أحمد الويزي - يدهـا

لأن اليد ـ مثلما يرى ـ هي الأصل، فقد قرر أن يخلد يدها...

يدها التي لاتشبه بقية الأيدي.. كل الأيدي...

اختار أن ينحتها، ويحتفظ بها لنفسه.. أن يجعلها أهم أعماله.. أفضلها على الاطلاق.. أقربها إلى وجدانه.. مقدودة بعناية فائقة.. مترعة بحساسية صافية مبلولة.. مشبعة بنسغ رؤياه الفنية المتوهجة.. يدا فريدة.. خاصة.. منحوتة بازميل الذكرى وأصابع القلب.. نسخة منها ومنه .. منهما معا.. لن تكون بالتحديد، نسخة.. ستكون قطعة فنية تستحضر الأصل لتخترقه وتضاعفه، دون أن تنتقص منه أو تضعفه.. تحفة حية على الدوام، ومشعة.. ليس بالضبط حية أو مشعة، بل ستكون هي نفسها الحياة التي غرستها تلك اليد الفريدة الخاصة في تربة مشاعره وادراكه، قبل أن يواريها التراب والغياب... لذلك قرر أن يخلد يدها بالذات، لأن اليد ـ مثلما يرى ـ هي الأصل...

غير أنه لم يحتفظ من ذلك الأصل سوى بذكرى غائمة.. نتف متراكبة منخورة.. طبقات متفسخة تندغم فيما بينها بكيفية مخاتلة.. يكتنفها دوما لفيف غموض وحنين.. صور من ذاكرة قرضتها ديدان الرتابة والاستيحاش، فغدت مجرد جزئيات ناقصة ومتناثرة...

شعر أن ثمة مسافة بين الذكرى والمثال.. هوة فارقة بين الفكرة والأصل الذي كان...

يتذكر يدها، ولايذكر تفاصيلها بوضوح لازم.. الوضوح الضروري لاستخلاص لانطلاقة الأولى.. الشرارة الحاسمة في بدء الاحتكاك بالمادة.. الدفقة التي تفتق حجب التردد، لتساهم في اشتغال الأصابع قصد تطويع الكتلة النكرة المثقلة بالخرس والغموض.. يعرف أنها يد فريدة.. استثنائىة.. خاصة جدا.. لاتشبه بقية الأيدي.. كل الأيدي.. غير أنه لم يحتفظ في ذاكرته سوى بدفئها الذي طفق يفتر.. حرارتها التي أخذت تبرد في قاع الصور المبهمة المترسبة في جراب الذاكرة.. لمساتها الطازجة متخللة شعر الرأس وشعيرات الصدر، وقد صارت مجرد لقطات مبثورة مقطوعة في شريط التذكر العصي الصعب.. فكيف السبيل إلى تخليد يدها الدافئة الحارة والطازجة؟...

فكر أن يستغيث بالنسخة، ليبعث الأصل من رميم الغياب.. أن ينخس كوم الركام المستغور في جوفه ببعض التفاصيل المصورة، حتى تنهض لمحة البداية بارقة في ذهنه، فينشغل عن النسخة الهامدة الهادئة بالأصل المنبعث فيه كطائر الرماد الأرعن.. غير أن ماكان يكبس عليه هو أن النسخة شحيحة.. ضنينة.. بروزاتها الشبحية لاتسمن ولاتسكت جوع طموحه المتطلع إلى الوضوح اللازم.. ألبوم الصور القديمة لايحتفظ سوى بالجذع الجامد، والوجه الذي يرسم ضحكا مدويا بالأبيض والأسود... ثم لاشيء على الاطلاق...

فكر من جديد أن يرتق تجاويف النسخة بأطياف صور تذكره بها.. صور ليست لها.. غير أنها قد تعينه قليلا في رسم دفئها المنفلت، وحرارتها الساردة في الغياب.. لذلك حمل آلة التصوير، ورحل يلتقط الصور.. صور الأيدي التي مرت به فاجتذبته، قبل أن يقرر تخليد يدها.. الأيدي التي يعرف.. ربما رآها مرات.. خمن أنه رآها مرات ومرات.. أيد كثيرة لاتشبه يدها أبدا، غير أنها قد تساعده على استحضار الذكرى كاملة.. أيد رآها تسلم، ثم تودع.. تأخذ، ثم تعطي. تعلو.. تنخفض.. تتقدم.. تنسحب.. تتكلم في صمت.. تفكر.. تعبر عن خلجات دفينة.. تتمطى مثل قط مدلل.. تكتب بالصمت حينا، وبالصراخ.. ترسم بلالون.. ترقص بلاموسيقى.. تشرد.. تستفيق.. تطير كالفراشات.. تزهو.. تخاتل وتراوغ كأنثى.. تشير إلى أمكنة مخصوصة.. أزمنة أثيرة.. تعد.. تتوعد.. تتهم.. تهتم بما يدور حولها.. أيد دافئة حينا.. باردة أحيانا.. محايدة.. أيد اسفنجية.. ندية.. جافة.. أيد بيضاء، وأخرى ملطخة.. أيد تكذب.. أخرى تبالغ.. أيد رآها تندفع بقوة.. تهجم وتتحدى.. تفر ثم تتقلص.. تستجدي.. أيد تضحك بقوة.. أخرى تذرف دمعا مثل أطراف الزجاج، حادا ولامرئيا.. أيد كبيرة.. صغيرة.. كثيرة.. أصر على أن تقتنصها آلة التصوير، عسى أن تستثير ذكراها فيه لتنهض بداخله التفاصيل البعيدة.. تفاصيل يدها التي كانت.. النتوءات البارزة نفسها.. الخطوط المائزة المميزة التي بعضها ظاهر، وبعضها يتخفى وراء المسام والشعيرات الصهباء التي لاتكاد تبين.. دقتها المستدقة.. مقدار الرهافة ذاته.. ملمسها الرهو.. لونها الوردي المشرب ببياض حليبي.. لون أضافرها المتدرج المتموج.. الجلدة الملساء التي تخفي شعيرات الدم الرقيقة الحمراء...

تراكمت على أرضية المعمل صور الأيدي ذات الأشكال والأحجام المختلفة.. ألصق بعضها على الجدران، ونثر الباقي على الأرض.. صار معمل النحت شبيه حقل منذور للتجربة.. وكأن الأصابع المطلة من الصور حبات جزر تندفع باتجاه الهواء والضوء.. بدا هو وسطها، شبيه مزارع تغوص قدماه في تربة ريانة مترعة بحياة خاصة.. صار يدور حول الأرضية والجدران.. لمرات صار يدور.. وكأنما هو عباد شمس راح يدور، ولايهدأ له بال.. تاه وسط الأيدي المسمرة الساكنة.. بحث عن تفاصيل كانت هناك في الذاكرة.. عن أشياء دقيقة رقيقة لاتراها إلا عين فنان مثله.. أشياء خاصة توزعها الأيدي المصورة بينها بالتساوي، ربما حركت ركام الذكرى.. بحث بعيني رأسه وعقله عن التفاصيل التي لاتظهر على الصور المتناثرة.. تفاصيل خاصة ليد تسكنه رغبة تخليدها.. يد دافئة وطازجة كانت، قبل أن تستيقظ في داخله الرغبة فيقرر نحتها.. يد أخرى غير هذه التي تسيج رؤيته، وتطوقها.. مختلفة.. ذكراها بعيدة، بقدر ماهي عنيدة.. لاتشبه الأيدي.. كل الأىدي.. يدها الفريدة.. سيدة الأيدي كلها..

ـ سأجن، قال لصديقه.

ـ جرب شيئا آخر، نبس فم الصديق في هدوء ممطوط.

ـ لاشيء يعادل يدها عندي، رد وهو يطوف حقل الصور.

ـ تستطيع أن تنحت وجهها مثلا.. لماذا لاتحاول نحت الوجه؟

ـ اليد وجه كذلك.. بل هي الوجه الحقيقي.. هي الأصل.. باليد يعقد الانسان اتصاله الأول مع الموجودات.. مع المسافة والصلابة والرخاوة المحيطة بالكون، ليحرر الفكرة من ربق المادة الصماء.. الأيدي هي التي تحرر الكتلة الخرساء من الصمت، وتفرض عليها الشكل والمعنى.. الأيدي وجوه بلا أعين أو أفواه، غير أنها ترى وتتكلم.. ولأن يدها فوق كل الأشياء المحتملة، قررت أن أخلد يدها.. يدها التي لاتشبه هذه الأيدي.. يدها التي فوق كل الأيدي..

راح يدور ويتوقف.. للحظات راح يستطلع الصور المحيطة، ويتأملها.. يزداد جنونه كلما أدرك الفرق.. ثمة نتوءات وخطوط لاتتماثل، وان تشابهت.. تقويسات الأظافر وحوافها الطويلة أو المكسرة، غيرها تماما.. ازداد يقينا أن المسافة بين الرغبة التي تسكنه والأطياف المصورة، مسافة فارقة.. والمفارقة في النحت ـ مثلما يرى ـ غيرها في الشعر والرسم.. سر خلود المنحوتات الجميلة في التماثل والقرابة لافي المسافة والمفارقة.. الجمال في النحت، اتصال واقتراب.. الجميل انصهار بين المثال وصورته.. توحدهما المطلق، رغم مسافة المادة.. رغم سكونها وصمتها وبرودتها.. لذلك وثب على الصور وخرقها.. جمع المزق في كومة ثم أشعل النار، فاشتعلت في جوفه نيران...

فكر من جديد، أن يبدأ معتمدا على تصوره الخاص...

حينما يعجز عن التقاط خيط البداية من حوله، يعتمد على حدسه.. يتلوى مثل أفعوان هاجع على نفسه أولا، ثم يمكث منتظرا.. يمكث كذلك، وقتا طويلا.. إلى أن تصدر عنه هزة كهربية في شكل انتفاضة.. وكأنها فرقعة غاز ظل يتجمع بين حنايا فضاء مغلق، في انتظار أن تندلع شرارة ما.. بعد ذلك تهتز أطرافه كلها.. غالبا مايفاجئ الأصدقاء.. تأتي الهزة على هيئة يقظة عفية تسكن كافة أطرافه وحركاته.. ثم تتوالى الحرارة، بينما الأطراف تشتغل.. تتحمس أكثر.. يستغرقها الانشغال المندفع المتدافع، إلى أن يختلط عليه توالي الليل والنهار، فينهار...

جمع عناصر الخليط، وراكب بينها.. أحس باندماج شامل مع المادة.. يعلم أنها العتبة المطلوبة حتى يجعل الموضوع منيعا طيعا بين يديه.. منيعا طيعا، وغير رخو.. متعة النحت تكمن في الجمع بين أطراف هذه المعادلة الشقية.. التصدي لهذا التناقض الصعب.. مطاوعة المنيع وممانعة الطيع.. الحفاظ على المسافة اللازمة لاستقلال المادة.. سر الابداع كله ـ مثلما يرى أكثر الأوقات ـ يكمن في هذه المسافة اللازمة...

غاصت أصابعه العشرة في الخلطة.. دارت وغارت بمقدار محسوب.. توالى الغوص والدوران بإيقاع يشبه همة الأمهات في صنع الخبز.. كانت يداه تتحركان بخفة، بعد أن أحس بتمنع الكتلة.. اندفع يطوق الخليط الجيري ليكبس جموحه.. تمازجت حرارته بالمادة.. للحظات أحس بدفء غامض يخترق ساعديه، ويسري باتجاه زمن جميل.. هل هو دفؤها؟.. ذكراها المخاتلة شجعها الاتصال بالمادة العنيدة فطفقت تهب من غيابها السادر فيه؟ .. بقايا الطزاجة المنيعة تنهض من رمادها لتعانق طقس الاتصال الخصيب؟..

تأكد أنه يشرف على العتبة الفاصلة بين زمنين.. لم يعد يحفل بشيء آخر خارج زمن الاتصال بالذكرى، عبر جسر الكتلة.. صار أكثر اقتناعا بأنها امتداد لدواخله وأطرافه.. صار يحس بيدها فيه.. بتحركها مثل تيار جامح.. بالفكرة طيعة، تمانعها المادة إلى حين.. أية ممانعة ممتعة؟┴ .. شعر بقرب الانتصار.. وكأن يدها ترافق ماتقوم به يداه.. وكأنه يشتغل بثلاثة أيد عفية.. ليس تماما ثلاثة.. يحس أن يدها تشرف على عمل اليدين الصلبتين فقط، دون أن تتدخل...

اشتدت متانة الكتلة الجيرية.. تصلب جسمها أكثر.. أدرك أن الوقت قد حان لتطويق فجاجتها.. تقليص الابهام بالحذف والتشذيب.. اختزال المسافة الفاصلة بين المثال والأصل، من خلال الفكرة التي صارت تنوب عن ذكراها...

حينئذ، استند إلى أدواته الحادة...

حاصر الكتلة الفجة من كافة الجهات والأطراف.. اندفع.. أخذته حماسة الاشتغال.. واصل أعمال التشذيب والتقليص.. بهمة عالية، واصل حذف الزوائد.. هذب الحواف من الشوائب.. ركز على أطراف الأصابع كي تبدو متناسقة دقيقة.. صعد باتجاه تقويسات الأظافر.. هبط.. حدد البروزات اللازمة.. تحمس أكثر.. استبدل الأداة بأخرى أحد وأسن.. ظل يهاجم تنطع المادة.. ثقلها.. برودتها وصمتها الذي يصرخ بين يديه.. دونما هوادة ظل يعمل ويعمل.. اختلطت عليه المواقيت.. لم يعد يأبه سوى لتقويمه الزمني الداخلي.. لإيقاع الزمن المتدفق من بين يديه، ومن أعماقه.. راوح بين الاقتراب والابتعاد.. خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام.. تكتيك مراوغ ومحسوب.. كر داهم، بعده فر..

وحين يقترب، تغور عيناه في سديم الذكرى.. تبحثان عن آثار أثيرة.. عيون أصابعه العشرة تبحث كذلك.. لسان المبرد يلحس المسافة ويقترب.. اهتز أكثر.. شعر أن الطريق إلى الذكرى الطازجة يتقلص بين يديه.. استعاد بعض الخطوط والانكماشات.. استطاع أن يستعيد ذلك من خلال دفقة سريعة.. صار يتشجع ويستميت.. لم يكن المبرد ينكش المادة النكرة وحدها، فقط.. على صفحة ذكرياته الغائمة كان النكش يقع.. يحس المبرد يلحس أطراف الوقائع والأحداث المتلبسة.. يقلب النثار المترسب، ويحتك بفراغ أجوف..

فجأة، حدثت في داخله التماعة خاطفة غير متوقعة.. أحس آثار لمستها الأولى تنفجر في حقل شعره وزغيباته، شظية فشظية.. وكأن يدها تخرج من بطن الغياب.. يدها الفريدة.. الخاصة.. وكأنها تولد للتو.. يراها تصعد إلى الرأس.. تغور أصابعها في شعره.. يحس دفء أصابعها اللذيذ.. تتحول يدها برفق.. تهبط على القفا.. حارة وطازجة يحس بها على جلدة القفا.. تتصل بالصدر.. أية متعة┴┴.. تنتشر في أطرافه قشعريرة عذبة.. يتلذذها.. مذاقها يتسرب إلى فمه.. ينبجس بين حناياه رضاب خاتر.. تتيقظ حلمتاه المدببتان.. يحس نبضه يتسارع.. كلامه يتعطل مثل يده، فيتوقف الزمن كله.. اية أبدية أمتع وأعذب من النحت؟┴..

في ذروة هذه اللحظة، توقف.. أغمض عينيه أولا، ثم ألقى بالمبرد على الأرض، وتهالك على الأريكة..

ـ هذا رائع، قال صديق زائر.. يد مبدع حقيقي┴..

ـ يد فنان خبير، علق آخر يرافقه.

ـ مستحيل، قال هو في نفسه.. هذه مجرد كتلة باردة.. مجرد يد.. يد جيرية.. ي.. ياه┴ لكم كانت دافئة وحارة وطازجة┴┴

ثم قرر أن ينزوي في أريكته، ويغمض عينيه براحة يده اليمنى..

ربما لينشغل عمن يحيط به في القاعة الغاصة.. ربما لأنه شعر فجأة، بوعكة صحية.. أو ربما ليجرب من جديد، الاتصال بلمسة يدها الدافئة.. يدها الفريدة.. سيدة الأيدي.. تلك التي لاتشبه أية منحوتة أو قصة قصيرة.. يدها...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى