محمد سمير عبدالسلام - مصطفى الأسمر.. وتعدد مجالات الرؤية في رواية متتابعة الموت والحياة

يتميز نتاج المبدع الراحل مصطفى الأسمر بالمزج الفني بين العالم الداخلي للشخصية، و الانتشار الإبداعي للصور المولدة من تداعيات الكتابة، و اتصالها العميق بجماليات الواقع السحري، و الأبنية الثقافية، و الاجتماعية المشكلة للحظة الحضارية الراهنة للشخصية، و الرغبة في الكشف عن الحركية الإبداعية لعناصر الكون، و عوالمه الطيفية، و المجازية العديدة التي تفكك مركزية الواقع و الذات في السرد التقليدي؛ فالسرد يرتكز هنا على اكتشاف مجالات جديدة للرؤية تنفتح، و تتصارع، و تتكامل خارج سطوة التعريفات، و المرجعيات الثابتة، و الحتميات؛ إذ تتجسد فيها نغمات الألم، و المعاناة، و المقاومة، و الخوف، و الرغبة في الأصالة، و الخلود، و الاتحاد بعوالم الفن دون اكتمال، أو حسم، و كأننا نعاين تمثيلا مجازيا مستمرا للوقائع، و الشخوص يستمد طاقته من صيرورة الصور، و حركيتها البهيجة المضادة لنغمات العبث، و الرعب، و العدم الاستثنائية في المشهد.
إن الموت هنا هو ما يسبق التفاعل الجمالي المفتوح بين الذات و العوالم الكونية الممكنة المتجاوزة للموت نفسه؛ و كأن الكتابة تضعنا أمام التجلي الأدبي لإشكالية تعدد العوالم و المجالات الإبداعية؛ لتتجاوز مركزيات الهيمنة، و الاستغلال، و الصراع، و النهايات الحاسمة. و تبدو هذه الاتصالية الكونية الفسيحة بين الذات، و إيماءات الصور، و الواقع السحري واضحة في نصه الروائي (متتابعة الموت و الحياة) الصادر قبل وفاته عن هيئة قصور الثقافة المصرية سنة 2011.
الذات في النص تشعر بالتهديد، و تتلقى إيماءات السلب في الآخر، و في الأحداث السياسية، و الإشارات الثقافية، و التاريخية العميقة الكامنة في النص، و كأن العالم الداخلي للسارد يعكس صراعا كونيا كبيرا بين قوى الشر، و الاستغلال، و المسار الإبداعي للعالم باتجاه الخلود، و الخير، و الجمال، و الأصالة، و يبدو الماء هنا كمجال استعاري لتلك النغمات المتناقضة بين السلب، و الاتحاد الروحي بين الداخل، و بهجة الصور، و انتشارها الجمالي الفريد في النص، و العالم.
يبدو النص الروائي كتأملات متنوعة حول قيمة الحياة الإبداعية للإنسان، و قدرتها على تجاوز أغلال المرض، و هيمنة الآخر، و أحاسيس الرعب، و العبث من داخل بهجة الصورة، و تكوينها المتجاوز لإشارات استعراض القوة و بدائلها الرمزية ذات الدلالات الثقافية، و التاريخية؛ فالسارد يعاين معاناة رجل مفزوع يحمل كيس أدوية، و يؤكد هيمنة بعض الكائنات عليه، ثم يلج صراعا رمزيا تخيليا على الشاطئ بين عجوز، و تحالف من أسماك القرش، و النسور و الغربان السوداء، ثم يقاوم صاحب قصر أسود أتى لاحتلال شقته بالدور العاشر، ثم يعايش تجارب استعارية عبثية مثل الخوف من جزار يبيع لحوم البشر، و خطاف يسعى لاصطياد الناس، و مباراة عنيفة تبدو كساحة قتال بين منطق القوة، و الأصالة، و ينحاز الراوي إلى تيار الحياة، و الأصالة الإبداعية للذات التي تختار الاستقلال، و المقاومة، و الاندماج بإشراقات العالم، و جمالياته الروحية.
و أرى أن صور الماء الصاخبة في النص توحي بدائرية للجمال الصاخب الذي يزدوج باتساع الرؤية الذاتية، و الصراع الممتد بداخلها دون نهايات واضحة؛ فالمجال الاستعاري للمادة ينفتح على عوالم اللاوعي، و أطياف الشخصيات الأدبية التي اتحدت بالماء، و صراعاته، و طاقته الإبداعية؛ مثل الشيخ في (العجوز و البحر) لهمنجواي، و آحاب، و إسماعيل في (موبي ديك) لملفل.
و قد ربط باشلار بين صورة البحر، و فكرة الرحيل، أو الموت، و كذلك بكارة الوجود الآخر / الحلمي، و مدلول الأنوثة؛ إذ يرى أن الوداع على شاطئ البحر يوقظ الآلام، و أن الماء في نظر بعض الحالمين يومئ بالسفر الذي لم يتحقق إطلاقا، ثم يربط بين الأنوثة، و الموت من خلال تأمل مشهد أوفيليا المنتحرة في مسرحية (هملت) و طفو ضفيرتها على الماء (راجع / باشلار / الماء و الأحلام / ترجمة د. علي نجيب إبراهيم و تقديم أدونيس / المنظمة العربية للترجمة ببيروت سنة 2007 ص 115، و 127).
البحر عودة، أو رحيل، أو طاقة ملهمة للأدباء، و الشعراء؛ و قد اتسع مدلوله الإيجابي في نص مصطفى الأسمر، إذ اندمج وعي الشخصية، و منظورها بمعاركه الخيالية، و تكويناته، و كذلك تحول صخبه إلى إعادة تشكيل دائرية لتيار الحياة، و امتدادها فيما وراء الصراع.
و يمكننا استعادة أطياف المعارك الإبداعية التي ارتبطت بالماء؛ لنكتشف ما أضافه المؤلف لهذه الأخيلة التي كشفت عن تناقضات الماء، و عنفه، و سكونه الممتد، و المتجاوز للموت المطلق؛ فقد كشف ملفل في (موبي ديك) عن اتساع الماء، و قسوته، و ضخامة الحوت الأبيض الموازية لضخامة الحقد داخل نفس (آحاب) بينما صار البحر فضاء ممتدا بين ذكريات العجوز، و أحلامه، و صيرورة مغامرة صيد سمكة المارلين الفريدة التي التهمتها أسماك القرش بعد معركة عنيفة؛ صار البحر – إذا - مادة محفزة لطاقة الشيخ الروحية، و لكنه فرض قوة سياقه، و حياديته، و أصالة الصراع فيه؛ فحفز فاعلية الشيخ دون أن يتطابق مع مساره الحياتي؛ إذ يقول بعد نهاية المعركة:
"الريح صديقتنا على أي حال، ثم أضاف: أحيانا، و البحر العظيم مع أصدقائنا، و أعدائنا". (راجع / همنجواي / الشيخ و البحر / ترجمة سمير عزت نصار / الأهلية للنشر و التوزيع بالأردن 2002 ص 110).
البحر هنا داخلي، و خارجي، و قوته صارمة، و الموت فيه واضح و عنيف و متجدد مثل مدلول الحياة الكامن فيه، و لكننا لا نلمح مشاهد النهايات الحاسمة في نص مصطفى الأسمر؛ لأنه ارتكز بدرجة أكبر على اتساع الرؤية الداخلية، و دائرية المقاومة داخل الذات، و من ثم فالبحر عنده ينتصر لتجاوز الحدود رغم استمرار معاركه الجمالية في الوعي المبدع، و يلتحم كذلك بالدلالات السياسية، و الثقافية لفكرة توازنات القوة مع اختلاف سياقه الحضاري عن الإشارات نفسها في الأعمال العالمية الأخرى.
و يمكننا ملاحظة خمس تيمات فنية رئيسية في النص؛ هي:
أولا: تعدد مجالات الرؤية، و الوجود.
ثانيا: صخب الأخيلة.
ثالثا: دلالات ثقافية، و سياسية.
رابعا: الاتصالية الكونية، و استعادة البدايات.
خامسا: تناقضات الماء.

أولا: تعدد مجالات الرؤية، و الوجود:
تبدو علامات الوجود عند مصطفى الأسمر كمجموعة من النغمات، و الإيحاءات المتضاعفة؛ و كأنه يومئ بأن المشاهد اليومية البسيطة أكثر تعقيدا مما نرى؛ فالأشياء تتكاثر، و تتضخم في مسافة مجازية بين الوعي، و الواقع؛ و من ثم يصير المنظور بحد ذاته جزءا من المشهد الإبداعي؛ أي تذوب الفواصل بين زاوية النظر، و الصيرورة السردية للمشهد، و تتجلى العوالم الأخرى غير المرئية للسارد من خلال تجدد آثارها في الواقع.
يصف السارد حالة ذلك الرجل المفزوع الذي يمسك بالأدوية، و يؤول خوفه، و صمته بقفزات المخلوقات غير المرئية التي تزلزل الأرض، و يؤول تأرجح الذبائح بعنف لدى القصاب بأنها تتلقى ضربات موجعة من هذه المخلوقات، ثم يتحدث عن عاصفة رملية تهاجم إحدى جلساته الفنية، و تحجب الرؤية، ثم الصوت فتبقى النفوس وحيدة عارية، و تبلغ تحولات الرؤية النافذة إلى العوالم العديدة ذروتها في مشهد الخطاف الذي يحاول اصطياد الناس وسط تكاثر للأوتار، و المخلوقات غير المرئية.
تتجلى أفكار السيمفونية الكونية – بشكل جزئي- في هذا النص؛ لتؤكد انتصار الإبداع، و عوالمه الروحية، و مجالاته المقاومة لحتميات الرعب، و العبث؛ فالتصاعد السيمفوني الفني للأشياء يزدوج بالعبث، و عوامل تهديد الوجود الإنساني، ثم تنتصر النغمات الإبداعية الداخلية حينما يؤكد السارد أن الحدس، و الجمال قد صارا أمرا واقعا، و أن آلام الذات، و آلام الآخرين قد تحولت من تضخم الهيمنة الممثل في الخطاف إلى انتشار الأوتار في الفن، و الحياة معا.
و تتواتر أحلام اليقظة المصاحبة لهذه التيمة الفنية بين قسوة الأبنية الصلبة الممثلة في الخطاف، و اللحوم، و طيفية المخلوقات و النغمات الموسيقية، و الأوتار المجازية، و تبدو العناصر الطيفية أكثر حضورا في خيال المبدع، و في حركية السرد الروائي.

ثانيا: صخب الأخيلة:
تتميز رؤى السارد الخيالية بالصفاء، و المباشرة، و الصخب الإيحائي للعلامات، و العناصر؛ فالأشياء تبدو في حالة من التحول، و الحركة المستمرة، و رغم تأكيد النص لأفكار الصراع، و تفاوت القوى، و الموت المتجدد، أو المحتمل داخل الإنسان، و خارجه، فإن تيار الأخيلة يؤكد التجاوز المستمر للمخاوف، و الإعلان عن الموت من داخل صخب الحياة، و استمراريتها.
يصف السارد حالة الصراع التي ارتبطت في وعيه بالماء، و أطيافه المجازية، فنرى عجوزا يقع بين الأمواج، و سيل يسقط من سحابة فوقه، و يصارع مجموعة من أسماك القرش، و النسور الجارحة، و يعاين السارد أحاديث الأسماك، و النسور التي تصب في المصالح المباشرة، و تأكيد العبث؛ فزعيمة الأسماك تناور للحصول على رأس الرجل؛ ففيه المخ، و العينان، و اللسان، ينما يوصيها النسر بامتلاك الأطراف؛ كي تصير مجاديف إضافية، ثم ينتقل الصراع إلى مستوى التحالفات، و تحذير السارد من الحديث عما رآه، ثم يتكاثر حوله شحاذون يحذرونه أيضا من الحديث.
إن البحر في النص يستبدل اليابسة، و صراعاتها، و لكن بصورة يتضخم فيها العبث المباشر، و تشيؤ الإنسان؛ فكل شيء في المشهد عنيف، و صاخب، و مباشر، فلا حاجة للإيماء، و الخداع، ثمة صفاء في المشهد؛ فالخوف ظاهر، و التحالف واضح، و مقاومة الروح للفناء مستمرة، و الفزع من تفكك الجسد يراود السارد في التتابع السريع للأحداث، و لكن البحر يؤكد الصيرورة الجمالية الموازية للصراع، و يتفاعل مع العالم الداخلي للبطل، و رؤاه الكونية، و أحلامه؛ فينتقل من اللون الأسود إلى الأحمر؛ ليكشف عن سطوة الوهج، و الانحياز للحياة، و يؤجل النهايات الحاسمة للمعركة.

ثالثا: دلالات ثقافية، و سياسية:
لا يمكن فصل المعارك الخيالية في النص عن تأثير الأبنية الاجتماعية على الشخصية، و كذلك فهي تلتحم بالأحداث التاريخية، و السياسية المتنوعة، و أرى أن النص أنشودة لمقاومة الاستغلال، و قوى الشر، و سلب الإرادة، و الهوية؛ فالسارد يومئ بقهر الحتميات في الحياة اليومية، و يخرج من أسرها عن طريق الرؤى الإبداعية الحلمية، و يؤول الوجود انطلاقا من فكرة الأصالة الإبداعية التي تعزز من فعل المقاومة، و الاندماج بجماليات العالم، و يلتحم الوعي بالعوالم الأخرى الممكنة؛ ليؤكد مدلول الخلود، و التجاوز داخل الذات، و هو ما يتفق مع المعاني الدينية التي تتخطى مركزية الموت.
تتنوع المناورات الرمزية في النص بين الماء، و اليابسة؛ فصور الدبابات في التليفزيون تتضخم في وعي السارد، و تهاجمه، و خطاف الجزار يقتل الناس، و يحاول الوصول إلى قلبه، و صاحب القصر الأسود يهاجم منزله بشكل مباشر، ثم يقيم مباراة تبدأ بصفارة تشبه القنابل، ثم يسير في طريق الاتفاقيات، و المساومات بينما تنضم الحمائم إلى تيار المقاومة، و الحبل يوصي السارد باستمرار المقاومة، و الحفاظ على الشقة.
هذه المعارك الخيالية التي تقع بين الوعي، و الواقع تؤكد أفكار الحق، و الأصالة، و خصوصية المكان رغم سطوة التهديد، و سيادة فرض منطق القوة على المشهد، و قد منح الخيال الصراع قدرا كبيرا من الصخب، و إعلان لغة المصلحة، و معاينة التحول الجمالي للعلامات الدالة على الصراع نفسها؛ فالخطاف يتحرك بصورة لعبية، و لا يحقق فكرة القتل المطلق، و صفارة اللعب تفكك معنى التدمير الكامن في مدلول القنابل، بينما تتجه أحاديث الحبل، و حركة الحمائم إلى التعزيز من لغة تجاوز الحتميات التي يقوم عليها منطق القوة.

رابعا: الاتصالية الكونية، و استعادة البدايات:
يسعى البطل إلى تجدد اكتشاف صوته الخاص، و هويته من خلال علاقته بالمكان، و العناصر الكونية المتجددة، و التي تمنح الصوت القدرة على التجدد، و معاينة البدايات مرة أخرى مع حفاظه على تاريخه الفردي؛ فهو يعاين لحظة اندماج الشمس بالبحر عند الغروب، و تتجدد هويته كلما اتحد بنور الشمس عند طلوعها، و يتحالف مع الضفدع، و الحمام، و الحبل، و حركتي المد، و الجزر؛ كي ينجو من معركة البحر، و يلتبس صوته بصوت الرجل العجوز الذي يصارع القروش؛ كي يؤكد استمرارية تيار الحياة، و جمالياته الممتدة داخل الأنا، و الآخر، و في آثار المشهد الكوني الذي يسير نحو سلام أو تناغم داخلي يعلو على صخب المعركة. إن البطل ليستعيد بدايات الحياة الغامضة بما تحمله من أصالة، و بكارة بيضاء للصوت الفردي الذي يسعى دوما إلى تجاوز الموت، و تهديد القوى المستغلة على الأرض؛ فهو يجدد هويته باتحاده الروحي مع العناصر الكونية، و من ثم يتسع الصوت فيما وراء الحدود، و المخاوف، و الصراعات المتكررة.

خامسا: تناقضات الماء:
يجسد الماء – في نص مصطفى الأسمر – التناقض بين السكون، و أطياف الحرب، و الصراع، و التكوين الجمالي الفريد للأشياء؛ فالسارد يعاين وحدة النفس في سياق ظلمة الماء، و سكونه، ثم يرقب موجة المد الكاسحة التي ترتفع إلى السماء، و يصف التكوين الإبداعي الخيالي لسمكة القرش؛ فهي ذات زعانف كلها خناجر من نصال حادة، و بعضها سيوف، و ذيلها عبارة عن شبكة أسلاك شائكة، و جسدها مغطى بدروع من حديد.
إن هذا التكوين الحربي للسمكة يعكس تجاور الآلية، و التشكيل الإبداعي الذي يفكك بنية الحرب، و القتال من داخل عجائبية علاماتها؛ فالسمكة تبدو في حالة من التحول، و الاندماج بجماليات البحر، و الانحياز للوهج المجرد الذي يتجاوز الصراع من داخل المعركة، و أطيافها الممتدة دونما أي نهايات؛ فالسارد يرى الوجود من خلال تعدديته، و علاماته الدائرية التي تشبه صعود الموجة إلى أعلى.


د. محمد سمير عبد السلام – مصر

الحوار المتمدن-العدد: 4013 - 2013 / 2 / 24 - 17:49

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى