جعفر الديري - مسجد الخيف.. صورة من براءة الطفولة

بات هذا المسجد جزءاً من ذاكرة الطفولة والصبا. حتى بعد إعادة بنائه، وظهوره بشكله المختلف كلياً عن السابق؛ مازال أبناء الدير يحفظون صورته القديمة بسوره الأبيض، وأرضه الخلاء، وبنائه ذي الأعمدة. أما مئذنته فلا يوجد أحد من أترابي في المرحلة الابتدائية لم تكن له معها ذكريات عذبة!.
كنا نغافل قيم المسجد، عندما يكون الطقس أثيرياً، ونصعد السلم إلى أعلى المئذنة، والنسيم العليل، يداعب أنوفناً بعذوبة، نشاهد عجباً... البيوت والشوارع، والشباب الجالسين عند الدكاكين، وجمال قرية الدير، وهدوءها، موقف يجل عن الوصف، لشدة جماله وروعته!.
كنا نخرج زرافات من مدرسة الدير الابتدائية للبنين، حاملين حقائبنا السوداء على ظهورنا، وكان هذا المسجد وجهتنا الأولى، قبل الذهاب إلى البيوت. نصلي لكي نستمتع بوجبة الغداء دون مشقة الصلاة بعد انتفاخ البطن من الرز والسمك أو الدجاج!.
هناك كنا نقابل دائماً المرحوم أطيب الناس قلباً أبوداوود رحمه الله، مفترشاً الحصير «المدة» يصلي، بصحبة رجل آخر لا تسعفني الذاكرة على تذكر اسمه. ما أن ننتهي من أداء الفرض حتى نهرع لنسلم عليه فنقول «غفر الله لك»، وكان يبادلنا بروحه الطيبة القول «وغفر الله لكم». كان يفضل الأرض الخلاء في المسجد على الداخل، أرض ممتدة بتراب طيب، تشعر معه بألفة غريبة، كأنما كان يحتضن أقدامنا بمودة.
هذا المسجد لم يكن مهماً بالنسبة لنا كأطفال فقط، كان الجميع يشعرون بمودة تجاهه، إن صلاة الجماعة تقام فيه دائماً، والاحتفالات بالمواليد والوفيات جزء من نظامه اليومي، وكل من أراد أن يبلغ الناس بأمر مهم، فإن أفضل طريق إليه هو هذا المسجد. كذلك كل من توفي إلى رحمة الله تعالى، فإن طريقه للقبر يمر عبر هذا المسجد، عبر غرفة غسل الميت المرفقة به «المغيسل». هنا كان ينادى «من أراد الأجر والثواب، فليأت لتشييع فلان من النـــاس». وإلى هذا المسجد كان يهرع الناس، ليحملوا الميت لمثواه الأبدي.
وإلى هذا المســجد كان يهرع المؤمنون لصـــلاة العيد، وصلاة الآيــات، وكـــل صــــلاة واجبه ومستحبة، وفي هذا المسجد كانت تقام ليالي القدر المباركة. وفي يوم الجمعة بالذات؛ كنت تشاهد عالماً من الخلق، من شرق القرية وغربها وشمالها وجنوبها، يصطفون كالبنيان المرصوص، وتشعر برهبة المكان والأيدي ترتفع بالدعاء إلى الله تعالى في صوت واحد. وجوه لمصلين لاتزال عالقة بالذاكرة، بعضهم انتقل إلى جــوار الله تعالى، وآخرون مازالوا أحياء يرزقون. أبي رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جنانه السيد علي السيد حسن، وشقيقه المرحوم السيد حميد، وأخوه الذي لم تلده أمه المرحوم الحاج رضي المؤمن، والحاج علي المؤمن أطال الله في عمره. كان هناك أيضاً الحاج إبراهيم مؤذن المسجد رحمه الله تعالى. والسيد علوي زوج عمتي يرحمهما الله تعالى، بالتحديد لا يمكن أن تغفله الذاكرة، كان مسجد الخيف بيته الثاني، ولا أذكر أني دخلت هذا المسجد يوماً لم أجده فيه. أتذكره جيداً رحمه الله، وهو يسارع لدخول المسجد، للصلاة والذكر، وكأنه في سباق مع الزمن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى