محمد أبوالمعاطي أبوالنجا - الشوط الثاني.. قصة قصيرة

في البداية كانوا يلتقون في المناسبات، ثم أصبحوا يصنعونها من أجل أن يلتقوا، هم مجموعة من المثقفين جمعتهم ظروف العمل في بلد عربي، كانت تربطهم الأفكار والمعتقدات في مرحلة، ثم أوضحت لهم ظروف الغربة- دون لبس- أن حاجتهم إلى أن يلتقوا لا تزال باقية حتى بعد أن تسلل الاختلاف إلى أفكارهم في عالم دائم التغير!.في تلك الليلة كانت مناسبة اللقاء وصول صديق قديم للمجموعة إلى البلد الذي يعملون به، صديق لم يلتق به أكثرهم منذ سنين طويلة، في مثل هذه المناسبة يسود اللقاء جو عاطفي، يدركون جميعا أن النظرة الجديدة تلمح بوضوح ما فعله الزمن في الوجوه والأجساد والعقول والنفوس، فيشفقون من اللقاء بقدر ما يتلهفون عليه!.

ضيف بلا دعوة

في تلك الليلة أيضا كانت ذكريات الشباب الذي كادوا جميعًا يودعونه هي التي تنقذهم من هموم السياسة التي لا يملك أحد أن يودعها، والتي قد تفجر الاختلافات، وقد تفسد جو الود الذي يتلمسونه مع الصديق القديم! ثم اقتحم الجلسة ضيف بلا دعوة، وكان صديقنا " س، ع " هو الذي وجه دعوة منفردة لهذا الضيف حين نظر في ساعة يده، ثم ضغط على زر " التلفاز " فوجدنا أنفسنا أمام إحدى مباريات " كأس العالم " سنة 1990 المذاعة على الهواء في دور الثمانية!!.

للأمانة فإن " س، ع " في الوقت الذي فتح فيه " التلفاز "، مد يده إلى مؤشر الصوت فهبط به إلى أقصى درجة ممكنة حتى لا يفسد الجو على مريدى الحديث، وفي الواقع أن الجميع كانوا يفكرون في الانطباع الذي سيخرج به الصديق الزائر عن "س، ع " حين يراه في تلك الليلة، ففي الماضي كان " س، ع " واحدًا من ملوك الحديث وبخاصة في السياسة ولكنه في السنوات الأخيرة أصبح واحدا من ملوك الصمت ومن مدمني مشاهدة مباريات كرة القدم!.

أبدى البعض ارتياحا صامتا، وكأنه يقول: خيرٌ له أن يَتَلهَّى بمتابعة المباراة من أن يشيع كآبته في الجلسة، ولكن ما فعله " س، ع " أحدث بطريقة ما شرخا في الجلسة، فبعض المجموعة راح يتابع المباراة الصامتة على استحياء، نظرة على التلفاز، ونظرة على الأصدقاء، ويبدو أن بعض ملوك الحديث في الجلسة، ممن لم يتنازلوا بعد عن عروشهم، رأوا فيما فعله " س، ع " تحديا صامتا لهم، وقلة ذوق في حق الضيف الذي يجتمعون حوله، فصمموا على أن يحاربوه بسلاحه، فطور أحدهم الحديث إلى تذكير الحضور بتنديد الكاتب الإيطالي " ألبزلو مورافيا " باهتمام الناس وسلطات الدولة والمجتمع بكرة القدم على حساب قيم أخرى أكثر أهمية. وتطوع ملك آخر بتقديم تنظير مناسب لعالمنا الثالث، فأفاض في الحديث عن المؤامرة التي تكمن وراء هذه الظاهرة من تعمد الساسة والمسئولين إلهاء الجماهير عن واقعها وقضاياها المصيرية بتنظيم متعمد لنشر هذا الوباء العصري الذي يفتك بالعقول والمشاعر والوقت، حين يشيع بين الناس عادات جديدة مثل أن يشعروا بمتعة الانتصار، وبمعاناة الهزيمة من خلال غيرهم! أن يتعلموا كيف يكونون أبطالا بلا بطولة، أو ضحايا دون تضحية!.

واحد من المجموعة لم يصل بعد إلى أن يكون ملكا من ملوك الحديث هو الذي لاحظ أن الضيف نفسه راح يمارس لعبة مخالسة النظر للتلفاز لمتابعة المباراة، فأراد أن يضفي شيئا من المشروعية على ولع الناس بمتابعة كرة القدم، فراح يتحدث عن العلاقة بين الصراع الذي يهرع الناس إلى ملاعب كرة القدم ليتفرجوا عليه، وبين الدراما التي عشقتها الإنسانية منذ ظهور المسرح عند الإغريق وحتى الآن. ثم ألمح إلى أن الصراع في كرة القدم- هو في النهاية تجريد للصراع في المسرح، لا غنى عنه لكي يتاح للملايين أن تعيش الحالة التي كانت ولا تزال تجتذب الخاصة إلى المسرح!.

كان الشوط الأول من المباراة يقترب من نهايته، وكانت حمى اللعب تقترب من ذروتها فكلا الفريقين يحاول أن يخرج منتصرا من الشوط الأول، وشمل المجموعة صمت ثقيل شارك فيه حتى ملوك الحديث، كانت ضجة الجماهير في أحد الملاعب إلى جوار تعليق المذيع هي فقط ما يمكن الإنصات إليه في اللحظات الأخيرة من الشوط الأول!.

ملك الصمت يتكلم

حين أعلن الحكم نهاية الشوط الأول وفي فترة الاستراحة امتدت يد صديقنا " س، ع " إلى زر الإغلاق في " التلفاز "، فساد الصمت للحظات قصيرة، ما لبث صديقنا ملك الصمت أن قطعها وهو يقول: " أنتم تبسطون المسألة حين تتحدثون فقط عن العلاقة بين لعبة كرة القدم، ولعبة المسرح، المسألة هي أن الناس يجدون في لعبة الكرة ما لا يجدونه في لعبة الحياة اليومية، وما لم يستطع أحد من المثقفين أو الساسة أن يقدمه لهم حتى الآن في صراعهم اليومي المرير " ففي كرة القدم يدور صراع يعرف كل لاعب فيه بوضوح، وربما لأول مرة من هو معه ومن هو ضده؟! وهذا أمر نادر الحدوث في الواقع اليومي!.

" وكرة القدم هي المعركة الوحيدة التي يدور فيها صراع ينظمه القانون ويحرص الطرفان على أن يسود القانون ويحترم لأن احترامه يعطي أفضل فرصة للمنتصر وللمنهزم على السواء!.

والملعب هو المكان الوحيد الذي يمكنك فيه أن تتحقق من سيادة القانون، فهو من ناحية مكشوف، وثمة حكام يرقبون اللاعبين وجمهور يتابع الحكام واللاعبين، وكل شيء واضح أمام عينيك ذلك الوضوح النادر الذي لا وجود له في غير الملعب، الجيد والرديء الصواب والخطأ، ومهما يكن دور المصادفة فالرديء لا يغلب مرتين.

لا مكان للخديعة

" في الملعب لا مكان للخديعة، بل إن التمويه بالجسد والحركة مهارة مشروعة يمارسها الأكثر كفاءة وقدرة ويحظى من أجلها بالتصفيق، ولأول مرة لا يكون في طوق إنسان أن يخدع أحدا غير خصومه!.

كل الأشياء التي يحلم بها الناس، ويعيا الساسة والمخططون والمسئولون بجعلها جزءا من الواقع اليومي هي هنا في أرض الملعب في متناول السمع البصر وفوق النجيل الأخضر فلأول مرة تلتقي الحرية بالنظام دون أن يضحى بأحدهما في سبيل الآخر! للامتياز الفردي دوره في لحظة دون أن يعني ذلك إلغاء عمل الفريق الجماعي كأساس لا غنى عنه ولا جدال فيه!!.

ولن يتحدث سوى الحمقى عن إمكان الاعتماد - في الملعب- على النبوغ الفردي وحده!.

"في الملعب لكل لاعب دور ومكان، ولن يوجد " بيروقراطي " واحد في إدارة الفريق يمنع المدافع من أن يتحول إلى الهجوم والمهاجم من أن يتحول إلى الدفاع وفق تطور الأحداث في الملعب، واللاعب وحده هو من يقدر الموقف ويتحمل مسئولية صوابه وخطئه في التقدير!.

ودائما يعرف كل لاعب لماذا يصفق الناس له ولماذا يصفرون،؟ وفي لحظة احتدام المعركة، واختلاط الأجساد والمشاعر تساعدك الخطوط والدوائر وألوان الملابس وصفارة الحكم وعيون " الكاميرات "، وفوق ذلك كله أصوات الجماهير على استرداد وعيك المسلوب بلحظة الاحتدام!.

ولأول مرة- وهذا لا يحدث في الحياة كثيرا- يرتبط الفعل بنتائجه إيجابا وسلبا، عدالة فورية، لا تنتظر جهود الباحثين عن الحقيقة في حياد وصبر، أو وصول سلطة عادلة إلى الحكم في هذا الزمن أو في غيره، في هذا العالم أو في غيره، وقد يرى البعض أن الحكم في النهاية إنسان يخطئ أو ينحاز ولكن العزاء أن عيون الجماهير وعيون الكاميرا قد رأت الوقائع شبه كاملة ويمكنها أن تصنع حقائقها الخاصة وتمنحك عزاء غير مؤجل. فالحقائق في كرة القدم تكتشف وتصنع في ذات الوقت وبنفس المقدار!.

كان صوت صديقنا " س، ع " يرتفع وهو يتدفق مستردا سحره القديم، فلم ينتبه أحد لهمسة أحد أفراد المجموعة الذي بدا وكأنه يخاطب نفسه.

- " كنا نظنه زهد الحديث في السياسة! بينما استطرد" س، ع":

" لأول مرة تذوب الفروق حقا بين الأمير والصعلوك بل بين كل الفئات والطبقات في مدرجات كرة القدم، وينجح اللاعبون بألعابهم الناجحة أو الفاشلة أن يزيحوا جانبا فروق الملابس والمقاعد والمقاصير ليكشفوا عن الوحدة الخالدة للجهاز العصبي للإنسان حين تنطلق من كل الحناجر في لحظة واحدة وفي كل مكان صيحات الاستحسان أو الاستهجان حين تدور الأعناق نفس الاستدارة، وتطل من كل العيون النظرة القلقة المترقبة ذاتها، حين تكشف الحركات الهوجاء الواحدة عن جذر الحماقة المتأصلة في كل الناس من كل فئة وطبقة!.

" في كأس العالم يمكنك أن ترى لأول مرة الطريق كاملا من السفح إلى القمة، وأن تتابع الرحلة بكل تفاصيلها، أن ترى كيف تولد أسطورة الفرد البطل أو أسطورة الفريق، تتابع رحلة الأسطورة من أحد شوارع قرية إفريقية أو آسيوية ماذا يفعل الجهد والصبر والحظ؟! الأبطال لا ينتظرون حكم التاريخ والمؤرخين، هنا عرس للإنجاز وللوضوح، زواج عادل للمنطق والمصادفة!.

" لأول مرة يمكن أن تلقى دولة عظمى هزيمة كروية مدوية فتترك مكانها لدولة صغيرة دون أن تختل أمور العالم، ودون أن تنهار الأسعار في أسواق النقد العالمية!.

هنا تصنع خرائط جديدة للكفاءة والصمود والعزم، يحتلها الجديرون بها من كل جنس ولون دون تفرقة أو تمييز، وقد تجد شعوب العالم الثالث لأول مرة لها مكانا في القمة أو على مسافة منها وحين تستبد حماقة الغضب بالكبار يجدون من يهدئهم قائلا:

- لا تنزعجوا أيها السادة فالمسألة مجرد ألعاب!.

* * *

الشوط الثاني

على حين فجأة نظر أحد ملوك الحديث في ساعة يده، ثم ترك مقعده ليفتح التلفاز على بداية الشوط الثاني، فامتلأ الصالون بأصوات الجماهير في أحد ملاعب إيطاليا، وساد الصمت المجموعة، وربما لم يسمع الجميع هذه الهمسات التي ترددت بين بعض أفراد المجموعة

- لقد نجح " س، ع " في أن يكسب الجولة لصالح كرة القدم، وأن يضم أحد ملوك الحديث لنادي الصامتين!.

- اسكت يا أحمق... كانت تلك هي الطريقة الوحيدة لإسكاته ومنعه من أن يسترد عرشه المسلوب، ومن أن يندفع لقول مالا تحمد عقباه، فالمصيبة أننا مازلنا نحبه!.

وخلال الشوط الثاني، كان التلفاز هو الضيف الذي اجتمعنا حوله في تلك الليلة!!.


أبوالمعاطي أبوالنجا
نوفمبر 1991

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى