محمد المسعودي - لَعبة التداعي وتشكيل المتخيل السردي في "وليمة الكلام" لحسن إغلان

ماذا نقصد بلَعبة التداعي؟ وما تجلياتها في نصوص "وليمة الكلام"؟ وكيف يوظفها الكاتب لتشكيل متخيله السردي؟ وهل تُسهم هذه الخاصية الفنية في بناء دلالة النص وأبعاده الرمزية؟

مما لا شك فيه أن هذه بعض أسئلة أثارتها قراءتنا لوليمة كلام المبدع والباحث حسن إغلان السردية، وهي وليمة تُغري بأطاييبها، وتَلَون أصنافها، ولهذا تقتضي الاستجابة إلى دعوة المبدع حسن إغلان، والشكرِ العميق له على دعوته الكريمة إلى التمتع بما احتوته هذه الوليمة الباذخة فنا وجمالا، والتي تثير أسئلة كثيرة وإشكالات شتى تتعلق بالمحتوى وبالشكل الفني على السواء، غير أننا آثرنا أن ننظر إلى نصوص هذه المجموعة من زاوية النظر التي حددناها في العنوان أعلاه، وانطلاقا من الأسئلة المتصلة بهذه الزاوية.

إن من يتأمل نصوص "وليمة الكلام" يَلفي لَعبة التداعي مكونا جوهريا في تشكيل المتخيل السردي وبناء العوالم الحكائية في كل نص منها. وعبر هذه الإمكانية الفنية يبني الكاتب نصوصه، ويشكل أحداثها، ويطرز حبكاتها السردية، ويؤثث عوالمها الحكائية المتميزة.

في النص الأول من المجموعة الذي يحمل عنوان "رغبة عاشور" نجد فعل الذاكرة وأثر الاسترجاع عنصران جوهريان في تشكل عوالم النص وإمكاناته السردية. تتداعى على ذاكرة عاشور وذاكرة الراوي مشاهد وذكريات عديدة. ويربط السارد هذه المعطيات السردية عبر الاسترسال الحر والتداعي وتصادي الصور والرؤى حتى ليظن القارئ أنه أمام وقائع لا واصل بينها، غير أن تدبر البناء الفني للنص، وتتبع تفاصيله يكشف أن لَعبة التداعي فيه قائمة على عناصر متصلة محبوكة: إن المدار في هذا التشكيل الفني لا يخرج عن تطلعات عاشور ورغباته وإحباطاته، ولا ينفصل عن أحاسيس شخصية "رغبة" ومشاعرها. وعن رؤى الراوي وتأملاته، وبهذا الجمع بين تداعيات الشخصيات الثلاث نرى أن النص القصصي يعرض حكايته في نسق سردي، بقدر ما يبدو، متشظيا موزعا، بقدر ما تجعل منه لَعبة التداعي نصا محكما وفق منطق جديد لا يخضع بالضرورة إلى الشكل القصصي المعهود. ومن هنا تؤدي اللغة، وتصادي المفردات، وانبثاق الصور الذهنية، والمشاهد الحسية دورا فعالا في تشكل المتخيل القصصي. لنأخذ مقطعا من هذه القصة قصد تجلية مدى تمكن لَعبة التداعي من بناء فنية الكتابة في النص وتشكيل دلالاته. يقول السارد:

"... وأنتِ أيتها النجمة لا مرفأ لك غير قلبي كفلقتي رمان تحدثيني عن شجرة رأس السنة التي لها عشرة غصون، ولك غصنُ لعنةٍ وكل لعنة شهادة وكل شهادة عذاب وكل عذاب في القلب، تدخلين مسافة قلبي. تبصرين بحمرته طفلة كحيلة العينين، تعيدين له نشاطه العادي، وتنقلبين كالزئبق في مدارات الحقد الطبقي، تتنوعين بتنوع الرؤيا تكملين الماء في قلعة لم تفارق دفترها الوحيد المخبأ بين نهديها. تخرجه كما أحمر وخربشات قلم مرسومة عليه، قلبا يكون قمرا مشتتا على أعمدة الأمل الصعب، وأنت ترتبطين به تقرئين دون توقف، ترددين أسماء الأصدقاء الهاربين من ظلمة الليل القاتلة، أخرجك من دائرتك ودائرتك وكتفي، تُسقطين أسوار الانعتاق المجهول حيث عاشور يردد كلماته، والأشجار تبحث عن ظلالها الهاربة مع الريح. والناس المساكين عراة يحملون الهموم في قلوبهم... ينتظرون وصول آخر قطار ليلي، ويغنون: صامدون... صامدون... صامدون.."(وليمة الكلام، ص.10)

هكذا، ونحن نقرأ هذا المقتطف السردي من نص "رغبة عاشور" نلمح مدى تلاعب السارد ببعض الكلمات وتردادها، وتركيبها في سياق صور سردية تتوالد وتتصادى. ومن خلال هذه اللَعبة الفنية تتشكل في ذهن القارئ دلالات، ويمسك برؤى يصنعها متخيل هذا النص. وبهذه الكيفية يدرك المتلقي أنه أمام نص يسرد حالة إحباط عاشور وانكسارِه، ويعرض حلمه بإمكانية تغيير واقع مظلم، وهو يستحضر "رغبة" تلك النجمة التي لا مرفأ لها سوى قلبه المعنَّى. وعبر تداعي الصور والدلالات نرى تطلع عاشور يختلط بتطلعات الناس الذين يحملون مثله عذابهم ومعاناتهم وينتظرون وصول قطار ليلي قد يذهب بهم نحو انبلاج الفجر وتحقيق الأمل الصعب، وهم يصرون على ترداد شعار الصمود والتحدي.

بهذه الشاكلة كان هذا المقطع السردي، على الرغم من توظيفه الرمز والمجاز والاستعارة والتكرار والتنغيم الصوتي وغيرها من الأدوات الفنية التي نجدها في النصوص الشعرية عادة، مقطعا سرديا خالصا يغوص في أعماق الراوي، وفي كنه شخصية عاشور ليجلي لنا رغبة جلية في تحقيق الحرية والأمل المتطلع إليهما. وهما مدارُ هذه القصة ومحورُها، وهي "رغبة عاشور" الحقة، قبل "رغبته" في المرأة "رغبة" وبعدَها.

وبالانتقال إلى نص "مزهرية فارغة" نعثر على أدوات فنية أخرى يتوسل بها السارد ليشكل لَعبة التداعي، ويبني عوالمه المتخيلة. إننا هنا أمام تشكل النص من خلال حوار مضمر بين السارد الذي يحكي بضمير المتكلم وأنثى لم يسمِّها، أو يسمها بوسم مخصوص، ولكن قرائن النص ومعطياته تنبئ القارئ عن استحضار سيدة الحكي بلا منازع في التراث الإنساني: شهرزاد، ومن خلال هذا الاستدعاء تتداعى الصور وتنبني رؤيا السارد لذاته ولما يجري من حوله؛ هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية من خلال المنولوج تتشكل بعض قسمات هذا النص القصصي الفنية، وتتضح أبعاده الدلالية والرمزية؛ ومن جهة ثالثة تُسهم مخاطبة الراوي للشخصية، ومخاطبة الشخصية للراوي في بلورة جوانب أخرى من قلق شخصيات النص وتوترها، وانغماسها في مأدبة الكلام الباذخة التي لا تكاد تنتهي أعاجيبها. وبهذه الشاكلة يجعل النص من الكلام ومن الكتابة محورا جوهريا في عملية السرد. ولعل التداعي القصصي في هذا النص بما تضمنه من إمكانات فنية يبين أن مدار الكتابة السردية في "وليمة الكلام" هي الكتابةُ ذاتُها، باعتبار أنها تجل واضح لرغبات الذات الساردة، وهي تتفاعل مع العالم، ومع الذات ذاتِها. وباعتبار الكتابة أداة فعالة لقتل كوابيس هذه الذات كي تحلم أحلاما مشرقة أكثر، وكي تتحرر من ثقل العالم ووطأة عفنه وظلامه. وقد كان البناء الحواري للنص بتشكلاته الثلاثة المشار إليها أداة فعالة في تحقيق تماسك النص القصصي وتلاحم عناصره، على الرغم مما يبدو عليه من تشظ وتبعثر. وقد اختار الكاتب هذا النمط من الصياغة الفنية ليوصل رؤياه القصصية، ويصورَ ما يقع لشخصياته وما تستبطنه من مشاعر وأحاسيس ورؤى بلغة سردية ملائمة. وكما توسل السارد في نص "رغبة عاشور" بتصادي الكلمات، والصور، والمشاهد، نلفي في نص "مزهرية فارغة" نفس الأدوات الفنية، تنضاف إليها السخرية التي كانت أداة فعالة في تشكيل دلالات هذا النص وصنع فنيته، وقد اقترنت هذه الأداة الفنية بالحوار الداخلي (المنولوج) الذي يعد عنصرا من عناصر بناء لعبة التداعي وتشكل النص القصصي. يقول السارد في مشهد سردي طريف:

" جلست وسرحت في تخيلات أخرى حتى توقفت عند الراوي: هذا النمام الذي يريد نشر ليلتي في كراسته جاعلا مني وليمة للكلام والقراءة والسمع والرؤية. "خنزرت" فيه وقلت ابتعد عني فأنا لا أملك في هذه الليلة إلا ظلالَها. مد لي سيجارة أشعلها برقة وانسحب. وفي انسحابه قال سأدعك أسير كوابيسك وأحلامك حتى تستريح، وقلت: ما شأنك بي؟ أشعل الضوء وانسحب". (وليمة الكلام، ص.61)

هكذا تتحول علاقة الشخصية المحورية في النص بالراوي، وهو مضاعف للشخصية ومرآة لها، إلى علاقة توتر وصدام. ويتبدى في المشهد الحس الساخر، والتهكم الواضح من دور الراوي الذي يُنعت بالنمام الساعي إلى نشر أسرار الشخصية وفضحها، ويكشف هذا الحضور البين للسخرية عن رفض الشخصية وتمردها من جهة، كما يبين طبيعة البناء الفني القائم على لعبة التداعي التي تجعل من هذه الإمكانية أفقا للسرد وتشكيل متخيل النص، من جهة ثانية.

وهذه الخصيصة نلقاها في نصوص أخرى عديدة في هذه الإضمامة الحكائية. غير أننا سنقف عند نص "هنا المرقص والدعوة عامة" لنجلي دور السخرية في تشكيل لَعبة التداعي وبناء المتخيل القصصي. في هذا النص الطريف يجد القارئ نفسه منخرطا في عالم لا يخلو من غرابة وفنتازية تجعله يقبل على ما تصنعه الكلمات، وما تقدمه له "وليمة الكلام" من وجبات خفيفة طريفة سريعة الإيقاع، لكنها من حيث الدلالة عميقة ثقيلة الوقع. يقول السارد في مشهد دال من مشاهد هذا النص القصصي:

".. تركز نظري على المدينة، وأنا أحوم حول فراغها الصاخب إذ بطفلة (..) تحمل شارة فتوتها وإغرائها من بيت قصديري، واضعة جاكيتة جلدية بين دراعيها حاملة "صاكا" صغيرا بني اللون، سألتْها أمُّها كما سمعتُ إلى أين..؟ قالت: للعمل، قالت: أي عمل أيتها الممسوخة.. قالت: المرقص يا أماه بينما الأخ الكبير الملتحي في الجهة الأخرى يقلقل سكونه ويدعو السترة من الرحمان. تابعتُ طريقها إلى طريقِها بلهفة المنجذب، ساعيا للمعرفة، أوقفتُها فقالت: إيه يا شيخ.. قلت: عفوا أنا الآخر ابن البلد، نعم أنا صحفي من مجلة "خربوشة" ابتسمت وقالت: (ودوخة ابتسامتها كادت تقطر ماء الحياة) كيف جيتك؟ قلت: جميلة كالمرقص.. قالت: خذ صورة وانشرها في مجلتكم سأدفع ما دفعته ابنة المعطي أنت تعرف هذا، كل شيء بثمنه.. فأنا مغنية، ولكن الحظ عاكسني فلم أجد إلا باب المرقص.. أخذت صورة كما طلَبَت، ثم دققت النظر في جسدها، وجدته زهرة جميلة تحمل تعبا بدويا خاصا، وهنا رأيت المدينة كرة ثلجية تذوب بين نهديها، لمست النهدين للتيقن مما رأيت، إذ بعينيها الكحيلتين تنزلان على اليد الممدودة على النهدين. أزالت اليد.. وهي تقول: لم نصل بعد إلى هذا، لكن انشر الصورة وسأعطيك.. قلت متجاهلا: ماذا؟ قالت: ألا تعرف؟

فاندفعتْ بقوة إلى الرصيف اللامع، هناك لم أستطع ملاحقتها، واكتفيت بقراءة لافتات الإعلان عن افتتاح المرقص حتى حفظت بعضها مثل:

-المرقص رمز الوحدة العربية

-المرقص رمز النماء

-باستعمالكم أدوات المرقص ستحلمون أكثر

-مرقص ألف ليلة وليلة يهديكم ليلة بالمجان.

خرجت من هذا الفراغ الباذخ وتهت ثانية مع الكرة الثلجية التي ضيعت المدينة.." (وليمة الكلام، ص.19-20)

استشهدنا بهذا المقطع الطويل من القصة قصد الوقوف عند المشهد كاملا، وبغاية تجلية مدى حضور السخرية في النص القصصي ككل، وكيفية انبنائها من خلال لَعبة التداعي، والاسترسال في تشكيل العوالم الحكائية، ويناء المتخيل انطلاقا من هذه الخاصية الفنية. وهكذا لاحظنا خفة وسرعة إيقاع السرد في هذه الصورة السردية، وهي تحكي بسخرية لاذعة تحولات الواقع وتبدلات المجتمع وسقوطه في مستنقع الابتذال والمسخ والزيف والنفاق... وغيرها من السمات السلبية. وهكذا يجد القارئ نفسه أمام نص قصصي يحكي عن أشياء كثيرة في سياق سردي حكائي يحتكم إلى بلاغة التلميح والتكثيف مع توظيف إشارات ترميزية دالة إلى واقع سياسي/اجتماعي عفن، وإلى زيف قيمي وأخلاقي/ديني لا يمكن إغفاله، عبر لَعبة التداعي، وعن طريق سخرية شفيفة، وتهكم لاذع.

ولا يخفى التوظيف الذكي للحوار بين الصحفي/الراوي والفتاة البدوية/ المدينية التي عاكسها الحظ، ولم تجد سوى الرقص سبيلا للعيش. وبهذا التضافر بين الحوار والسرد في سياق تداع مسترسل تتشكل قسمات النص وعوالمه الحكائية الطريفة، وعن طريق هذه الإمكانات جميعا تنبني السخرية في بعدها السردي الذي يكشف علل المجتمع واضطرابه.

انطلاقا من كل ما سبق نؤكد أن نصوص "وليمة الكلام" كانت فعلا وليمة فنية باذخة بإمكاناتها الأسلوبية والبلاغية، وبأبعادها الدلالية والرمزية التي وظفها حسن إغلان بحرفية إبداعية لا يصيبها شك من قريب أو بعيد. وقد تمثلت هذه الحرفية الإبداعية العالية في تمكنه من توظيف لَعبة التداعي وجعلها أساس تشكيل نصوصه فنيا ودلاليا، وفي جعل الأدوات الفنية الأخرى التي يستعملها في كتابته السردية عناصر فعالة ضمن هذه اللَعبة الإبداعية المتقنة.



٭-حسن إغلان، وليمة الكلام، JMK Print، الدار البيضاء، 2000.

٭- شاركت بهذه القراءة في ملتقى الصويرة للقصة القصيرة الذي نظمته جمعية التواصل والثقافة، أيام 14-15-16 دجنبر 2018.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى