جعفر الديري - عبدالكريم البوسطة اتّخذ الطبيعة مرسَمًا وحوارًا

رغم تراجع مستواها، بفعل أسباب عدّة، تبقى الحركة التشكيلية في البحرين، نتاج تأسيس البذرة الأولى للرواد الذين بدأوا شيئًا اسمه الرسم، والرسم على لوحة الحامل تحديدًا. فهم الذين حملوا مسئولية الحركة وتحملوها.
في الوقت نفسه، لم يعش هؤلاء الفنانون داخل المراسم الخاصة بهم، بل اتخذوا من الطبيعة المرسَم والحوار، متعلمين منها كل ما يحتاجه الفنان من ألوان وظلال، إلى منظور إلى نسبة إلى تكوين إلى تصميم.
من هؤلاء الفنانين انطلقت شرارة الحركة التشكيلية، في الوقت الذي كانوا فيه يعانون من بعد المناطق التي كانوا يقصدونها والنظرة الدونية والتوجس الذي كانوا يقابلون به، فقد كان بعض الناس ينظرون إليهم على أنهم يقصدون إزالة بيوتهم، بينما البعض الآخر كان ينظر إليهم بترحيب حين كانوا يفهمون مقاصدهم في تسجيل هذا التراث ليبقى هذا الأثر في اللوحة التشكيلية، كما هو في الصورة الفوتوغرافية.
لقد تعلم هؤلاء الفنانون من ذواتهم، فحوّلوا اللوحة البيضاء إلى لوحات لونية، فأسسوا لكل هذا، وذهبوا إلى جميع المناطق من قرية إلى مدينة إلى مقهى إلى كل مكان فيه حيوية ونشاط. وهناك البعض منهم ذهب إلى الخارج وجاء بتعليمات جديدة ومعاصرة ولهم دور كبير في الحركة التشكيلية إلى جانب الرواد، لكن أساس كل ذلك هم الرواد.
ويعد الفنان الراحل عبدالكريم البوسطة، أحد أبرز هؤلاء الرواد، تعدى الفن عنده الهواية إلى أسلوب حياة متجددة العطاء، خصوصًا أنه زاول مهنة التدريس ولم يبخل بشيء من معارفه ورؤاه في تعليم الأجيال من الفنانين الذين تخرجوا على يديه وأيدي زملائه.
لقد أنتج البوسطة، منذ العام 1962، وحتى وفاته في 17 ديسمبر 2011، عدة أعمال وتجارب في الفن التشكيلي. وأقام مجموعة كبيرة من المعارض الشخصية والثنائية والجماعية الداخلية والخارجية، وحصل على ميداليات وجوائز عدة في المجال الفني والتشكيلي والطباعة والخزف، كما حصل على الجائزة التقديرية لمعرض الفنون التشكيلية للفنانين البحرينيين في العيد الوطني الرابع عشر. وشكلت المنهجية في الأسلوب والأدوات والتقنيات ووسائل التحقيق وحصيلة الفكر الذاتي من رؤية المدارس الحديثة والفن الإسلامي وآنية الذاتية، شكلت له مجالات عدة في مسارات فنون الطباعة والخزف والفنون التشكيلية.
أولع البوسطة بالرسم، هاجسًا مسيطرًا على مشاعره. فكان يشعر بكيانه الخاص، حينما يمسك بقطعة فحم ويرسم بها على الجدران لتتكون صورة ما. وكان للبيئة التي عاش فيها تأثيرها عليه، فوجوده في قرية رأس الرمان في زمن الغوص والبحر ونشاطه، مع مشاهدته للبحار وصلابة وسمرته ومغامراته وبعد نظره حينما يقف عند البحر، وينظر إلى السماء وإلى امتداد البحر، وما كان يشعر به وقتها من ثوابت بين الظل والصورة، بما كان يمنحه من الشخصية الانفعالية التي لا تزال مستمرة، وهي عملية حركية ديناميكية، في التأثير على المشاهد.
وكان يرى أن بحث الفنان البحريني عن أسلوب يتوافق مع شخصيته الخاصة، يمكنه من أن يكوّن رؤيته المعاصرة، ذات اللون والعمل الفني المغاير، مستشهدًا بوجود فنانين أرادوا الحفاظ على نوع معين تكون له طبيعته الخاصة التي تتخذ المشهد من الطبيعة، ولكنهم لم يقوموا فقط بنقل المنظر الطبيعي بل إن بعضهم أضفى عليه اختزالاً ولونًا معاصرًا والبعض الآخر بدأ بالبحث عن ذاته ونشاطة الفكري وحاول أن يبرزه بنوع من المعاصرة أو لغة العصر. وهناك فنانون بحرينيون أجادوا في ذلك، وما يشهد على ذلك أن هناك مشاركات مهمة لهم خارج البحرين، والعالم المعاصر يستجيب لها.
على أن بعض الأعمال الفنية لا يحتاج اليوم إلى موهبة بل تحتاج إلى تحقيق فكرة، وهذه الفكرة لها جمالها الخاص. وأعمال الفن التجميعي أو التركيبي أو الفيديو تحتاج إلى فكرة والفكرة تخلق لها عالمها الخاص ولكن بأدوات مطروحة نستخدمها نحن جميعًا كبشر، فيكون لها تأثيرها. فهي أعمال تحتاج إلى تراكم المعلومات بحيث إن هذا التراكم لا يصبح مجرد شيء ينظر إليه بشكل فارغ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى