عبد الكريم العامري - وما ملكت..! (مونودراما)

كم جدار نحتاج لتحطيمه لكي نتحرر؟
الشخصية هي لشابة في مقتبل العمر.

في غرفتها تجلس شابة يبدو عليها بعض القلق والامتعاض ، الغرفة شبه معتمة .. الساعة الجدارية توقفت عقاربها، مرآة كبيرة تتوسط الغرفة وبعض الثياب معلقة في جانبها.. الشابة تجلس قبالة المرآة تتفحص وجهها وتحاكيها.
الشابة: كم انت قاسية ايتها السنوات، هذا الوجه الذي كان نضرا صار يحمل كل تفاصيلك.. ربما يحتفظ الآن بما بقي من نضارة الأمس.. ( تتحسس وجهها وتمسّد خصلات شعرها وهي تحدق بالمرآة) حتى أنت ايها الأمس لم تنقضي قبلما تترك بصماتك في خصلات شعري، ليتك كنت ابيضا مثل هذه الخصلات.. ليتك لم تنته قبل ان تذيب جليدي وتحررني من تلك الجدران القاسية، ليتك غيّرت ورفعت تلك الأحجار الثقيلة عن كاهلي.. ليتك كنت كريما معي (تصمت قليلا) لكنك لم تكن كذلك.. لم تكن كذلك ابداً.. وأدت أحلامي قبلما تختمر في رأسي وتركتني هشيما تذروه رياحك التي ما فتئت تعصف بي!.
(تنهض من مكانها وهي تراقب المكان)
كل ما حولي يقيدّني.. يحيلني الى سلعة رخيصة ومبتذلة!
أيّ ذنب ارتكبت بحقكم كي تطلقوا احكامكم القاسية.. أنا إنسان، مثلكم تماما، ومن العدل أن أعيش كما انتم تعيشون، أفرح كما اشتهي، أضحك كما أريد، أرقص .. اصرخ ، أعبّر عن رأيي دون أن تأكلني نظراتكم الغبية! لست بهيمة كي تعقدوا لساني بخرافاتكم، لست غبية كما تتصورون، امتلك عقلا كاملا وليس نصف عقل..
مذ وعيت وأنا اسمع ما تنطقون، المرأة عورة! عورة لا يحق لها أن تمشي دون رقيب.. عورة لا يحق لها التعبير عن قلقها وألمها .. حزنها..فرحها..
(تدور حول نفسها) البداوة التي تغلّف بصائركم منعتكم عن أن تروا هذا الكائن.. هذا الإنسان كونه إنسان!
(تعود الى المرآة مرة أخرى) في أحايين كثيرة أسأل نفسي: من أنا..؟! ابحث عن اجابات تقنعني.. من انا..؟
حين التحقت بمدرستي الثانوية منعني ابي عن الذهاب الا وهو يرافقني، ليس خوفا عليّ انما خشية من الناس الذين يلومونه.. حاول ان يخلق ذكرا بداخلي وهو ما كان يؤرق ابي وينقصه!
أمي التي لم اكن أفضل منها قالت لي ذات يوم: يومي انجبتك لم يباركني احد.. لأنهم كانوا ينتظرون ذكرا وولدت أنثى.. وراحوا يطلقون عليّ تسمية أم البنات وهم لا يعلمون ان البنت هي زهرة المنزل، وكنت أنت كل حياتي .. هكذا كانت تقول امي.. ولأنها خلّفت سبع أناث كافأها ابي بضرّةٍ خلّفت له ذكرا وكان جواز ثبات لضرتها..
(تصمت قليلا) هكذا، كل اخطاء الدنيا يلقونها علينا.. منذ بدء الخليقة يتهمون حواء بإنزال آدم من الفردوس.. ولو كان هذا حقيقة وهي ناقصة عقل لماذا طاوعتها يا آدم..؟ (تضحك) كيف استطاعت اقناعك بالبلوى..؟
( تمثل مع نفسها)
انظر يا حبيبي آدم الى تلك الشجرة.. شجرة التفاح تلك هل تراها..؟ انظر الى ثمارها المتدلية أريد واحدة من تلك الثمار.. هيا يا آدم...
(تصفق) نسى آدم كل شيء ومضى يقطف ما ارادت حواء..(تضحك) أليس هذا ما تتناقلونه عنا..؟ (تصمت قليلا) هل هو الثأر من حواء؟!
(تجلس امام المرآة وتفتح البوم صور تقلب أوراقه)
صديقتي سلمى، ها هي ذا.. بابتسامتها وشعرها البني.. صورة التقطناها في الصف الدراسي.. كانت طالبة ذكية.. كنا نحسد ذكاءها، حرموها من إكمال دراستها واسرعوا بتزويجها لإبن عمها بحجة أن ستر المرأة زوجها.. (تغلق الألبوم وتنظر الى المرآة) كثيرات منا سجّلن طابو لبناء اعمامهنّ.. سعاد ، رقيّة، سجا، ابتهال.. القائمة تطول (مبتسمة) والحمد لله ان لا ابن عم لي ليلزموني به.. فعمّي الوحيد مات في الحرب قبل زواجه باسبوعين.. (لحظة صمت) وعلى ذكر الحرب والموت نستغل –نحن معشر النساء- ايام التعازي لنطلق صراخنا لا على الموتى أنما على انفسنا.. شيء من التعبير عن الغضب الذي لا نستطيع ان نقوم به الا في تلك الأيام وما أكثرها!
(تمد يدها نحو المرآة وتقوم بمسحها)
وأنت يا صديقتي الأبدية، ليتك قادرة على مسح الوجوه التي مرت عليك والتصقت بك.. وليتني استطعت النفاذ اليك والبقاء فيك حيث نقاءك وفتنتك.. أنيستي أنت كل الوقت، أتحرر بك كلما وقفت امامك، فيك اشعر بحرية كم تمنيت ان تكون حقيقة.. أكلمك وارقص امامك أتبرج دون أن توبخينني، انت تريدينني ان اكون جميلة.. مثلك، فالجمال لا يليق الا بك.. (تتوقف وتلتفت يمينا ويسارا) أتريدينني أن اغني لك..؟ حسناً سأغني ولكن بصوت خافت..
(تغني بصوت خافت راقصة.. تضحك وهي مستمتعة بغنائها)
(تتوقف عن الغناء.. تنظر الى المرآة)

هل استمتعت بغنائي..؟ ما رأيك..؟ هل صوتي جميل..؟ أاصلح ان اكون مغنية أم مغنية الغرفة لا تطرب.. (تضحك وهي تعيد الأغنية التي غنتها وسعان ما تتوقف)
كم مغنية غرفة مثلي تغني لمرآتها..؟ وترقص لمرآتها.. وتتحدث لمرآتها.. كم سجينة مثلي تبحث عن طريق آمنة.. كم سجينة ليس بين هذه الجدران انما بين جدران اكثر صلابة وقسوة مثلي.. جدران من نظرات وكلمات وتخاريف وفتن.. جدران من قهر واستلاب تجعل الروح تذبل وينطفئ بريقها.. أتدرين يا صديقتي المرآة، أنت مثلي بصفائك وقدرتك على التحمل.. يحتاجك الغني والفقير، الصغير والكبير، الجميل والقبيح بينما لا تحتاجين انت لأحد.. تحتفظين بكل الأسرار ولا تبوحين بها لأحد.. تدفنين كل ما تعرفينه في صدرك.. كما أنا.. كم دفنت في صدري من الأسرار حتى صار الصدر مقبرة للماضي..
(تجلس امام المرآة)
هل تتذكرين يوم أخبرتك عن شركة المقاولات.. تلك الشركة التي كان من المفترض ان اعمل فيها.. هل تذكرين..؟
(تبتسم بسخرية) لم ينظر صاحب الشركة لأوراقي التي قدمتها له، اكتفى بالتحديق بي.. عيناه تكادان أن تلتهمانني.. من تلك اللحظة عرفت ما يفكر فيه.. (تهز رأسها أمام المرآة) أعتقد تذكرت تلك الحادثة، في ذات اليوم شكوت لك حالي لأني لم اجد احدا اشكو له ما حدث.. لست انا وحدي، هناك كثيرات يقبعن خلف تلك الجدران ويتحملن كل الاخطاء ويتجرعن ما تجرعت..
(صوت طرقات على الباب.. الطرقات تتصاعد، الشابة تضع غطاءا على المرآة وتخفي آلبوم الصور تنظر الى المرآة)
لا عليك يا صديقتي.. ربما يعتبرونك اثراً من آثار الجريمة وعليّ ان اخفيك.. فكل خطوة يعتبرونها كذلك..
(تتقدم نحو الباب .. تتوقف ثم تلتفت نحو المرآة)
ألم أقل لك أن الجدران ليست هذه (تشير الى جدران الغرفة) الجدران هنا في العقول (تشير الى رأسها)
(تذهب لفتح الباب)
اظلام
ستار


24/1/2019 البصرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى