في أحشائها، وأنا أتخيل اليوم الذي أصحبه فيه إلى المدرسة، يتبعني في الطريق والحقيبة مدلاة بجانبه، أسير ويسير على بعد نصف خطوة مني، أفتح الشمسية فيلتصق بي ليجمعنا الظل، يوسع من خطوته ليظل بجواري، حين يرى كلبا ينبح يتعلق بملابسي، أتخيله دائما يخشى الكلاب النابحة، أقول له لا تهتم بها فتبتعد، في وقت الفسحة يندفع إلى حوش المدرسة باحثا عني، أكون واقفا مع المدرسين، أحس به يمسك يدي ويقف بجواري صامتا.

كان اليوم حارا، والشمس تغمر حوش البيت من الصباح الباكر، والدجاجات الصغيرة ترقد في الظل بجانب الدار، والولد أمامها يقفز بسرواله القصير الذي صنعته أمه من جلباب قديم لها، ناديته ليتبعني، ثم انتبهت حائرا، كان الأمر مفاجئا لي، فلم يحدث من قبل أن أخذته معي إلى الخارج وكأن شيئا كان ينمو داخلي دون أن انتبه إليه، والآن وقد تقرر الأمر، أحس بالرعشة التي غمرتني قد اختفت والعرق يبللني، كنت منزويا بجانب الباب، بعيدا عن نظرات امرأتي التي أخذت تبحث عني والولد يهلل حولها مشيرا ناحيتي.

وكانت تلبسه جلبابا، ثم التفتت وتلاقت نظراتنا، هل كانت تخمن ما يدور بنفسي؟ مددت قدمي في وجه القط الرمادي صديق الولد، وكان يحاول الدخول، إنه أيضا كان يظهر في تخيلاتي في ليالي الأرق الطويلة، أراه رابضا على السور، يتبعني مواؤه وأنا أتسلل إلى الحوش وأقف عند رأس الولد ويكون راقدا على بطنه فوق كومة القش، وينفض رأسه ملتفتا نحوي، يبادلني النظر لحظة ثم يزحف مبتعدا في هدوء، ويظل جسده متحفزا كأنما شم الخطر.

سرت وسار الولد بجانبي، مد خطوته ليظل بجواري، سألني إن كان جلبابه نظيفا؟ قلت له إنه نظيف، تركنا البلدة وراءنا، الولد من حين لآخر ينظر إلى وجهي، ربما أراد أن يسأل عن وجهتنا وخشي أن يغضبني ذلك.

وقفنا عند الهويس، مياه النهر تموج قاتمة وتلطم حاجز الهويس الحديدي، الولد بجانبي يحكي عن أصحابه الأكبر منه الذين يأتون في الظهيرة للاستحمام ويتعلقون بحاجز الهويس، ويقفزون ويمرون من تحته، وهو حين يكبر سيأتي معهم، أنصت قليلا لضجة المياه تحت قدمي، اتلفت حولي ولا أرى أحدا، الولد ما زال يحكي عن أصحابه ويقذف بالحصى إلى المياه، أسمعه يضحك، ضوء الشمس من بين فروع الشجرة يغشى عيني، صوت ضحكته كأنما ابتعد كثيرا، التفت حولي مرة أخرى، أدفعه، أسمع - وأنا أستدير - الصرخة الخافتة وصوت ارتطامه بالمياه، هرولت مبتعدا، ضجة المياه تطن في أذني، الشمس تؤلم عيني.

عندما اقتربت من البلدة أبطأت من خطوتي، نظرت ورائي ورأيته قادما، كان عاريا يعصر جلبابه توقف حين رآني أنظر إليه، استمر يعصر جلبابه، تأملته قليلا، كنت هادئا، عدت إلى السير وكان يسير ورائي.


محمد البساطي
ديسمبر 1991

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى