رحال بوبريك - الجسد الأنثوي والمقدَّس

أولاً: الدم ، لعنة النجاسة
حتى يكون الجسد مُقدّساً ، يجب أن يكون طاهراً ، وهذا يتمثَّل أولاً بالوضوء قبل القيام بالصلاة ، لأن الصلاة تعني التقرُّب الى الله، ولا يصح أن يتم هذا التقرُّب عند غِياب الطهارة. وهذه الطهارة قد تكون رمزية أحياناً كما في حالة التَّيمُّم (حيث يمسح المسلم على جسده بالتراب عند غِياب الماء). وعملية الطهارة ليست مرتبطة فقط بأوقات الصلاة. فمن الناحية الرمزية، تبدأ طهارة الذكر المسلم منذ الولادة من خلال عملية الختان (والتي تُسمى الطهور) ، والخِتان يُعتبر إزالة للنجاسة وتحضير الجسد للعبادة. وهناك الطهارة اليومية التي يخضع لها جسد المسلم: فالجسد مُعرَّض للنجاسة (بول، غائط ، ريح) وهذه تستلزم طهارة صُغرى تتمثَّل بالوضوء. في حالة الجنابة (ممارسة الجنس) ، ودم الحيض والنفاس ، فالطهارة تستلزم الإغتسال ولا يكفي الوضوء. وفي حال ممارسة الجنس الغير شرعي، تكون الطهارة بالخضوع لعقاب جسدي يتمثَّل بالضرب والجَلد، ثُمَّ الإغتسال.
ويُعتبر الدم من الأمور النَّجِسة والمُحرَّمة ، وجسد المرأة وتكوينها البيولوجي يجعلها في حالات نجِسة تستلزم منها الخُضوع للطهارة أكثر من الرّجُل (دم الحيض، الإستحاضة، النفاس). ويُعتبر الدم مُحرَّماً سواء كان آدمياً أو لحيوانات ، وهو يرتبط بالشر. فالدم مُرتبط بالحياة والموت ، وله قيمة رمزية خطيرة. فعندما يتعلق الدم بالرجل، فهو يرتبط بالشرف، والقرابة الأبوية، والتضحية. أما حين يكون الدم مُرتبط بالنساء، فإنه يوحي بالشر والنجاسة.
ودم المرأة يُثير الخوف والشعور بالقرف، ولذلك تعمل المرأة على إخفائه، لأنه علامة العار والنجاسة وخوف الآخر. والمرأة على ارتباط بالدم أكثر من الرجال، فهناك دم الحيض عند البلوغ، ودم البكارة عند الزواج، ودم النفاس عندما تَلِد ، وقد تموت المرأة عند الولادة ، وهذا الدم يُثير الخوف والحذَر والإبتعاد عنها. فدم المرأة هو الذي يمنح الحياة، وهو أيضاً يُنذر بالموت. إنقطاع الدم عن المرأة المتزوِّجة يعني الحياة والخصوبة (طهارة)، أما استمرار الحيض فيعني أن الدم لا يحمل بذرة الحياة وهو دم فاسد ، وعلى المجتمع أن يعمل على إبعاد المرأة التي يسيل منها الدم حتى ينتهي هذا السيلان ، ويجب سجنها في مكانٍ بعيد وإبعادها عن الجماعة لأن جسدها أصبح نجِساً ، ولأن هذا الجسد قد يُنجِّس أجساد من حولها. والحضارات القديمة كانت تُجبِر المرأة الحائض على العيش في أكواخ بعيداً عن المجتمع ، كي لا يحصل اختلاط بين الحائض والآخرين. ويرى المؤرّخ الفرنسي ميشيليه، أن الديانتين المسيحية واليهودية كانتا السبب الرئيسي في جعل المرأة كائناً سيئاً ، فهي الساحرة والمشعوذة وحاملة اللعنة الأبدية نتيجة الخطيئة الأولى.
إعتبار الدم نجاسة ومُرادف للموت موجود أيضاً خارج الإطار الديني، ويعود هذا الإعتبار الى عُصور قديمة ، فأرسطو وسقراط اعتبرا أن دم الحيض يُطهّر الجسد من النجاسة، وفي الطب التقليدي ما زالت نفس الإعتبارات مُستخدمة ، حيث يتم إخراج كمية من الدم من جسد الإنسان المريض، على اعتبار أن هذا الدم الفاسد هو السبب في المرض (مِثال الحجامة). وما يزيد الإعتقاد بنجاسة دم الحيض هو خُروجه من الأعضاء التناسلية ، وقد اعتبره فرُويد مُساوياً للبُراز من حيث النجاسة.
في المنظور المسيحي: حواء أكلت من شجرة مُحرَّمة ، وارتكبت خطيئة ، والخطيئة نجاسة يجب أن يتم التطهر منها بالتوبة، فكان العقاب لها بأن تحيض الى الأبد. فالحيض لعنة يتم توارثها بين كل النساء.
في الديانة اليهودية، دم النفاس نجساً حتى 40 يوماً إذا كان المولود ذكر، و80 يوماً إذا كان المولود أنثى، والسبب هو أن الأُنثى تنجِّس أكثر من الذكر، وهذا يعني أن الأُنثى نجسة منذ لحظة الولادة. وفي النصوص الدينية المسيحية واليهودية، فالمرأة الحائض تُنجِّس كُل ما يُحيط بها، ولهذا وجَبَ عزلها.
الإسلام أيضاً اعتبر دم الحيض نجساً (ويسألونك عن المحيض قُل هو أذىً فاعتزلوا النِّساء في المحيض ولا تقربوهُنّ حتَّى يطهُرن فإذا تطهّرن فأتوهُنّ من حيثُ أُمركُمُ الله إنّ الله يُحِبُّ التوابين ويحب المتطهرين) .والإسلام جاء وخفف من حدة أحكام اليهود. فاليهود كانوا يمنعون المرأة الحائض من التواجد في البيت، أو الأكل مع الحائض، أو الجلوس والنوم بجانبها الخ... ، والقرآن أباح كُلّ شيء، إلّا النكاح. فالحائض تمارس حياتها بشكل طبيعي في نفس البيت ، ولا يتم عزلها ، بل يُمكن لمسها ولا تُعتبر نجاسة أو أنها تُنجِّس ما حولها. ولكن، الحائض تُمنع من ممارسة الطقوس الدينية: الصلاة، والصيام، وطواف الكعبة، ودخول المسجد، ولمس القرآن أو قراءته.
ودم الحيض يُبعد المرأة عن الطقوس الدينية ، وعن المناصب القيادية في نظر الفقهاء، لأنهم يعتبرون أن دم الحيض والنفاس يؤثران في نفسيتها ، وبالتالي فهي غير مُكتملة الدّين ، ومن لم يكُن مُكتمل الدين في إحدى الفترات، فهو لا يصلح للقيادة. فالقائد يجب أن يكون طاهراً في كل الأوقات.
ويتمسّك الكثيرمن الفقهاء بحديث منسوب للرسول : المرأة ناقصة عقل ودين. وقد اعتُبِر نقصان العقل بأن شهادتها نصف شهادة رجل، بينما نقصان الدين بسبب الحيض.
ثانياً: الجسد المُشتهى
جسد المرأة هو مصدر الفتنة والشهوة والإغراء للرجل، وإذا كان الدم أمراً بيولوجياً خارجاً عن إرادة المرأة، ويمنعها لفترات أن تكون في دائرة القداسة، فإنها تتحكم بجسدها بصورة إرادية. وكونها مصدر إغواء للرجل الذي يُفترض أن يكون في دائرة الطُهر والقداسة على الدوام، فتحتًّم أن يتم ضبط هذا الجسد النسائي الشيطاني ، من خلال إخفاءه: إمَّا من خلال إخفاء المرأة ومنعها من الخروج من البيت، أو من خلال تغطية جسدها ، ومحو تفاصيل الجسد إن هي احتاجت للخروج.
جسد المرأة يكون ذو قيمة إيجابية فقط عند الإنجاب، وهذه القيمة ـ أي منح الحياة ـ كان لها أثر كبير في وضع المرأة وجسدها بمرتبة الآلهة (عِشتار ـ إيستر والذي رُبِط بالمسيح وقيامته من الموت) . ولكنَّ الرَّجُل قام لاحقاً بفرض رؤيته وبتغليب نظرة الجسد الأُنثوي المُغوي على الجسد الأُنثوي المانح للحياة ، وفُرِض على المرأة النظرة الدونية ، وانتهت الإعتبارات الإيجابية لجسدها لصالح الإعتبارات السلبية وبكونها نجسة ومصدر غواية وشهوة.
وقد جاءت النصوص الدينية لتُكرِّس هذه الفكرة عن جسد المرأة ، فقد ورد في القرآن ( زُيِّن للنَّاس حُبُّ الشَّهوات من النساء والبنين والقناطير المُقنطرةِ من الذَّهبِ والفِضَّةِ والخيلِ المُسوَّمةِ والأنعامِ والحرثِ ذلك متاعُ الحياةِ الدُّنيا والله عنده حُسنُ المآب). وقد نُسِب الى الرَّسول الكثير من الأحاديث التي تَعتَبِر المرأة وجسدها فِتنة: من هذه الأحاديث: (ما تركتُ بعدي فتنة هي أضرّ على الرجال من النساء) ــ (إنّ المرأة تُقبل في صورة شيطان، وتُدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته، فليأتِ أهله، فإن ذاك يرد ما في نفسه).
وجاء النَّص القرآني ليضبط جسد المرأة من خلال اللباس: (وَقُل للمؤمنات يغضُضن من أبصارِهِنّ ويحفظن فُرُوجَهُنَّ ولا يُبدين زينتهُنّ إلّا ما ظهر منها وليضرِبن بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ولا يُبدين زينتهُنّ إلّا لِبُعُولتِهِنّ أو آبائهن.......) ـ والأية الثانية (يا أيُّها النبي قُل لِأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهِنّ من جلابيبهن ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يُؤذَين ...).
والجسد الذي خُلِق من أجل العبادة يتم ضبطه على الدوام من خلال النصوص الدينية: الوضوء ، الإغتسال، الحجاب، اللحية، الختان، الجنس، اللباس، الخ. ، ويظل جسد المرأة هو الذي يتحمّل القسط الأكبر من التقنين في النصوص الدينية ، وعليه لا يُقدّم جسد الرجل كموضوع فتنة وشهوة وإغراء.
الجسد باختصار ذو وجهين، وسيلة تقرُّب الى الله ، وأيضاً مصدر فتنة شيطانية. وللتخلُّص من الفتنة الشيطانية، كان على الجسد أن ينتهي ويتحلل في التقرُّب الى الله. فالصوفية مثلاً تُحتِّم على العابد أن يقوم بإذابة جسده لتتمكن الروح من الوصول الى الله، ويكون ذلك بالتقشُّف، والصيام، حتى أن المرض والضعف الجسدي يُعتبر علامة على الورع والتقوى. والمرأة عليها أن تقوم بجهد مُضاعف في إلحاق الأذى بجسدها الشيطاني، فلا يكفي حجبه وستره، بل يجب التخلُّص من هذا الجسد والوصول الى الرغبة بالموت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى