أدب أندلسي د. صلاح فضل - المشاركة الحضارية في الأندلس

تمثل الأندلس في المخيال العربي صورة الفردوس, وقدارتبطت به عدة اوصاف منها أنه مفقود منذ سقوط غرناطة في يناير1492 م, وهناك من يصفه بأنه موعود للعودة في المستقبل كما جاء في برنامج حزب الاستقلال بالمغرب, وأحسب ان أوفق وصف له انه فردوس مشهود بمعني أنه يمثل شهادة تاريخية كبري علي تجربة حضارية تعتمد علي مشاركة الاعراق والثقافات, وتقدم نموذجا عاليا للتفاعل الحضاري الخلاق بعيدا عن نبرات الفقد الشجي وسراب الوعد المأمول.
والطريف ان شعراء الأندلس انفسهم هم الذين بدأوا تشكيل أسطورته الفردوسية, فكان ابن خفاجة ـ الملقب بالجنان ـ هو الذي قال:
يا أهل أندلس لله دركم
ما جنة الخلد إلا في دياركم
ماء وظل وأنهار وأشجار
ولو تخيرت هذي كنت أختار
وسوف نري استمرار هذه الصورة الحية في المخيال الشعري حتي موعد السقوط الذي شبه بخروج آدم من الجنة, وما نركز عليه الآن هو خلاصة هذه التجربة التاريخية الفذة, ومنجزها الحضاري وأبعادها الإنسانية في التشكيل المعرفي والثقافي الشامل لدورة الحضارات الوسيطة.
ملتقي الأعراق والثقافات:
وقدكانت الأندلس ما يسمي اليوم إسبانيا والبرتغال وما يتبعها من جزر تمتد من جبل طارق الذي اخذ اسم الفاتح العربي جنوبا حتي جبال البرانس شمالا, واستغرق عمرها التاريخي ثمانية قرون من بداية الثامن الميلادي حتي نهاية الخامس عشر اضافة الي السادس عشر الذي شهد تصفية الوجود الاندلسي.
لكن ابرز ظاهرة ديموجرافية جددت الطابع المميز للأندلس انه كان مصهرا للأعراق والاجناس المختلطة, اعتمد علي سياسة التكثيف البشري والتوليد العرقي مقابل نظام التفريغ السكاني الذي اعقبه في إسبانيا إثر انتهاء الاندلس من ناحية, والإبادة العنصرية التي قام بها الأوروبيون في القارة الأمريكية الجديدة في الآونة ذاتها من ناحية اخري.
وكان النسيج السكاني للأندلس يعتمد علي مجموعتين رئيسيتين عند الفتح, اولاهما تتشكل من الرجال الذين ينتمون الي القبائل العربية العدنانية والقحطانية ومن أهل الثغور الشامية والعراقية والمصرية, ومن أهل الشمال الإفريقي من البربر المسلمين, لكن هذه المجموعة التي يتجاوز عددها مائة ألف في تقدير الباحثين سرعان ما ذابت في بحر السكان الاصليين, وبعد ان كانت نسبتهم في الجيل الأول عشرة في المائة اصبحوا عدة اجيال مولدين كلهم, وبالرغم من نجاحهم في تعريب الأندلس وصبغة بالطابع الإسلامي فقد حافظوا علي ثقافة المدحبين المسيحية واحترموا إنجازاتهم العمرانية, وأبقوا علي اللغة اللاطينية التي لاستصبح فيما بعد رومانثية إسبانية, بل اتاحو الفرصة للجماعات اليهودية ان تستوطن الاندلس وتبعث لغتها العبرية وتؤسس عصرها الذهبي علي هامش الدولة المفتوحة.
ومعني هذا ان الأندلس كان مجمعا للألسن مثلما كان بوتقة للأعراق ولم يكن وحيد اللغة معربا صافيا كما توهمنا بذلك بعض الكتب التراثية, فقد كان الازدواج اللغوي هو الغالب علي مناطقه المسلمة والمسيحية معا, وهو ليس ازدواجا بين عامية وفصحي فحسب, بل بين العربية وهي لغة الدين والأدب والعلم والسياسة, وتلك الرومانسية التي لم تكف النساء عن استخدامها وتعليمها لأولادهن, وما ينشأ عنهما من عامية مهجنة مختلطة شائعة.
وإذا كانت الاندلس طوال تاريخها قد عاشت في رباط دائم حتي طويت صفحتها, فإن جذوة الصراع فيها لم تخمد طوال فترات طويلة, وكانت سنوات السلم ـ مثل سنوات الحرب ـ فاعلة في المزج بين مركبهاالثقافي الفريد الذي يغلب عليه العنصر العربي ممزوجا بالاخر اللاطيني ومحفوفا بالعنصر العبري الذي يقوم علي هامشهما العريض.
وإذا كان الشعر الاندلسي الفصيح هو الصورة الخالصة القريبة من الفنون المشرقية فإن الموشحات التي تميزت بها الأندلس وما تتضمنه من مقاطع ختامية تسمي الخرجة التي تكتب باللغة الرومانثية في معظمها هذ الشاهد الزدبي علي هذا التمازج, إضافة الي الزجل المكتوب باللهجة الاندلسية الذي يعتبر ابن قزمان مؤسسه في الثقافة المولدة.
لكن ما نطلق عليه المشاركة الحضارية لا يتمثل في اشكال الشعر بقدر ما اسفرت عنه التجربة العلمية في الأندلس في مختلف المعارف والأنواع من طب وفلك وزراعة وهندسة وعمارة, واساس كل ذلك في الفلسفة التي كانت رحم العلوم في العصر الوسيط والدور الذي لعبته العواصم الأندلسية الكبري ابتداء من طليطلة التي كشفت عند سقوطها عام1085 م عن العصب الحي للحضارة المولدة واصبحت اكبر مركز لترجمة العلم والمعرفة في العصور الوسطي, وقرطبة التي قامت فيها الخلافة وأنجبت ابن رشد وابن زيدون معا, وإشبيلية التي تعد عاصمة الحضارة الأندلسية.وكانت هذه العواصم تتنافس في أمجادها ومناقبها بكثرة العلماء والصناع وازدهار الحضارة والعمارة والنضارة, علي حد تعبير لسان الدين بن الخطيب الذي عاش في العصر الغرناطي الأخير.
وطن الحريات والفنون:
ربما كان من اهم النتائج التي ترتبت علي التعدد العرقي والثقافي في الأندلس هي هامش الحريات العريض الذي كان يتمتع به المجتمع في تجربته في التعايش والصراع معا, ولعل أمثولة المدن الأندلسية المتجاورة التي اشتهرت كل منها بألوان من النشاط الإنساني المبدع ان تكون نموذجا لذلك, فيحكي ابن زهر أنه عندما كان يموت عالم في إشبيلية تحمل كتبه لتباع في قرطبة, وعندما يموت مطرب قرطبة تباع آلاته الموسيقية في إشبيلية, ومعني ذلك ان كلتا المدينتين تزهو بالعلم والفن, لكن إحداهما يغلب علي أهلها تثمين العلم والأخري تتميز بالقدرة علي تثمين الفنون.
وأشد من ذلك دلالة علي شيوع مناخ التمازج الديني والتسامح الخلقي ما يرويه القشندي في رسالته عن فضائل الاندلس من أن نهر الوادي الكبير الذي تقع إشبيلية بمنازه لها وقصورها علي ضفافه المطرزة بالبساتين والكروم قد سعد بكونه لا يخلو من مسرة, وان جميع أدوات الطرب وشرب الخمر فيه غير منكر, لا ناه عن ذلك ولا منتقد, ما لم يؤد السكر الي شر وعربدة, وقد رام من وليها من الولاة المظهرين للدين قطع ذلك فلم يستطيعوا إزالته واهله أخف الناس ارواحا, واطبعهم نوادر, وأحملهم لمزاح بأقبح ما يكون من السب, قد مرنوا علي ذلك فصار لهم دينا حتي صار عندهم من لا يتبدل فيه ولا يتلاعن ممقوتا ثقيلا.
ولم يرض فقهاء الاندلس بطبيعة الحال عن هذا الكسر لقواعد الدين والأخلاق, فاجتهدوا لمقاومته, واعتبروه من النوازل الكبري التي تعدل سقوط المدن المعنوي الذي يسبق سقوطها الحربي ويمهد له.
أما قرطبة السلطانة الحزينة كما تسمي في الابيات الاندلسية, فلنسمع رثاءها علي لسان شاعرها ابن شهيد عقب تعرضها للفتنة في العهد العربي, حيث يتغني ـ لا بعلمها ومسجدها الجامع فحسب ـ بل بشكل عمرانها وازدهار الحياة فيها فيقول:
عهدي بها والشمل فيها جامع
...
يا طيبهم بقصورها وخدورها
والزارهرية بالمراكب تزهر
والجامع الأعلي يغص بكل من
ومسالك الأسواق تشهد أنها
يا جنة عصفت بها وبأهلها
من أهلها والعيش فيها أخضر
وبدورهم بقصورها تتخدر
والعامرية بالكواكب تعمر
يتلو ويسمع ما يشاء وينظر
لا يستقل بسالكيها المحشر
ريح النوي فتدمرت وتدمروا
وكان الزهو بالازدهار الثقافي خصيصة المجتمع الأندلسي, يتجلي ذلك في مظاهر العمران في بنية التخطيط المدني في طلطلة وفي قصور رشبيلية ومسجد قرطبة وجنة العريف وقصر الحمراء في غرناطة, بقدر ما يتجلي الحس التشكيلي في النحت والرسم وذوبان الشعر بالكتلة الحجرية والشجرة بالجمال الروحي, فحين فتح المسلمون الأندلس أبقوا علي التراث الروماني الذي وجدوه, وزادوا عليه في مرافقهم وقصورهم وحماماتهم تماتثيل فاتنة ولنقرأ ما يقوله شاعر أندلسي في تمثال العذراء:
ودمية مرمر تزهي بجيد
لها ولد ولم تعرف حليلا
ونعلم أنمها حجر ولكن
تناهعي في التورد والبياض
ولا ألمت بأوجاع المخاض
تتيمنا بألحاظ مراض
ومازالت مدارس العمارة والفنون والموسيقي الأندلسية تمثل صفحات وضيئة في العطاء الحضاري الذي اشتركت في إنجازه الثقافة المهجنة الممتزجة.
نموذج المرأة والحب ـ الخروج من الجنة.
لم تعرف الثقافة العربية عددا من الشواعر في أي مصر من امصارها مثلما عرفت في الأندلس, ويكفي ان تتصفح موسوعة مثل نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب للمقري حتي ندهش لعددهن واختلاف مستوياتهن الاجتماعية والثقافية, فالمرأة الحرة كانت تتمتع بطاقة الربداع وهامش الحرية أكثر من الإماء علي عكس المشرق في كثير من الاحيان, ويكفي ان نشير الي ثلاثة منتديات أدبية أدارتها ثلاث شواعر ينتمين الي الذروة الاجتماعية هن: ولادة بنت الخليفة المستكفي, وحفصة بنت الحاج الركونية, وحسانة التميمية كما ينبغي أن نشير الي أمرين في هذا الصدد:
أولهما: تحول نموذج الغزل في الاداب العالمية نتيجة لسمو وضع المرأة في الثقافة العربية الأندلسية واستقاء شعراء التروبادور والمنشدين الجوالين من معين الأناشيد العربية التي غزت اداب الفروسية الأوروبية وغيرت من طبيعة النظرة الدونية إلي المرأة كما يعترف بذلك المؤرخون للفكر الأدبي في دراساتهم المقارنة.
أما الأمر الثاني فهو انتصار الثقافة الأندلسية للحب في مستوياته المختلفة, وإذا كانت الأسطورة القديمة تعزو غزو العرب للأندلس الي قصة عشق طريفة قامت بين ملك القوط وبنت حاكم سبتة ظنها اغتصابا فانتقم منه, فإن ابناء الأندلس ليسوا ابناءالخطيئة, بل هم خلاصة امتزاج الاعراق والأديان والثقافات, وقد ازدهرت بينهم ثقافة الحب في اوساط العلماء والصوفية, فها هو الفقيه الكبير ابن حزم(456 هــ) يؤلف كتابه الفريد, طوق الحمامة في الالف والالاف, ليصف العلاقات العاطفية في قرطبة عاصمة الخلافة بأقوي ما وصفت به في كل العصور, وهاهو الشيخ المفكر الفيلسوف قطب الاقطاب وذروة الآداب الصوفية محيي الدين بن عربي(560 هــ) يمثل حضارة الحب خير تمثيل في قوله:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
وبيت لأوثان وكعبة طائف
أدين بدين الحب أني توجهت
فمرعي لغزلان ودير لرهبان
وألواح توراة ومصحف قرآن
ركائبه فالحب ديني وإيماني.
وكما كان انبثاق هذا النموذج الحضاري الشاهد علي أرقي ما وصلت إليه الثقافة العربية في خصوبتها وثرائها واعتمادها علي التعددية والتسامح نموذجا للمشاركة الحضارية الخلاقة! فإن اجتثاثه القسري بسياسة المحو والتعصب والتطهير العرقي التي مارستها محاكم التفتيش بعد سقوط غرناطة وغروب شمس الاندلس شاهد آخر علي إحباط هذه المشاركة التي اخرجت الانسان الاندلسي من جنته, ولم تترك له سوي أن يتساءل عن ذنبه بلسان ابن عميرة المخزومي الذي يقول:
ألا ليت شعري هل لها من مطالع
وهل أذنب الأبناء ذنب أبيهم
معاد علي ما كان فيها من السعد
فصاروا إلي الإخراج من جنة الخلد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى