شهادات خاصة إيزابيل ابرهاردت - لالا إليزابات : حب بذوق طعم العرعار ( تمقاد 1900م)… ت: جمال غلاب

لقد ترعرت بالقرب من مقبرة .. حيث الخربة المحيطة بها و من آلاف السنين الفارطة ,, و حيث أيضا طفت روحها الغامضة .. وهنا كبرت و عاشت طفولتها بين الأطلال الرومانية ووسط الركام و الغبار وهي لا تعلم شيئا عن عظمة المكان الكئيب فهي رهينة القضاء و القدر.. ؟إ.. غريبة بحزنها بين كل فتيات قبيلتها كونها يسمينة و فقط …

أكواخ قريتها منبعثة من الآثار الرومانية ( لتمقاد ) وسط سهل مترامي الأطراف تناثرت به حصى تعود إلى عهد تواجدها … و أنقاض منتشرة هنا و هناك في فضاءات من الأشواك البرية الشائكة ووحدها الأعشاب التي تتحمل حرارة الصيف التي بإمكانها المقاومة … وفي هذا المكان تتواجد هذه الأشواك بمختلف القياسات و الأحجام و الألوان بما في ذلك الزواحف,, و الكثير من الأزهار التي جففتها أشعة الشمس. .

و قوس قزح الذي مازال ماثلا و مفتوحا على أفق حارق ,و أعمدة ضخمة مكللة بها رؤوسها و أخرى متداعية وحشد من الأعمدة أيضا صاعد إلى عنان السماء كأنه غاضب في ثورة لا طائل من ورائها و ضد الموت الذي , لا مفر منه …ومدرجات في تدرجها تم كنسها حديثا ومنبر صامت و مسارات مهجورة هو موقع بات يشبه الهيكل العظمي بعد أن كان كله مجدا و إنتصارات لقياصرة تقهقروا مع مرور الزمن نظير ما تحويه هذه الأرض الإفريقية من غيرة و التي تلتهم ببطء كل الحضارات الأجنبية المعادية لروح المكان ؟إ.

بدءا من إشراقة الفجر و الى أبعد من جبل الأوراس المتوهج بقزحيته…. يسمينة تخرج من كوخها المتواضع و تسير ببطء عبر السهول و هي تدفع بقطيعها من الخراف و النعاج و المعز الهزيلين صوب حلق الواد البعيد عن الدوار بما فيه الكفاية . وحيث يتجمع عدد قليل من رعاة القبيلة و بعدها يسمينة تنزوي في مكان مفضلة عدم الإختلاط بالأطفال … و تمضي معظم أيامها في صمت بعيدا عن أي شيء من شأنه أن يقلق أو يثير تفكيرها أو أضغاث أحلام يتعذر عليها تحديدها …قد تكون غير قابلة للترجمة لأي لغة من اللغات الإنسانية……

وفي بعض الأحيان و توسلا للمتعة . تقوم بقطف بعض الزهور الغريبة من عمق الواد الجاف و بمنأى عن الشمس … و تارة تغني أغاني عربية … ووالد ياسمينة الحاج سلمان المسن و أمها حبيبة لم تعد في ريعان شبابها بل هي الأخرى صارت عجوزا مثل المومياء بعد أن قدمت الكثير من الأعمال للكوخ و لحقل الشعير الصغير…. .

و يسمينة لها إثنان من الأخوة الكبار التحقا بالعمل في صفوف السبايسية و تم إرسالهما الى الصحراء بعيدا ….و أختها الأكبرمنها فاظمة تزوجت بدوار أولاد (مريم) و لم يبق في الكوخ الا إخوتها الصغار……

و أكبرهم لم يتجاوز الرابعة عشر من عمره .. و بالتالي إشراقة الفجر في شفق حزين .. يسمينة الصغيرة مازالت ترى مرور ربيع مشابه لما هو في ذاكرتها …. و ذات مساء ومع بدء حلول فصل الصيف عادت يسمينة صاعدة هضبة (تمقاد ) … بقطيعها مع آخر إشعاع للشمس .. حينها يسمينة كانت تغني أغنية صحراوية مضمونها كلمات تعزي بها نفسها عن غياب أخيها سليمان الذي لم تره منذ سنة و الذي تحبه كثيرا ( يا القسمطينية / واش جابك هنا / أنت الي مكيش من بلادي / يا الي معيشتك مهيش في الرملة تعميك / يا القسمطينية جيت ومني أخذيت قلبي / و لوطنك أديتيه /حلفت ترجعي / وبإسم العالي / وقتاش ترجعي للنخلة / وقتاش ترجعي للواد / واذا ملقيتنيش في البيت البكاية / فتشي عني في دار الدايمة .

و تدريجيا تعلو الأغنية الحزينة الفضاءات غير المحدودة و ببطء أشعة الشمس تتلاشى في ربوع السهل ….وحينها كانت روح يسمينة البسيطة ساكنة … نعم كانت روحها هادئة و عذبة و تشبه برك الغدير التي تتركها أمطار الربيع في المراعي الإفريقية و الذي لا يعكسه أي شيء ماعدا زرقة السماء اللامتناهية دون ضباب……. ..

عند دخولها أخبرتها أمها بأنها ستتزوج بمحمد لعور ـ القهواجي ـ من باتنة .. حينها يسمينة بكت لأن محمد ( أعور ) و سيء الأخلاق … و لم تتحمل صدمة المفاجأة غير المتوقعة لهذا الزواج … ثم هدأت من روعها و إبتسمت مستسلمة لما يعرف بالمكتوب و تمضي الأيام و يسمينة صارت لا تتردد على الرعي و صارت تكر س جل وقتها في إعداد لباس الزفاف …و لا أحد فكر في معرفة إنطباعها إزاء هذا الزواج ان كانت سعيدة به أو لا … و الذي حدث أنهم زوجوها ( بالأعور) و لا فرق بينه و بين أي شخصآخر و هو ما هو معمول به أنه لا مكان للرضاء أو إعتبارات أخرى…. أيضا يسمينة سيكون مصيرها أفضل من رفيقاتها في القبيلة التي سوف تغادرها فهي على الأقل سوف تسكن في المدينة و تصبح مثل الحضريات من اللائي تتوفرن لهن الرعاية و العلاج و التربية الراقية للاولاد……

ومع ذلك يبقى إرتياحها منقوصا … لأن الأطفال الرعاة صاروا يعيرونها ب ـ امرأة لعور ـ و تجنبا لهذه الاهانات صارت لا تذهب برفقة النساء لجلب الماء من الواد عند مغيب الشمس … و ما تجدر الإشارة اليه وجود نافورة في ساحة البرج لكن الحارس الرومي يمنع السكان الأصليين من التقرب منها لجلب الماء العذب و الصافي ,, و مسموح للسكان بالتزود من ماء الواد المالح فقط و الذي تنجر عنه الكثير من أمراض الحمى الخبيثة من جراء دوسه من قبل كل البهائم صباحا و مساء وتبولهم عليه..

ذات يوم إتصل الأعور بوالد يسمينة و أخبره بانه ليس جاهزا لإقامة العرس قبل نهاية الخريف فقد تعذر عليه توفير المال المطلوب لدفع الصداق و تغطية مصاريف العرس و في هذا الحيز الزمني يسمينة أكملت ما يتطلبه الزفاف من إستعدادات و صارت جاهزة …

أحمد من جهته إستخلف أخته في رعي الغنم و لكن ما سلف ذكره لم يدم طويلا بسبب مرضه فعادت يسمينة ثانية الى الرعي…….

وسارت في ركاب أحلامها الغامضة بعذريتها البدائية حيث لم يغير قرب زفافها أي شيء في حياتها فيما يتعلق بالأمال و الطموحات و في كلمة واحدة فهي تبدو مثل فاقد الوعي . …

و فجأة يطرأ طارئ في حياتها وهو ظهور شاب فرنسي تم إنتدابه الى المكاتب العربية حيث إنتقل حديثا من فرنسا الى باتنة بناء على طلبه بسبب قرفه من العيش في الثكنات العسكرية في مدينة ـ سان كير الفرنسية ـ و هو الذي كانت روحه مشدود ة الى خوض المغامرات الحالمة …و سريعا صار هذا الشاب الفرنسي في مدينة باتنة صيادا …يقطع المسافات الطويلة في البراري الجزائرية التي سحرته طبيعتها و بجمالها الفريد من نوعه … فقد كان في أيام عطله وفي كل يوم أحد يفضل أن يكون وحيدا عند بزوغ كل فجر في الممرات الجبلية الوعرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى