مقتطف حنان عبد القادر - شتاء.. من مجموعة مقالات: " ماذا لو ؟"

أقبل الشتاء ، وأقبلت معه زخات المطر وسكون السحر ، وتعانقت فيه أنفاس البرودة وأحضان الدفء ، أحن فيه إلى خبز جدتي وطهوها البسيط ، ونحن نتحلق دوة الجمر نستدفيء بشعاعها وحنان حضن الجدة الممزوج برائحة الطين اللبن المعتقة بالجدران.

يطرق المطر سطح بيتها المصنوع من السعف فتساقط علينا بعض قطراته في غير مكان ، نركض في أنس من عمل مفاجئ نسعد به ، نضع بعض الأواني تحت القطرات كيلا تفسد الأرض ، ونظل نعدها : واحد ، إثنان ، ثلاثة ... الخ ، ننتظر في ترقب من الذي يسعده المطر ويملأ دلوه .

كثيرا ما يمنحنا المطر الفرصة للركض تحته ، ندور في حلقات مشبكين أيادينا ، رافعين وجوهنا للسماء نغسلها بمائه المفارق توا يد خالقه ، نرفع عقائرنا في نشاذ طفولي لذيذ : " شتي يادنيا شتي واروح لستي ، تعمل لي فطيرة ، واقعد ع الحصيرة ، آكلها وأنام مع الحمام ."

وتصنع لنا الجدة الفطيرة معجونة بسنا خيال محلق ينبعث من حكاياها ، تسري طاقتها في عروقنا سحرا ، وخدرا يحملنا على بساط نعاس وثير يحلق بنا في سموات الحلم .

كلما أقبل الشتاء ، وامتلأت رئتاي بأنفاسه ، مر طيف طفولتي في حضنها – جدتي – وتقلبي في وثير صدرها ، يداعبني عبق الحناء من جدائلها الطويلة ، فأردد مع نزار :

إذا أتى الشتاء
وحركت رياحه ستائري
أحس يا حبيبتي
بحاجة إلى البكاء


إذا أتى الشتاء
وانقطعت عندلة العنادل
وأصبحت كل العصافير بلا منازل


يغمرني شوق طفولي إلى البكاء
على حرير شعرك الطويل كالسنابل
كمركب أرهقه العياء
كطائر مهاجر
يبحث عن نافذة تضاء
يبحث عن سقف له
في عتمة الجدائل

كلما أقبل الشتاء خاصة مع بدء ديسمبر – شهري الذي ولدت فيه – يملؤني هذا الحنين ، وشجن لذيذ وطؤه على الروح ، فأدعو للجدة وكل الجدات اللائي علمننا بحكاياهن معنى الحياة ، يا الله !! ، ماذا لو حاولنا - نحن الأباء – أن نصنع بهجة الذكريات في نفوس أبنائنا ؟ !، أن نترك بصمة باقية كبصماتهن ؟! ، أن نحيي ذكراهن في حياتنا ، نتخير من أثرهن ما يُرَقِّي الوجدان ، وتسمو به الروح ؟!، فطوبى لهن ، وطوبى للسابقين الصالحين المصلحين .



· كاتبة مصرية

[email protected]
  • Like
التفاعلات: وليد الزوكاني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى