بنسالم حميش - امرأة الحكايات

انطلقت العبارة في رحلتها، فيممت مكانا منعزلا جلست فيه أقدر النوء تارة، وأخرى استرق النظر إلى وجوه الناس من حولي.
كانت أمارات التعب والكدر تطبع معظمها، وقلة قليلة من الركاب يتضاحكون، إما من شدة الهم أو تزجية للوقت.
بين الفينة والأخرى، وأنا على مقعد خلفي، كان يمر بي متسول بمبخرته وأدعيته وآخر بابتهالاته فأتصدق بما أستطيع.
قبيل انتهاء العبور، جلست الى جنبي امرأة في متوسط العمر، وأخذت ترضع وليدها وثديها مكشوف.
على يميني لفت سمعي شخير رجل عليه سمات التاجر، يغط في نوم ثقيل.
أغمضت عيني عساني أجد شأنا جوانيا يلهيني عن الثدي والشخير معا، إلا أن المرأة المرضعة فاجأتني بطلبها أن أسمع قصتها ثم أسدي لها النصيحة، قالت: - المصائب، يا سيدي، تعرمت علي والهموم هدتني.
أشكو لك بعد الله رجلا من طريقة، سلطته علي الأقدار، طلقني ثلاثا ثم زوجني رجلا آخر حتى أحل له ويرجعني، غير أن شكوكه في عاودته أكثر من ذي قبل.
أقول له هات الدليل على اتهامك لي بالزنا، لكن لا دليل إلا ما يرى عن ذلك في المنام، وتؤكده له عرافة مبتزة يتستر عن اسمها. ولما تنصر وأنكر نسب هذا الوليد إليه، طلبت فكاكي منه، فقبل شريطة أن أعبر البحر بلا رجعة.
وهآنذا، كما يراني سيدي، معدمة لا أجد ما به أسد رمقي وأكفل حاجات رضيعي.


سحبت من شكارتي قدرا من المال سلمته لها مصحوبا بكلمات طيبة مؤازرة، فاندهشت لسخائي وابتهجت.
وكان أعجب ما حدث، والعبارة ترسو بنا، أن شهدت جاري يقطع شخيره وينتفض واقفا ويصيح بالمرأة منددا:
- هذه الفاجرة، يا مولاي، تذهب وتجيء مع العابرين، وفي كل مرة تستدر عطفهم بعرض نهدها ووليدها واختلاف حكايات كثيرة، كلها والله كاذبة موهومة! أخذت الرجل من ذراعه إلى ركن مهدئا روعه، قلت:
- يا عبد الله.
قاطعني مدهوشا: - وكيف عرفت اسمي؟ - نحن جميعا عباد الله.
- صح.
إه! منذ أسبوعين حكت لي هذه النصابة قصة، فتصدقت عليها كما فعلت.
وفي موفى الأسبوع المنصرم أسمعتني قصة أخرى أنستني الأولى، مفادها أن بعلها طريح الفراش جراء إصابة تلقاها في معركة ضد القشتاليين، وأنه أوصاها بجمع قدر من مال المسلمين يمكنهما ووليدهما من الهروب بإسلامهما إلى سبتة.
وفي هذه المرة كان علي أن أنهر المفترية على مرآى ومسمع جمهور الراكبين.
كانت المرأة قد انسلت كالشعرة من العجين، واختفت تماما في زحمة النازلين.
التفت الي الرجل وقلت:
- بئس ما فعلت يا هذا! لو أنبأتني بقولك في المتسولة المسكينة وقت كانت بيننا، والله لضاعفت لها الأجر وزدت.
تلك الأمة تخرج على الناس والفقر شاهرة سيفها، وسيفها خيالها، وخيالها عدتها الوحيدة ومصدر رزقها، كما الحال عند الشعراء والقصاص وكتاب المقامات والأزجال، سمعت منها حكاية، ولو روت لي الكثير غيرها لتصدقت عليها أكثر، لا يهمني إن صدقت أم ابتدعت، وربنا واسع الجزاء والمغفرة.
سألني الرجل مغالبا استياءه وعجبه:
- لا أظنك، يا عبد الله، من أهل التجارة أو السياسة، ولا قاصدا سبتة للإقامة.
- ظنك الأول صائب، يا أخي، وظنك الثاني قد يصدق أو يخطئ بحسب الأحوال والأقدار.
تردد الرجل لحظة وقال قبل أن يودعني على عجل:
- السبتيون، يا ولي الله، إما تجار السلع مثلي، وإما تجار السياسة، والبقية من خاصتهم فقهاء يستبدون بمذهب مالك ويتاجرون.
ألم يأتك خبر هروب الشريف الإدريسي وحتى الفقيه القاضي عياض من مدينتهما هاته! أما إن كنت من أهل الخرقة والطريقة، فبقاؤك في المدينة، ولو تيسر، لن يدوم.
وانظر في حالة ولي الله أي العباس السبتي وفراره إلى مراكش لاجئا، أنظر لعلك تفهم وتعتبر.

لما ركبت فرسي متفقدا حملي، سرحت النظر من حوالي، فإذا بي أرى عن بعد امرأة الحكايات تستقل عبارة على أهبة مخرج عباب البحر نحو الجزيرة الخضراء.
قصدت خلاء قريبا فجلست إلى جذع شجرة أنظر في أمري ومبتدى وجهتي. لكن غفوة قاهرة أخذتني فأرتني العبارة تتقاذفها الأمواج تحت سماء مرعدة ممطرة، وامرأة الحكايات بين الركاب تقص أهوال البحر ونوائبه، وبعض الرجال يحاولون عبثا إسكاتها، ورأيت التاجر السبتي يرفعها ورضعيها بيديه ويرمي بهما الى الأمواج العاتية.
وما هي إلا لحظات وجيزة حتى مزقت الرياح أشرعة المركب وأفقدته توازنه وقلبته رأسا على عقب، فتساقط الجميع في المياه مذعورين مستغيثين، وأنا منهم.
حاولت المساعدة ثم النجاة بالعوم فما قدرت.
ولما عاينت الموت محدقا بي أسلمت زمامي لله وأخذت أغرق.
أغرق.
أغرق.
انا و الست امامة عش رجبا تر عجبا! في إقامتي المكية ـ وقد بلغت حولها الثالث ـ هل ثمة أعجب من أمر امرأة مصرية مجاورة استعجل ناظر رباط الموفق قدومي إلى بيت سكنها، كيما أنقذها من وهن وضيق في التنفس يتهددان حياتها؟ كانت على المريضة لما عاينتها، وهي طريحة الفراش أمارات مقلقة من نحول وشحوب وسقم، وصدرها المتهدج ينفث عبر فمها الكالح زفرات وحشرجات ما أدناها إلى كسرات الموت! أمرت الناظر بإحضار ماعون وماء وأعشاب وما أن غاب حتى فتحت عينيها الفاترتين وطفقت تنعت فمي وفمها وتشير بما يفيد احتياجها لأنفاسي.
بعد تردد أنجزت لها غرضها وتوقفت إثر عودة الناظر بما طلبت.
أعددت دواء أعلم تركيبه وطبخته في ماء فائر، ثم جرعتها إياه بتلطف وتؤدة بعيد لحظات تأهبت للذهاب فرأيت المرأة تستوي جالسة وتوجه إلي نظرات باسمة رقيقة وتقول إنها جائعة.
صاح الناظر فرحا طروبا كرامة والله كرامة! وخرج.
ظللت جالسا جنبها لا كلام بيننا إلا بلغة العيون حتى إذا عاد الرجل بطبق الأكل انصرفت تشيعني تكبيراته ونظرات المتماثلة للشفاء.
وجه العجب العجاب ليس في ما ذكرت بل في ما أسرت به إلي حين عدتها ثانية للاطمئنان عليها، كما طلبت بدا لي وجهها مشرقا وحالها وحسنها على ما يرام في جنينة ظليلة جالستها والناظر نشط بين غدو وراح يرحب ويسهل، قالت بصوت خافت محتشم:
- أنا هنا يا سيدي اعيش في جوار مكة منذ سنة ويزيد، لا ولي لي لو نصير إلا الله، أهلي في مصر منهم من قضى نحبه كوالدي وبعلي ومنهم من ينتظر، وقعت عيني عليك في عمرتك الأولى وكنت ممن لمسن يدك وقبلنها ثم في عمرتك الثانية، وكان لي شرف الانفراد باللمس والتقبيل، وفي هذه وتلك، وأنت تطوف، كم أعجبتني طلعتك وغمرتني هيبتك! ولا بأس ولا حرج فقد جاء في الأثر أن إسوة المسلمات والمسلمين وسيد الخلق والمرسلين قال: بينما أنا أطوف بالبيت إذ رأيت امرأة أعبجني دلها ثم إني شهدت بأم عيني كرامتك في إنقاذ البنت الأعجمية وإنعاشها بأنفاسك الزكية وتيسير منه تعالى.

سكتت المرأة لحظة كأنها تستعد لإلقاء قول جسيم علي وسكت مثلها متحيرا فيما أواجه به كلامها العجيب المذهل.
وما أضافته زاد في حيرتي وذهولي، قالت وعيناها مغمضتان ووجنتاها تحت خمارها الشفيف تمحران: إني أحبك في الله يا سيدي، كل ما أبغي منك أن تؤنسني في وحدتي متى تشاء، وترشدني إلى سلوك الصوفية الأبرار الأصفياء، مناي وعزتي في أن تقبلني مريدة خفيفة الظل مطيعة.
تظاهرت بالمرض حتى أصل إليك، فأبلغك شوقي ونجواي، أيعصى الله من بوليه يتقرب إليه؟ ربي إن كنت أتيت أمرا إذا فأنت واسع الفهم والمغفرة هذا هذا، وأنت فيه القصد والحكم، فأسمعني ما ترى أو فكر فيه ثم عد إلي به على أية وجه ترضاه.
بماذا أجيب هذه المرأة وذهني يطن من شدة التعجب والدهشة؟ قلت متلعثما: علي، يا أمة الله بالتفكير مليا في ما تدعينني إليه إن تأخرت بالإجابة، فلعلة عائقة لن يزيلها إلا الله وحده.
استأذنتها في الذهاب، فألقيت عليها السلام ومضيت.
مرت على ذلك الحدث المحير العجيب ما يقرب من ثلاثة أشهر خلالها خالطت ما قل من الناس وناظرت، كما أتيت عمرتي الثالثة، وأنا في الطواف بالكعبة الشريفة والسعي بين الصفا والمروة اخلو إلى الواحد الأحد، وأقيس طاقة كدحي وانجذابي إلى أنواره في وحدة الوجود المطلقة، ثم إني رعيت حقوق الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان تارة في بيتي وتارة في غار حراء الأبرك.
صبيحة عيد الفطر زكيت وقاسمت بعض نزلاء الدار فرحهم واحتفالهم، وفي عشية يومه الثاني زارتني السيدة المصرية فاستقبلتها في الحديقة وثالثنا غيلان الذي تفانى في إمدادنا بالألبان والحلوى.
كانت الجلسة قصيرة تبادلنا فيها اسمينا وكلمات التهنئة بالعيد، وأخرى حول الصحة والأحوال طبعتها بالصدق والدفء حتى لا تستشعر مني جفاء أو صدودا، حين قامت تودعني همست لي بصوت شجي رزين بيتي تعرفه يا سيدي عبد الحق.
بيت هذه الغادة النجلاء الحاملة لاسم أمي أمامة، نعم أعرفه لكن كيف أغشاه من دون أن أجلب الشبهات والأحدوثة إلي؟ جميل أن تحبني هذه المرأة في الله وأبادلها الحب نفسه! جميل أن أتأسى ببيت امرى القيس أجارتنا إنا غريبان ها هنا وكل غريب للغريب نسيب! لكن ما العمل لو تحول هذا المدخل إلى ما لا أستطيعه أو تسوء عقباه، كما كان أمرى مع ميمونة مطلقة أخي الأكبر ومع أخريات لا أذكرهن؟ سؤال وعر كنت فاوضت فيه طيف فيحاء منذ لقائي الأول بتلكم الغريبة، فما صدرت عنها وقتذاك سوى إشارات تنصح بالحيطة والحذر، أما اليوم لما استفتيت طيفها مجددا فقد اتشحت بوشاح الصمت المطبق والحياد المبرم.
استشكلت موقفها هذا ثم استحسنت تأويله على أنه يخيرني في أمري ويجعل لي عليه سلطانا وحكما.
هكذا إذن! لكني ملتزم بأمر لو تحللت منه كان همي ودواري: أمر الزواج بالواحدة التي لا شريك لها، فيحاء حياتي وعطر طور التوحيد الذي أنا مقيم ومتحرك فيه.
فاللهم يا رب احلل عقدتي وبدد حيرتي وتبثني على ما تريده وترضاه.
رددت دعائي هذا تحت الميزاب المكرم وفي أي مقام مقدس تقصدت، وفي صلواتي وتراويحي ونوافيلي وعند قيامي وقعودي وعلى أي جنب تقلبت.
لكنما الأيام وحتى الشهور علي ولا إجابة أو بعضها ولا نور أو بصيص نور والحمد لله على ما قرر وقدر.
آه من تدافع الأيام والفصول، ومن وقعها على النفس، حين لا تأتي بالخبر اليقين عن الوطن والأحبة! ربت إقامتي المكية على حولها الخامس، ولا شيء عن تلامذتي بغرناطة ولا عن أهلي في سبتة أو طنجة.
أما العزاء فكان لي في رسالة من الششتري تنبئتي باستقراره في بجاية طلبا للشفاء من وعكاته الصحية، كما بقرب التحاقه بي في مكة المكرمة وفي طي الرسالة قصيدة منه مطلعها أرى طالبا منا الزيادة لا الحسنى / بفكر رمى سهما فعدى به عدنا ومنها أبيات في تقريظي أدعو الله تعالى أن أكون عند حسن ظن قائلها، ولو بمقدار كذلك لا أخفي أن بعض السلوان كان مصدره جلسات دأبت على عقدها مرة في الأسبوع لبعض الطلبة في سطح الدار عند المقيل وكان الملح علي في سنها والداعي إليه الناظر ياسر اليمني، الذي لم يكن يذخر جهدا في تنظيمها والسهر على توفير شروط إجرائها ونجحها ومن المواطنين على الحضور كانت تلكم المرأة الغريبة التي بت أخاطبها باسم الست أمامة.
مقابلاتي لهذه الست من جنينة الدار على هامش الدروس كنت أحرص على جعلها تحت رعاية أو قل حراسة الناظر، تجنبا لأي شبهة، ولأني أخاف الله وأعوذ به من وسوسات شيطان الغواية والفلتان الشهواني.
الكلام بيني وبينها كان ذا شجون خفيفا لطيفا لا كلفة فيه ولا غموض تسأني في الشرع فأفقهها فيه، تستفسرني عن بعض القواعد الصوفية أو عن وليات زاهدات فأجيب، تستخبرني عن أهلي فأقص عليها لماما حبي لزوجتي وتعلقي بها وتأخذ هي في الدعاء لي ولها بالصحة وطول العمر وجمع الشمل، وقد تأتيني أحيانا تستعير مني كتابا أو تهديني قدر عسل النارجيل مخلوط بالافاويه أو حلوى من صنعها يتقدمها الخشتي ولقيمات القاضي.
جفت أقلامي وانطوت صحفي، بهذا كنت انبأتك من قبل، لكني في مقامي هذا ووقتي هذا على ألواح جوانية أصلها في وجداني وفرعها في ذهني، صرت أكتب بقلم رق ودق وشف حتى غدا لا مرئيا مداده الدافق كأني به مستمد من البحر الأحمر قبالتي أو من معين جوفي مكين.
ما أخطه فيض غامر لا أذكر منه حين أنزل إلى مكمني سوى عناوين بعضها يرصد تحولاتي بين نير الزمن المتدافع وتوقي إلى أنوار الحق المبين، وبعضها يرفع أعلام صمودي وصعودي خفاقة أبية.
تلك كانت سيرتي ذات الشعار المتوهج المنهض: منافق خؤون من ينصح بالتزام السعي والترقي ولا يتقلده العلم للعلو علامة والحب في رحاله سماد الحي وركب السلام: هكذا تكلمت وعلمت فلا رجوع عنه البتة ولو تجاسرت علي النوائب والبلايا وتكالبت وما توفيقي إلا بالله إليه أكدح وأنيب وبه آنس وأستعين.

1/14/2007

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى