البخاري محمد مؤمل - مفارقة: من جدية الكوميدي السوري غوار وهشاشته.. إلى مرح وصلابة ضابط صف موريتاني يهزم غضب جنرال جزائري...

لقد علمت باللقاء وما دار خلاله بين الجنرال وضابط الصف بفترة وجيزة بعد وقوعه. وظلت أصداؤه تتردد في مخيلتي منذ أن وصل الخبر إلى مسامعي.. وأظنني كررته مرارا. أما السينمائي السوري دريد لحام المعروف تحت اسمه كممثل : "غوار الطوشة"- أو "غوار" فقط - فقد بدأت معرفتي بأفلامه ومسلسلاته قبل ذلك بأكثر من 10 سنوات، أي: في بداية الثمانينات من القرن الماضي.. حين شاهدت "صح النوم" في نهاية عام 1982. ولم أفكر يوما في أي علاقة ستربط في ذهني بين ذلك الفنان المشرقي مع أخ لي في السلاح من بلادي إلى أن أرسل لي صديق منذ ساعات فيديو على الواتساب، مرفقة بتعليق وجيز كتبه المرسِل: "نموذج في الإخلاص والوفاء للوطن".

لاحظت جدية الكوميدي السوري- ولم أتعودها من قبل في أفلامه وأعماله الساخرة حتى وإن لم تفاجئني إلا قليلا. استمعت إليه بتأن عميق وهو يوظف قول الله عز وجل، مبررا رفضه التام - الذي لا يتزحزح - مغادرة وطنه، متحديا المخاطر التي تحدق به. وهو يذرف الدموع ويستشهد بالآية الكريمة التالية، مقتنعا أنه شجرة لا تهاجر: لا تنبت، ولا تنمو، ولا تحيى إلا في الشام... شجرة زيتون وشجرة تين:

{ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ .. وَطُورِ سِينِينَ.. وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ }

فأدهشني حب غوار الراسخ لوطنه وتعلقه المتين ببلاده وطريقته المؤثرة في التعبير عن يقينه الذي لا يتزعزع. وحملني بعيدا.. بعيدا.. بحسه المرهف وبقوة إيمانه والتزامه المنبثقين عن شاعرية جميلة تتغذى على هشاشة عاطفية جذابة يستحيل كبح جماحها لمَّا تفيض، طليقة العنان، من فنان عربي مسلم كمثله: يتألم ويبكي لوطنه العزيز المنكوب...

وفي هذا الجو المفعم بمشاعر الوطنية الجياشة والغيرة على الوطن المهدد والمحفوف بالمخاطر، وما يتولد عن ذلك من هموم وأعباء ثقيلة.. الحاجة ماسة فيها إلى ما يطمئن ويبعث السرور في النفس... في هذا الجو المشحون، عاد بي التأمل في الموضوع، هو والذكريات، إلى ربع قرن خلا أو كاد.. إلى بلد عربي آخر مكثتُ فيه حين كان يعانى الإرهاب بدوره لدرجة هددت وجوده ككيان.. وما زالت تبعات وجراح تلك الفترة المأساوية وأحزانها قائمة.. حتى وإن كان الخطر خف بنسبة كبيرة رغم أن نطاقه الجغرافي قد اتسع ليشمل منطقة الساحل.. التي تفشى التهديد الإرهابي فيها بكاملها وبشكل مفزع في بعض دولها المجاورة لذلك البلد.

ورغم المحن، فإن الروح المرحة لم ولن تهجر سكانه مع أنهم عاشوا قبل ذلك بعقود حرب تحرير غالية الثمن.. فتك المستعمر الفرنسي خلالها بشعبه، وأباد مئات الآلاف أو أكثر منه إلى حد أن وطنهم سُمِّيَ "بلد المليون شهيد". وتذكرت أن وطني وأهله يُعرَفون ب"بلد المليون شاعر". فتنبهت إلى أن الشاعرية لا تتنافى حتما وروح التضحية.. بل على العكس : كل شهيد شاعر.. والشاعر بدوره فنان ذو مسار بُني على التضحية وعدم الإذعان. ريشته وكلماته عدسات جريئة لا تخشى العصيان.. عاكسة ومكبرة لمحنه الشخصية وكفاحه ولمآسي وكفاح قومه والناس أجمعين.. عملا بمنطق محمود المسعدي رحمة الله عليه : "الأدب مأساة أو لا يكون"، يقول هذا الكاتب والمفكر التونسي الموهوب.

ومن المسلم به أن مآسي الحروب وآلامها تبقى حاضرة في الذاكرة الجمعية بقوة ليس لها مثيل؛ خاصة الحروب الأهلية. والنكتة والروح المرحة تشكلان في وجهها سلاحا لا يستهان به.. يخفف من الوطأة الثقيلة للفاجعة وضغطها. والمثير في هذه القصة أن استخدام هذا السلاح في ذلك البلد جاء هذه المرة عفويا على يد ضابط صف وافد من وطني.

ففور مشاهدتي للفيدو المذكورة آنفا تذكرت فعلا قصة عسكري موريتاني أظنه برتبة رقيب أول أو مساعد، سافرت معه إلى الجزائر في بداية الفصل الأخير من عام 1994 ليتابع كل منا دورة تكوين: هو في مجال المدرعات بمدينة بسكرة -على ما اعتقد- وأنا دورة الأركان بكلية شيرشال. وقد قضينا معا أسبوعا على الأقل في الجزائر العاصمة في سكن مؤقت مخصص لاستقبال المتدربين الأجانب يمكثون فيه ريثما تتم الإجراءات الإدارية المتعلقة بهم.. وكنا رفقة متدربين عسكريين موريتانيين آخرين قدموا وبقوا معنا، قبل أن توجِّه المصالح العسكرية الجزائرية المعنية وتنقل كل واحد منا إلى محل دراسته حسب نوع التدريب الذي جاء من أجله.

وتزامن ذلك مع بداية السنة الدراسية 1995/1994.. أي: في منتصف ما يسميه الجزائريون اليوم والمهتمون بتلك الحقبة الجهنمية من تاريخ بلدهم الحديث "عشرية الجمر"، بسبب كثرة وتنوع نشاطات الجماعات الإرهابية التي كانت منتشرة آنذاك بقوة في الجزائر.. وتنفذ عملياتها القاتلة والتخريبية يوميا في جميع أنحاء البلد.

وكنت قد لاحظت خلال مقامنا معا في "محل العبور" في الجزائر العاصمة أن مواطني المذكور يمتاز بانفتاحه على الغير وذكائه.. وبروحٍ مرحةٍ وطرافة ممتعةٍ. غير أن هذه الخصال- بدلا من أن تخدمه- سوف تعيقه في البداية، بعد وصوله إلى المدرسة العسكرية التي وُجِّه لها: لم يستوعبها المشرف الرئيسي على تدريبه. ومما كان يزعج بصورة خاصة ذلك الضابط المتشدد كون ضابط الصف الموريتاني لا يتقبل بسهولة بعض المأكولات التي تقدم على مائدة المدرسة.. بل كان يرفض تناولها في حالات كثيرة. ولم يكن يُسمح له - رغم طلباته المتكررة وإلحاحه- بالخروج للحصول في السوق على طعام بديل.. حرصا من سلطات البلد المضيف على أمن المتدربين وخاصة الأجانب منهم.

وذات يوم أصر مواطننا على الخروج لهذا الغرض لدرجة تضايق منها كثيرا الضابط الجزائري قائد فصيلته المتشدد.. ووبخه.. ثم ابلغ الجنرال آمر المدرسة بالقضية مشتكيا إليه من سلوك المتدرب الموريتاني. فاستدعاهما العميد.

وقال لضابط الصف الموريتاني، بأسلوب حاد لا يخلو من نبرات التهديد:

- "يجب أن تغير سلوكك وأن تتحلى بالانضباط.. لأن غير ذلك غير مقبول..وإلا فسوف تتخذ ضدك الإجراءات اللازمة."

ثم سأله بطريقة تعجيزية :

- "لكن قبل أن أواصل في الحديث معك، أريد أن أسألك لماذا ترفض أكل الزيتون وأنت معروف مثل زملائك الموريتانيين بالصلاة في الوقت وبحسن الدين، حسب ما ذكر لي قائد فصيلتك. وقد ذكر في القرآن الكريم: { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ .. وَطُورِ سِينِينَ... }

وما كاد ينهي سؤاله حتى رد عليه ضابط الصف الموريتاني بسرعة وبطريقة لم يكن الجنرال يتوقعها :

"- حضرة العميد، لم تكملوا الآية. نسيتم : {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}.. هل بلدكم أمين؟"

انفجر الجنرال.. ضاحكا.. ومكث لمدة معتبرة وهو يقهقه بصوت عال. ثم قال.. مسرورا:

- "يعطيك الصَّحَّه..."

قبل أن يضيف، مخاطبا الضابط الجزائري، مازجا اللغة الفرنسية بالعربية.. ومشيرا بيده إلى ضابط الصف الموريتاني:

- " C’est un beau diable، أخونا الموريطاني.. أعطوه ما يريد..."



البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)

نواكشوط ، 07 فبرير 2019

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى