عبد الكريم العامري - علب مغلقة..! (مونودراما)

ارجوحة تتوسط المسرح، ومصطبة في الجانب الآخر، تتدلى من اعلى السقف ستارة سوداء واخرى بيضاء..الستائر تتراقص مع صوت الموسيقى، الشابة تدخل راكضة وهي تضحك حتى تصل الى الارجوحة، تصعد فيها وتحركها..
الشابة: هيا يا صاحبتي ادفعي الارجوحة بقوة، اريد ان اطير.. اطير في الفضاء مثل طائر حر.. هيا..هيا لا تجعلينها تتوقف..لا اريد ان تتوقف..ادفعيني بقوة وسأشد الحبل انا معك.. (تصمت قليلا وكأنها تستمع لصاحبتها) ماذا..؟ تخافين عليّ.. لا يا عزيزتي انا لا اسقط ابدا..لا تخافي..اوووه ما هذا؟ انا لا اتعب ابدا، احب هذا المكان واحب هذه الارجوحة..واحب ان اطير.. هذا المكان المترامي الاطراف يشعرني بحريتي.. (تصمت قليلا) حسنا.. حسنا اذهبي الى هناك واجلسي على الاريكة ما دمت قد تعبت..
(وهي ما زالت تتأرجح ثم تتوقف) تعرفي، انا لا احب ان ألعب لوحدي.. سأنزل واجلس معك (تنزل من الارجوحة وتجلس على الاريكة تنظر الى جهة ما حيث تجلس صاحبتها) ما بك..؟ أراك شاردة الذهن.. نعم، انت شاردة الذهن اتحدث معك وكأني اتحدث مع نفسي ، هيا اخبريني ما سبب شرودك..؟ (تصمت قليلا) حسنا ، حسنا.. ان لم يكن لديك مزاج لا تتكلمي.. لا اريد ان اجبرك على الكلام يكفي اننا مجبورون على ابتلاع ما نشعر به..! ها.. تريدين ان تقولي شيئا.. حسنا انا استمع لك..تحدثي.. (تصمت وكأنها تستمع) ماذا..؟ (تنهض من مكانها) ما الذي تقولينه..؟ أي واحد منهم.. لا..لا.. لا اكاد ان لا اصدق.. هو نفس الصعلوك الحبشي الذي لا عمل له الا الوقوف على الرصيف.. متى حدث ذلك.. وأنت آتية إليّ..؟ عليه اللعنة صعلوك متهور.. المهم انت الان بخير.. لا لا تخبري احدا.. (بغضب) هل جننت..؟ ان اخبرت اخاك وانت تعرفين جنونه سيحرق الاخضر واليابس.. نعم هذا هو الحل ان تحتفظي بسرك..اخفيه جيدا..ادفنيه في صدرك.. أتدرين كم من النساء قد دفنّ اسرارهن في الصدور.. هن كثيرات، رضين باقدارهن وعشن في زوايا الخوف تأكل السنوات من جرف اعمارهن.. (تصمت قليلا) ماذا..؟ أثير مخاوفك..؟ (تضحك) نحن معجونون بالخوف، كل حياتنا خوف في خوف! لا نأمن على أنفسنا في الشارع والعمل وحتى المنزل.. اينما ذهبنا ثمة نظرات تفترسنا.. وألسن لن تتوقف عن التحدث عنا..لكني رغم هذا قررت ان اخرج ما اسمعه من هذه الاذن من الاذن الاخرى.. (تصمت قليلا) ما بالك انت.. اي احاسيس واي مشاعر.. تلك التي تقتلنا ؟ نحن نموت في اليوم ألف مرة من أجل ان نوقف تلك الاحاسيس والمشاعر.. لا يا صاحبتي، هم يروننا مجرد سلع تباع وتشترى.. هم فقط اصحاب المشاعر وتجار الاحاسيس.. يكتبون الشعر ويتغزلون بنا، هل سمعت باكثر من هذا النفاق..؟ منافقون دونما خجل! .. نعم ما تقولينه صحيح، المرأة ملهمة لهم، سأضع تحت مفردة ملهمة خطا عريضا.. نعم هي ملهمة، بمفاتنها وجسدها وليس بفكرها وآرائها.. كل شيء يرونه فيها جميلا وقابلا للشمّ والتذوّق.. مفاتن الجسد لا حدود لها عندهم لكن مشاعرها واحاسيسها الى الجحيم!
(تصمت قليلا وتستمع لصاحبتها) أنا قاسية عليهم..؟ وما زلت تدافعين عنهم بالرغم من التحرش الذي تعرضت له اليوم وكثرما تعرضنا له من قبل.. حسنا..حسنا لا تنفعلي أنا معك ان ذلك الصعلوك الحبشي ليس منهم، هو غبي وبليد! ماذا عن صاحب الحلويات.. أتذكرينه؟ عملنا معا في معمله وفي كل يوم كان يسمعنا كلمة وكنا نجيبه بحياء: لا يا حاج.. استح يا حاج.. أنا لست كما تظن يا حاج..(صارخة) الله ياخذ عمرك يا حاج!
تركنا العمل، وامتنع ان يعطينا اجور عملنا قبلما يقايضنا على ما يريد..(تصمت قليلا) ها.. تضحكين، من حقك ان تضحكين لأن الامر يضحك حقا.. حين رأيت مسبحته التي لا تفارق اصابعه، وسجادة الصلاة التي فرشها في مكتبه كأنه ينتظر الوحي، والآيات القرآنية التي علقها في جدار المكتب ولحيته التي ابيضّت من كثر الدعاء كما يروج له، وجبهته المحفورة اثر السجود قلت مع نفسي هنا سأجد الامان والعمل الشريف.. ولم يمض اسبوع حتى بدأت النظرات الشرهة والكلمات المعسولة وتحول ذاك الرجل الخمسيني المؤمن الى مراهق فقد عقله!
وماذا بعد..؟ هل اذكرك..؟ كثيرون مروا مثل سحاب لم اكترث بهم لكنهم تركوا غصة في نفسي، خبّأت كل ذلك في صدري..
ماذا تقولين..؟ انا لست اعقل منك.. انت عاقلة ايضا..ربما صدمة ذاك الصعلوك الحبشي افقدتك التفكير بروية..التحرش بالكلام ليس مثل الاعتداء اعرف ان ارادة الله كانت اقوى من تصرف ذاك الارعن وخلصك من بين يديه.. والآن، اتعرفين لماذا نمنع نحن من التجوال ليلا في المدينة؟ نحن مثل الدجاجات التي عليها ان تركن في قنها ولا تخرج ليلا ذلك لان الثعالب لا تخرج لاقتناص فرائسها الا في العتمة!
(تمد يديها حيث صاحبتها) تعالي، لنعد الى الارجوحة.. لننسى ما مضى ونستمتع بوقتنا.. الحديث عن اولئك الشاذين يمغص امعائي ويصيبني بالغثيان..تعالي يا صاحبتي، نمتطي الريح ونحلق بعيدا نلقي بكل ذلك في بئر النسيان .. (تتوقف عن الكلام ومن ثم تغضب) قلت لك اكثر من مرة لقد نسيت رامي وانت تعيدين تذكيري به..لا.. لست هاربة من الذكرى لكن الامر انتهى.. هو ذا العام السادس قد مضى أتريدينني ان ابقى معلقة بخيط عنكبوت..؟ لا لم يكن اختياري خطأ..وان كان مسيحيا وانا مسلمة فهو انسان كما انا..(تصمت قليلا وكأنها تسترجع الذكرى) نعم، احببته، كان حبا حقيقيا..هو يختلف عن كل الشباب، كان رزنا عاقلا مخلصا محبا للخير..لا يفرق بين هذا وذاك ولأنه كذلك لم يعد يحتمل ان يعيش في مدينة يغلفها الغش والخداع والضغينة والبلوى والموت..هاجر مرغما!
(تصمت قليلا) نعم رضيت بهجرته ان كانت تنجيه من الموت.. رضيت بذلك ليبقى ذكرى عالقة في رأسي.. (تلتفت حيث صاحبتها وبغضب) لا ولم الكذب..؟ لم اكذب عليك بل كنت اتحاشى الحديث عنه كي لا تثار مواجعي..
ألم أحدثك عن هجرته..؟ كان يوما اغبرا..مظلما.. اتصلت بي اخته واخبرتني انهم راحلون، لم تتح لي فرصة رؤيته.. فص ملح وذاب وذابت معه كل الأحلام.. نعم حاولت.. مرة ومرتين وثلاثة.. لكنني لم اجد من يدلني عليه.. لا أعرف في اي بقعة من بقاع الأرض هو الآن فيها.. (تصمت) قلت لك حاولت.. بحثت عن أقارب له في الجانب الآخر من المدينة ، لم اجدهم.. عرفت اخيرا هم هاجروا ايضا.. لم يبق مسيحي هناك أو هنا.. تركوا بيوتهم ومحالهم وغادروها دون رجعة.. لم يدعهم الظلاميون أن يبقوا، أطفأوا كل نور في المدينة واشاعوا الموت في الأزقة البائسة.. برحيلهم غادر الجمال مدننا !
(تتوقف قليلا وتقترب حيث الاريكة) ألم اقل لك احتفظي بسرك في صدرك فالصدور خير مقابر لاسرارنا..
تضحكين...؟ ها انت ذا تضحكين ثانية.. ما الذي يضحكك..؟ خيباتنا..؟
(تضحك معها) شر البلية ما يضحك.. اضحكتيني بما تقولين يا مجنونة.. ليس غريبا ان يضحك المرء على نفسه قبلما يضحك الآخرون عليه..الضحك الذي لا يصدر من القلب ليس ضحكا.. (تصمت) تقولين وقاحة! لا ليس وقاحة، هو شيء آخر تعدى الوقاحة..
(تعود لتجلس على الاريكة) منذ فترة طويلة لم اتحدث عن رامي وهجرته القسرية.. لا..لا تعتذري انت لم تفعلي شيئا.. ربما كنت أنا بحاجة الى من اتحدث عنه هذا الجرح الذي لم يندمل ما زال يؤلمني.. صحيح مثلما قلت، لو لم يهاجر رامي ولو كان الأمر طبيعيا في المدينة ولم يدخلها الظلاميون كان من الصعب أن ارتبط به.. ثمة كثير من القيود والعقبات واولها أنه مسيحي وانا مسلمة، هذا هو الحال والواقع لا مهرب منه..
(تلتفت حيث الجهة التي تجلس فيها صاحبتها بغضب وهي تقف) ماذا..؟ اي كلام هذا..؟ ما الذي سيقوله الناس عني ان هربت معه..؟ (تصمت) نعم، أنا أهتم لكلام الناس لأنهم لن يلوموا الرجل كل اللوم سيكون عليّ.. سيلصقون بي تهما ما انزل الله بها من سلطان.. هذا هو واقع الحال نحن في مجتمع يحملنا فيه كل الأخطاء حتى وان كانت بسيطة..
(تصمت قليلا) نعم ، ما زلت معلقة به.. وربما هو الآن يفكر بي ايضا.. لا لم يتصل.. لكن هذا لا يعني انه لا يفكر بي..
(تعود الى الاريكة) ارجوك.. لنطو هذه الصفحة..نعم قلت لك أنا بحاجة للحديث عنه لصارحك أنا حقا لا اعرف ما اريد فعله.. اشعر اني محشورة في علب مغلقة، احيانا لا ارغب في الحديث عنه وفي أخرى اتمنى ان اجد من اثق به لاتحدث عنه.. هكذا انا مابين مد وجزر، ابحث عن قشة في هذا البحر لتنجينني من القلق الدائم والانتظار..السنوات تمر وكلما مرت سنة تركت اثرها في نفسي..كل شيء مغلق في هذا الوجود تظنينه مفتوحا لكنك تكتشفين متى ما جربت أنه لم يعد هكذا.. نحن محكومون بالوهم، محكومون بالأسى..!
حسنا يا صاحبتي، ثرثرت كثيرا، (تضحك) الثرثرة احيانا علاج للنفس افضل من تلك العقاقير والمهدئات.. (ما زالت تضحك) أتظنينني اسرفت بنشر آلامي..؟ أنت خير من يسمعني ويحتفظ بسري..
هل انتهت الحكاية..؟ (تصمت قليلا)
لا اظن أنا أيضا..مثلك تماما.. لا اظن ان حكايتنا قد انتهت.. مثل جميع اللاتي ما زلن يخبئن اسرارهن ويعشن على صفيح ساخن.. مذ جبلنا وحياتنا هكذا، نكبر وتكبر معنا الأوجاع والأحلام.. في كل بيت ثمة وجع، وفي كل وسادة ثمة احلام لن ترى النهار..وصلبان هيّأت للعشرات منا.. (تقف وتنشر ذراعيها كأنها شدت الى صليب) قبل ان تصلبوننا اصلبوا ذواتكم فليس هناك من هو خال من الخطيئة..
اظلام
ستار
البصرة 7 شباط/فبراير 2019

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى