جعفر الديري - الكعبي: (مابعد النسوية) تقويض حقيقي لفكرة المركزية النقدية الغربية

قالت أستاذة السرديات والنقد الأدبي الحديث المساعد بكلية الآداب بجامعة البحرين الناقدة البحرينية د.ضياء الكعبي ان (مابعد النسوية) في مرحلة (مابعد الكولونيالية) و(مابعد الاستعمارية) تشكل تقويضا حقيقيًا لفكرة المركزية النقدية الغربية المهيمنة منذ قرون في المشهد النقدي العالمي.
جاء ذلك في ورقة بعنوان (الأنا والآخر وتحولاتهما المعرفية)، شاركت بها د.الكعبي، يناير الماضي في أبوظبي، خلال ندوة "الثقافة وبناء الهوية بين الأنا والآخر"، ضمن فعاليات المؤتمر العام الـ 27 لاتحاد الكتاب العرب.
وتناولت د.الكعبي الإشكاليات الكبرى والتحولات المعرفية العميقة التي طرأت على مفاهيم ثقافية هي "الأنا" و"الآخر"، مركزة على تحولات هذين المفهومين في الدراسات الثقافية cultural studies وفي دراسات خطابات ما بعد الكولونيالية (مابعد الاستعمارية) وتحيزات الخطاب والنقد الثقافي على اختلاف اشتغالاته وتعدد مرجعياته النقدية والثقافية والفكرية.
وعرضت د.الكعبي لمحاور عدة منها تودوروف واستنطاق خطاب الهيمنة، ومفهوم الآخر في اشتغالات خطاب مابعد الكولونيالية وخاصة عند بيل أشكروفت وتوني موريسون، ومسألة الآخرية في الكتابات مابعد الكولونيالية.
الآخر مفهوم ملتبس
وقالت د.الكعبي: لقد شكل الآخر ولايزال يشكل مجالا لإشكاليات عدة منها السياسي والثقافي لارتباطه بمفهوم الهوية، وهو مفهوم ملتبس وعرضة لتأويلات عدة لدى الفلاسفة والمنظرين على اختلاف مرجعياتهم وخلفياتهم المعرفية؛ وكل واحد منهم يجذبه إلى منطقة اهتماماته واشتغالاته.
وأضافت: يعد المفكر الفرنسي من أصل بلغاري "تزفينتين تودروف" واحدا من أكثر المشتغلين على تفكيك خطاب "الأنا" و"الآخر" من خلال مقاربات تميزت بقدر كبير من الجدة والطرافة حتى في توظيف المناهج خاصة في كتبه "البرابرة وصدام الحضارات" و"نحن والآخرون" و"فتح أمريكا" و"مسألة الآخر". ولا ينكر تودوروف التكرار في التاريخ ولكنه يرى إمكانية تجاوزه من خلال آليات المعرفة والإرادة، ومن خلال "التاريخ الأمثولة". ولهذا يستنطق تودوروف في هذا الكتاب المسكوت عنه كي لا يتكرر. لقد أورد تودوروف في كتابه أنموذجا دالا على أمثولته العميقة عندما أورد حادثة امرأة من المايا قدمها الإسبان فريسة للكلاب لأنها رفضت أن تعطي جسدها لرجل آخر غير زوجها. والحل عند تودوروف يكمن ليس في تقديم امرأة إسبانية كي تكون فريسة للكلاب، الحل عنده ليس من خلال الانتقام وإنما من خلال الحوار الحضاري الخلاق بين الشعوب لتقليص الفوارق الكبرى التي تسبب الكراهيات التاريخية العميقة في عالم أصبح يئن من حروب هي إرث لتراكمات تاريخية وحساسيات كبرى منذ قرون.
وتابعت د.الكعبي في السياق نفسه: اشتغل النقاد ما بعد الكولونياليين بيل أشكروفت وغاريث غريفيث وهيلين تيفن في كتاب "الرد بالكتابة" على قضايا تفكيك هيمنة الخطاب الكولونيالي (الاستعماري) في كتابات المستعمرَين سابقا. ويشتغل خطاب المستعمرين على تفكيك خطاب "الآخرية" لتقويض المركز من خلال آليات بالغة الخطورة الثقافية، تبدأ في عمليات من التهجين إلى التوفيقية إلى الإقصاء والاستيعاب لخطابي المستعمر والمستعمر.
ولفتت إلى كتابات الروائية والناقدة الأفرو أمريكية وأستاذة الأدب الإنكليزي بجامعة برينستون للآداب توني موريسون، عام 1993، بوصفها تمثل وبعمق تمثيلات الأسود في المجتمع الأمريكي من خلال كتابة روائية سوداء اشتغلت على ما يسمى في الأوساط العالمية ما بعد الكولونيالية "الأدب الأسود"، موضحة أنه رغم ادعاء موريسون الموضوعية في تصديها النقدي إلا أن كتابتها بالفعل رسخت هيمنة مركزية جديدة أتت بوصفها خطابا مضادا مناهضا لمركزية قديمة حاكمة. أي أننا لانزال في خطاب توني موريسون أمام الفعل ورد الفعل والخطاب والخطاب الآخر الناقض لأطروحاته والمفكك لها.
ورأت الأكاديمية والناقدة البحرينية في مابعد النسوية في مرحلة (مابعد الكولونيالية) و(مابعد الاستعمارية)، تقويضًا حقيقيا لفكرة المركزية النقدية الغربية المهيمنة منذ قرون في المشهد النقدي العالمي؛ إذ قوضت مابعد النسوية هذه المركزية الغربية أو خطاب (الأختية أي النسوية البيضاء) الصادر عن ناقدات أنجلو سكسونيات وفرانكفونيات، مشيرة إلى ان "النسوية البيضاء" نقضت بدخول ناقدات آسيويات وأفريقيات ولاتينيات "من أعراق ملونة" ينتمين إلى ما اصطلح على تسميته "العالم الثالث"، مما يؤصل خطاب التعددية الثقافية والقبول بالغيرية والآخر المختلف.
مفاهيم جديدة تتبلور
وبينت د.الكعبي أن هناك مفاهيم ومصطلحات ثقافية جديدة آخذة في التبلور نتجاوز بها ثنائيات ثقافية كبرى مثل "الأنا" و"الآخر"؛ فعلى سبيل المثال اشتغل عالم النفس الثقافي ريتشارد نيسبت على "جغرافية الفكر"، وهو مصطلح جديد اجترحه للحديث عن التباينات المختلفة بين مختلف الشعوب الشرقية والغربية متجاوزا ثنائية الأنا/ الآخر. ويذكر نسبت في كتابه "جغرافية الفكر، كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف ولماذا، من خلال الحادثة الآتية، إذ يقول:"منذ بضع سنوات بدأ طالب صيني نابه يعمل معي في بحث قضايا عن علم النفس الاجتماعي والاستدلال العقلي، وذات يوم، ونحن لانزال في بداية "تعارفنا"، قال لي: هل تعرف أن الفارق بيني وبينك أنني أرى العالم دائرة وأنت تراه خطا مستقيما". وأردف الطالب الصيني موضحا فكرته: يؤمن الصينيون بالتغير المطرد أبدا، لكن مع إيمان بأن الأشياء دائما وأبدا تتحرك مرتدة إلى حالة ما كانت في البدء. إنهم يولون اهتمامهم لنطاق واسع من الأحداث، يبحثون عن العلاقات بين الأشياء، ويظنون أنه لا سبيل أمامهم إلى فهم الجزء دون فهم الكل. هذا بينما يعيش الغربيون في عالم أبسط حالا وأقل خضوعا للحتمية، إنهم يركزون انتباههم على مواضيع أو أناس لهم وجودهم الفردي البارز دون الصورة الأكبر. ويظنون أن في وسعهم التحكم في الأحداث لأنهم يعرفون القواعد والقوانين الحاكمة لسلوك الأشياء".
وواصلت القول في الموضوع نفسه: أما الأكاديمي الفرنسي وأستاذ الجيو تاريخ في جامعة باريس وفي معهد العلوم السياسية كريستيان غراتالو فقد دعا في كتابه "هل يجب التفكير في تاريخ العالم بطريقة أخرى؟" إلى إعادة كتاب تاريخ العالم من جديد بعيدا عن هيمنة المركزيات الأوروبية التي فرضت تصورا معينا للعالم هو الاكتشافات الأخرى ثم عصور الاستعمار ثم فرضت التصورات الأوروبية في كتابة التاريخ بوصفها المرجعية المركزية الحاكمة في علاقة الأنا بالآخر، لافتة إلى أن هناك اهتماما في بعض الجامعات الأوروبية والأمريكية بتاريخ ودراسة المستقبليات Future Studies، وهو تاريخ يتجاوز الثنائيات المنمطة الأنا/ الآخر إلى الاهتمام بسرديات كونية كبرى وتاريخ كوني يحتفي بالتعدديات والاختلاف الثقافي الخلاق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى