بانياسيس- ك - قصة قصيرة

لكل فقاعته ؛ الفقاعة المثالية ؛ الكاملة على نحو مطلق. هكذا أصبح عليه حال الجنس الرابع في الألفية الثالثة. فقبل سبعمائة عام ؛ قرر الجنس البشري السابق أنه قد آن الأوان لينهي مهزلة البؤس الانساني. شنت الشعوب هجوما كاسحا على كل الأقلية المسيطرة ؛ الشركات العابرة للقارات على نحو خاص ، وانتهى احتكار شركات الأدوية والأسلحة والتكنولوجيا ؛ لقد كان ذلك بفضل الجد الأكبر للسيد (ك) القابع هناك الآن في فقاعته.
الجد الأكبر الذي قاد ثورة الجنس البشري القديم ؛ معلنا نهاية الاحتكار وسيطرة الأقلية ، على مقدرات الانسانية. ثم جمع كل علماء العالم ليجدوا مخرجا من مأزقهم ككائنات لا يمكن أن تتطور الا عبر التباين في القدرات والقوة والنفوذ.
ك داخل فقاعته المثلى ؛ مغمضا عينه الذكورية ؛ تاركا عينه الأنثوية منفتحة نصف فتحة...لا يشغله سوي قضاء وقت ممتع في التنقل الهلوغرامي في انحاء الكواكب وهو تنقل آمن جدا ؛ وعندما يمل يعود ليدرس التاريخ فتستدعي إحدى عينيه مسيرة الجنس القديم ، ويرى جده البشري واقفا على برج عال ؛ والبشرية جمعاء تحيط به وتشعر بالحب هاتفة: (مساواة.. إخاء ..حرية..)
لقد وضع الجد برنامجا طموحا لتطوير تلك الرغبات ... انتهى بتجريف راديكالي للماضي. يخطب الجد الأكبر:
(لماذا لا نتساوى... لأننا منقسمون إلى ذكور وإناث ... إذن فلينته كل هذا الانقسام)...
تصيح الجماهير هاتفة...
(مساواة ..مساواة ..مساواة)..
وخلال عشر سنوات فقط تم وضع برنامج طموح لتغيير جينات الجنس البشري ؛ بحيث يكون كل فرد منهم خنثويا..
يصيح الجد الأكبر:
(مؤسسة الارتباط بين الذكور والاناث التي تعزز تبادل الاضطهاد ...لقد انتهت... الآن كل فرد هو الانسان الكامل.. والانسان الكامل لا يمكن أن يحمل اسما ، لأن الاسم يحدد الانسان...والتحديد اخلال بالمساواة)..
يصيح الجد:
(كلكم ستحملون اسم ك).
الجنس الخنثوي هو الكمال وليس العكس. وهو الذي يملك أدواته الكاملة بحيث لا يحتاج فرد لآخر.
يقول الجد الأكبر:
(لا مساواة ولا إخاء ولا حرية..ما دمنا مقيدين ببعضنا البعض .. ما دمنا نحتاج لبعضنا البعض..فالحوجة نقص ..والنقص عبودية...).
فيهتف جميع الخنثويون:
(مساواة...إخاء...حرية...حرية.. حرية..)..
ينصب الجد الأكبر ذراعه مستقيما أمامه ويصيح:
(لا مساواة مع عاطفتنا .. فالعاطفة نقص...والنقص عبودية)...
فتهتف المليارات حول الكوكب:
(حرية..حرية..حرية..)
يقول الجد:
(الايدولولوجيات منبت الشر...الايدولوجيات استقطبت الاغبياء لمصلحة الأذكياء...فكيف نكون أحرار...)..
تهتف الحشود:
(حرية...حرية..حرية..)
وخلال عقود تم اختراع الفقاعات التي تضمن لكل خنثوي فردانيته المطلقة ، فداخل فقاعته كل مصادر الحياة ومتعها ، الفقاعة لا تحوج أحد للخروج خارجها ولا الاحتكاك بأي خنثوي آخر ، وقد تم تطويرها بشكل مذهل خلال عقود متتابعة حتى بلغت الكمال المطلق.
(ما هو العمل ؛ العمل هو أن تكون خاضعا للآخرين.. العمل هو أن تهدر طاقتك من أجل الآخرين لكي تنال بضعة اموال لشراء الطعام والشراب..أي عفونة هذه العبودية المقنعة... لا عمل بعد اليوم)..
يقول الجد ؛ فتهتف الجماهير:
(مساواة ..إخاء .. حرية...حرية..حرية..حرية..)..
ينتشي الجد بجنون وتنجرح حنجرته وهو يصيح:
(السلطة.. العبودية الكبرى.. وخدعة الديموقراطية... دكتاتورية الاغلبية...وهي في الواقع دكتاتورية الأقلية الذكية ..دكتاتورية الأغنياء ووسائل الاعلام...دكتاتورية من يعمدون الى تجهيلكم....فلستقط السلطة...)..
تهتف الحشود..
(حرية ..حرية..حرية..حرية..)...
وخلال عقود تمكنت الفقاعات من منح كل خنثوي سلطته الكاملة على نفسه ومقدراته ، وانتهى عهد الحكومات والسلطة.
اغمضت العين الانثوية وانفتحت العين الذكورية بالتدريج.. كان نومها هادئا بلا أحلام ولا كوابيس فالخنثويون لا يحلمون..السيد ك سيد فقاعته.. رئيسها ومليكها .. لم يكن يملك ما يفكر فيه... فكل الإجابات توفرها له الفقاعة ، وخلال سنوات عمره الأربعين طرح الآلاف من الأسئلة ونال إجابات مقنعة يثق فيها ؛ واليوم وقد بلغ الأربعين انتهى نموه هاهنا واكتمل تكوينه واستعد للخلود... مات جده الأكبر فهو لم يشهد عصر نهاية الموت أو عصر الخلود ...
(الانسان القديم كان مصدر ازعاج لنفسه وللآخرين...ولكنه كان مجبرا على الازدحام بهم .. لقد كان البشر يتبادلون القهر صراحة وضمنا... النقود مصدر البلاء .. الشيطان المريد...كانت تفرض على كل منهم الخضوع للآخر...لا نقود .. لا شيطان...)
تهتف الحشود:
(حرية ..حرية..حرية..)
يقول الجد:
(كيف نكون أحرارا ونحن خاضعون تماما ... كانوا يخضعوننا بالوهم الذي يسمونه فنا .. الفن كان وسيلة لتدمير إرادة القدرة..الفن هو العائق لعزلة الانسان الكبرى..لحريته الكبرى..الفن هو الشر... فبه لا مساواة ولا إخاء ولا حرية).
تزداد لوثة الحشود صراخا:
(مساواة ..إخاء ... حرية... حرية ..حرية..حرية..)...
السيد ك يستعد لخلوده داخل فقاعته .. ويطلب منها أن تطور مزيدا من التسلية النافعة... ، وتبدأ الفقاعة بالتفكير في تجديد قدراتها ، تقول بصوت خنثوي هو أيضا:
(هناك لعبة الأحلام سيدي..)..
السيد ك ينتظر اكمال حديثها:
(ستنام وتحلم ..هذا كل شي)..
يغمض السيد ك عينه الذكورية الى جانب عينه الانثوية المغمضة مسبقا ... وينتظر الحلم..
يرى السيد كاف نفسه في أدغال أفريقيا التي كان ينتقل اليها هلوغراميا فقط.. لكنه الآن داخلها حقا... يشم رائحة الشجر وفطر المستنقعات وروث الأسود ، فيسير بين الاشجار في صباح مشمس... يسير ويسير ، باحثا عن مخرج من متاهته ، فينبض قلبه بعنف حين يلمح طريقا من اوراق الشجر قد مر به بشر من قبل...يتبعه نحو الشرق حيث هناك شمس تنتصب على الأفق الشرقي ... وبعد مسيرة قصيرة يجد اكواخا من الخوص .. واطفالا ونساء ورجالا عراة...الرجال يحملون حرابا رقيقة القد ، وحادة الذؤابة ، النسوة يطحن الدقيق والاطفال يحلبون بقرات عجاف...يتسمرون جميعهم ويثقبونه بنظرة فاترة...يعبرهم ببطء وحذر ، وهم لايزالوا متسمرين ، ثم يحث خطاه قليلا حتى نهير صغير... وعلى ضفافه تزاحمت مراكب الصيادين...يتوقف جميعهم عن الصيد ويتجمد المشهد .. فيدفع قدميه بتحد ويعبرهم ماضيا باتجاه الشمس...تحيط به سنابل القمح فجأة ... يرى فتيات يحصدن السنابل .. يحملق فيهن فيدرن رؤوسهن نحوه ثم يتجمدن تماما... فينطلق نحو الشمس...
وعلى الأفق .. تبدو هياكل رمادية لابراج مرتفعة.. يدلف الى المدينة الضاجة بالسيارات والمشاة والكلاب ... يرفع راسه ويحملق في ناطحات السحاب الشاهقة...يشعر باضطراب .. ويصيح بخوف:
(أريد أن استيقظ...أريد أن أستيقظ..)..
تنفتح العين الأنثوية أولا بسرعة وتتردد الذكورية قليلا قبل أن تنفتح ببطء... تنسكب دمعتان متلألأتان من عينيه...ويشعر بالاغتراب ..
(سيدي...يبدو أن لعبة الأحلام لم تعجبك...)...
(لا يا فقاعتي ...لم تعجبني...أعيدي لي افلام خطب جدي الأكبر...حتى لا أفقد عزيمة الخلود....)...
(حسنا سيد ك )...
يرى جده الأكبر يحرك يديه مستحثا الجماهير ؛ التي تتجاوب معه بصيحات هادرة:
(حرية..حرية...حرية..حرية..)..
يبتسم السيد ك ...ويطمئن...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى